Logo
طباعة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الأزهر الشريف بينَ الأمس واليوم

 

يظنُّ كثيرٌ من المسلمينَ وخصوصاً المسلمونَ الذينَ يعيشونَ في شرقِ وجنوبِ شرقِ آسيا، أنَّ جامعةَ الأزهر القائمةِ الآن في مصر هي نفسها جامعُ الأزهرِ الشريف، وهذا الظنَّ لا شكَّ أنَّه خاطئ، فجامعُ الأزهر تم تحويلهُ إلى جامعةٍ حديثةٍ تضمُ مختلفَ الكلياتِ العلمية، ويتمُ تدريس العلومِ الشرعيةِ في إحدى هذه الكليات، فليس صحيحاً أنَّ جامعة الأزهر في العصرِ الحديث متخصصةٌ في تدريسِ العلوم الشرعيةِ، بل هيَ جامعة كباقي الجامعات القائمةِ في العالمِ الإسلاميّ التي فيها كلية "للشريعةِ وعلومِ الدين" كما يسمونها، فقد بدأَ تحويل الجامع "الأزهر الشريف" إلى جامعةٍ منذُ بدأ الاستعمار يغزو بلاد المسلمين وسيطرَ عليها، ومنها احتلال مصر وتنصيب حكامٍ عملاء له، جُلَّ عملهم إعلانُ الحربِ على الإسلامِ والمسلمين، فمع نهايةِ القرنِ التاسع عشر وبدايةِ القرنِ العشرين شهدَ جامع الأزهرِ بدايةَ تحول، كان الغرضُ منه تحويل "الأزهر الشريف" إلى مؤسسةٍ ذات كيانٍ تعليميّ يأخذُ بالنظمِ الحديثةِ، وتزعّم عدد من العلماء هذا الإصلاح، تقدمهم محمد عبده تلميذُ جمالِ الدينِ الافغانيّ، الذي كانَ عضوا في المحفل الماسوني، حيث شُكّل أولُ مجلسِ إدارة لهذهِ المؤسسةِ في السادسِ من رجب سنة 1312 هجريّة، تلاهُ صدورُ القانونِ رقم 10 لسنة 1911، والذي نَظَّم الدراسة وجعلها مراحل، واستمرارا لتحولِ هذهِ المؤسسةِ صدرَ القانون رقم 49 لسنة 1930، والذي أُنشئت بمقتضاهُ الكلياتُ الأزهرية الثلاث، وهي كليات: أصولِ الدين، والشريعة، واللغة العربية، ونصَّ القانون على إمكانيةِ التوسع في إقامةِ كلياتٍ أخرى، فأُدخلت العلوم غير الشرعية بالمعاهدِ الأزهرية، مثل: الرياضيات، والعلوم، والدراسات الاجتماعية، ثم تلاهُ القانون رقم 26 لسنة 1936، حيث استحدثت مرحلة رابعة وهي الدراساتُ العليا تماما كباقي الجامعاتِ الحديثة التي تمنح الشهاداتِ الأكاديمية بمراحلها الثلاث، ومرَّ هذا التحول بقانونٍ سميَ قانون التطوير، وصدرَ في الخامسِ من تموز/يوليو لسنة 1961 تحت رقم 103 بشأنِ إعادةِ تنظيمِ الأزهر.. وبمقتضى هذا القانون تحول "الأزهر الشريف" بشكلٍ كلي من جامعٍ أو جامعةٍ إسلاميةٍ إلى جامعةٍ علميةٍ تضمُ عدداً من الكلياتِ العلميةِ لأولِ مرةٍ مثلَ كليات: التجارة والطب والهندسة والزراعة، وكذلكَ فقد فتحت أبوابُ الدراسةِ بالجامعةِ كلية للبنات ضمت عندَ قيامها شُعبا لدراسةِ الطبِ والتجارة والعلوم والدراسات العربية والإسلامية والدراساتِ الإنسانية.

 

أما نشأةُ "الازهرِ الشريف" والقرون التي مرَّ فيها من العطاءِ وفي تخريجِ الفقهاءِ والعلماءِ، فقد كان الغرضُ من إنشائهِ في بدايةِ الأمرِ الدعوة إلى المذهبِ الشيعيّ، ثم لم يلبث أن أصبحَ جامعةً لتعليمِ الإسلامِ كلهِ بمذاهبهِ المختلفة، وقد أقيمت الدراسة فعلياً بالجامع الأزهر في أواخرِ عهدِ المعزِّ لدينِ اللهِ الفاطمي، عندما جلسَ قاضي القضاة أبو الحسن بن النعمانِ المغربيّ سنة 365هـ في أولِ حلقةٍ علميةٍ تعليميةٍ، ثم توالت حلقاتُ العلمِ بعدَ ذلك، وسميَ بالجامعِ الأزهر نسبةً إلى السيدة فاطمة الزهراء رضيَ الله عنها والتي ينتسبُ إليها الفاطميون، وكانَ من أشهرِ العلماءِ الذين ارتبطت أسماؤهم بالأزهرِ الشريف: ابن خلدون، وابن حجر العسقلاني، والسخاوي، وابن تغري بردي، وموسى بن ميمون والحسنُ بن الهيثم ومحمد بن يونس المصري، والقلقشندي.

 

لقد تغيرت رسالةُ الأزهرِ من تخريجِ علماء حقيقيين، إلى تخريجِ علماء هم أقربُ إلى رجالِ الدين من العلماء المتفقهين بدينهم والعاملينَ لرفعته، فلم ينطبق عليهم قول رسول الله  e «وَإِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ». وقد وردَ على صفحةِ الأزهر في التعريفِ برسالةِ الأزهر التالي "...وفي العصرِ الحديثِ ومع النهضة التي بدأها محمد علي، لم يكن هناكَ إلا طلابُ وخريجو هذهِ الجامعةِ ليكونوا نواةً للمعاهدِ التعليميةِ المختلفةِ، والتي أنشأت لتكونَ تعليماً على النمطِ الأوروبيّ الحديث، كما كانوا نواةَ البعثاتِ التعليميةِ لأوروبا لنقلِ المعارف الحديثة... وقد توسعت نظمُ التعليمِ في الجامعةِ ولم تقف عندَ حدودِ المكانِ والزمان، وانتقلت إلى الوجهةِ الحديثةِ والعصريةِ، ولم تعد رسالتها قاصرةً على الوعظِ والإرشادِ والتعليم، بل انتقلت إلى آفاق أبعد لتكونَ لها الريادة في البحثِ العلميِّ وفي خدمةِ الأمةِ الإسلاميةِ والدفاعِ عن قضاياها، ونشرِ الإسلامِ الوسطيّ في مواجهةِ تياراتِ التشددِ والتطرفِ في شتى أنحاءِ العالم." وهكذا أصبحت رسالةُ الأزهر تنسجم مع التوجهِ العالميِّ في الحربِ على الإسلام، وتنسجم مع سياساتِ الأنظمةِ العلمانيةِ القائمةِ في العالم الإسلامي التي تحاربُ الإسلامَ والعاملينَ له باسم الحرب على (الإرهابِ) ومكافحةِ (التطرف).

 

أما طريقةُ التعليمِ فقد تغيرت هي أيضاً، فبعد أن كانت طريقة التلقي الفكري الصحيحةِ في التدريسِ، والتي من خلالها تخرجُ المفكرينَ والمجتهدينَ، حيث تكون الدراسة من أجل العمل بما يعلم، تغيرت هذهِ الطريقةُ إلى الطريقةِ الاكاديميةِ التي تعتمد على تدريسِ المنهاجِ وحفظهِ من أجلِ اجتيازِ الامتحانات، وقد وردَ على صفحةِ الأزهرِ نفسها "كانت حلقاتُ التدريسِ هي طريقة وأساس الدراسةِ بالأزهر، حيث يجلسُ الأستاذُ ليقرأَ درسهُ أمامَ تلاميذهِ والمستمعينَ إليهِ الذين يتحلّقون حولهُ، كذلكَ يجلس الفقهاء في المكانِ المخصصِ لهم من أروقتهِ، ولا يتم الاعترافُ بالأستاذِ ليتولى التدريسَ إلا بعدَ أن يجيزه أساتذته طبقا لنظامِ اختبارٍ كلهُ شفهي في أحد عشرَ علما، ويصدر له رسم تصدير بالإقراء من الخليفة".

 

أما منهاجُ الأزهر الذي كان يُخرجُ الفقهاء فقد تغير هو أيضا حتى أصبحَ يُخرج أئمةَ مساجد، جُلَّ عملهم إمامةُ النَّاسِ في الصلاةِ وتجويد للقرآنِ في المناسبات، على الرغمِ من جوازِ إمامةِ الصبيِّ في الصلاة! لا يفقهونَ من الإسلام إلا ما كانَ يفقههُ طلابُ المدارسِ في المراحلِ الابتدائيةِ، فاقتصرَ تعليمهم للفقهِ وعلومهِ على أحكامِ الطهارةِ والصلاةِ وشيء من تنظيمِ العلاقةِ الزوجيةِ وأحكامِ الميراث، ولا يتمُ تدريس نظامِ الإسلامِ بشموليتهِ، من نظامِ حكمٍ ونظامٍ اقتصاديٍ ونظامِ عقوباتٍ ونظامٍ اجتماعيٍ...الخ، بل وزادَ الأمرَ سوءاً حينَ لجأَ الأزهرُ إلى "تحديثِ" مناهجِ التعليم حتى تتناسب مع ما يرتضيهِ الغرب، من دين لا دخلَ لهُ في الحياةِ، ومن دين لا تتعارضُ أحكامهُ مع أحكامِ النظامِ الرأسماليِّ، فلجأَ الأزهر إلى تعليم إسلامٍ على المقاسِ الغربيِّ "معاصر"، وهذا يؤكدهُ الذي وردَ على صفحةِ الأزهر "... وفي كلياتِ الشريعةِ، يُدرسُ الطلابُ منهجاً جديداً هو: "القضايا المعاصرة" الذي يتناولُ كل القضايا المستجدة، والرسائل العلمية التي تُسجل في الجامعةِ تتناول هذه القضايا.. هكذا نشأنا في الأزهر على أن الفقهَ يكتبُ في كل زمن، ولا بدَّ أن يكتب في كل زمنٍ فقه يلائمه، كما تؤمن الجامعة أنَّ النصوصَ محدودة، والوقائع غير محدودة، أي لا بدَّ أن تستوعب النصوص كل الوقائع وكل المستجدات".

 

إنَّ تغيير سياسة التعليمِ وغايتها ومناهج التعليم وطريقةِ الدرس تمخضَ عنه كوارث بحق "الأزهر الشريف" من أبرزها أفول نجم الأزهر كمنارة علم يقودُ الأمةَ بالإسلامِ ويحملُ الإسلامَ رسالةً عالميةً، إلى مؤسسةٍ أكاديميةٍ تبررُ للغربِ وعملائهِ أعمالهم التي يحاربونَ بها الإسلامَ والمسلمين، ومن أبرز فتاوى الأزهر التي تؤكد أنَّه مؤسسة أصبحت بيدِ الحكامِ الخونةِ فتواه المشهورة بحلِ إبرامِ اتفاقية سلام "كامب ديفيد" التي أبرمها الرئيسُ المصري أنور السادات مع كيان يهود المحتلِ للأرضِ المباركةِ فلسطين، وفتواهُ التي تبيحُ البنوكَ والتعاملِ بالربا وحرمةِ الخروجِ على الحكامِ الذين يحكمونَ بغير ما أنزلَ الله، وإصدار فتوى ضدَّ الجماعاتِ الإسلامية التي تعملُ للإطاحةِ بهؤلاءِ الحكامِ العملاء، وإصدار فتوى تجيز انضمام النظام المصري إلى الحملة الصليبية التي قادتها أمريكا لاحتلال العراق، وانخراط الأزهر في حملةِ حوارِ الأديانِ الذي يُقصدُ منه مساواةُ الإسلامِ بالدياناتِ المحرفةِ الأخرى من يهوديةٍ ونصرانيةٍ، وآخر بدعه مطالبة شيخِ الأزهر أحمد الطيب من الحاكمِ العسكري في مصر "السيسي" قتلَ كل من يخالفه، وادعاء آخر بأن السيسي نبيُ هذا العصرِ والعياذُ بالله، وفتاوى كثيرة أثارت الجدلَ بين أوساطِ العلماءِ والمتعلمين، ولو كان الأزهر يعي معنى قوله تعالى ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ لما تجرأ على مخالفة الأحكام الشرعية القطعية والمعلومة من الدين بالضرورة!

 

إنَّ للمؤسساتِ العلميةِ شأناً عظيماً في الإسلام، فهي الوسيلةُ الوحيدةُ التي يتم بناء الشخصيات الإسلامية ورجال الدولةِ وحملةِ الدعوةِ للعالم فيها، والذين يتخرجون منها هم من يقودون الأمة القيادة الفكرية الصحيحة، فهو واجبهم في المقام الأول وهم القادة الحقيقيون للأمة التي عماد نهضتها الفكر الشرعي، وهم خير من يعلم بأحكام الشرع وعلومه ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ لذلكَ وجبَ الاعتناءُ بهذهِ المؤسساتِ من الدولةِ التي تحكمُ بالإسلام، وعلى النقيضِ من ذلك، فإن الدولَ التي لا تحكمُ بالإسلام، وهي جل الدول القائمة في العالم الإسلامي، فهي تستخدمُ المؤسساتِ التعليمية للتغريبِ ونشرِ الفكرِ العلمانيِّ ويتم استخدام علماء السلاطين والمؤسسات التي تلبس عباءةَ الدين، يتم استخدامهم للتبرير للحاكمِ شرورَ أعمالهِ والتلبيس على الناسِ شئون دينهم، بانسجامٍ تام مع مشروعِ أمريكا جورج بوش "شرق أوسط كبير" الذي نصَّ على ضرورةِ علمنةِ العالم الإسلامي والبدء بإفسادِ المسجد والمدرسةِ، وهكذا كان، فقد أصبحت مراقبةُ المساجد وما يقالُ فيها دائماً ويتم إلزامها بخطب مركزية ترسلها الحكومات العميلة والتي جلُّ همها الحربُ على الإسلامِ والمسلمين، وإبعادِ المسلمينَ عن دينهم وتجهيلهم فيه، أما المدارس والجامعات، فقد أصبحت فارغةً من مناهجِ التعليمِ التي تخرج العلماء والمبدعين والمفكرين، فمناهجها عقيمة، وأصبحت سياساتُ التعليمِ تقومُ على تخريجِ أجيالٍ فاشلةٍ لا تفلح في دنيا أو دين، إضافةً إلى تحويلِ الجامعاتِ والمدارس إلى ما يشبهُ النوادي الرياضيةِ أو الليليةِ التي يختلط فيها الشباب مع الفتيات بشكل فاضح.

 

إنَّ طريقةَ إنقاذِ الأزهر الشريف لا تكون إلا عبرَ رفعِ أيدي المتسلطين عليهِ من حكام رويبضات وعلماءِ سلاطين، وبإرجاعهِ إلى ما كان عليه، من خلالِ الاعتناءِ بمناهجِ التعليمِ فيه التي تنتج الفقهاء والمجتهدين، وبتعيين علماء أكفاء لا يخافونَ في اللهِ لومةَ لائمٍ وبرصدِ ميزانية كافية له ليتمكنَ من تعليمِ الطلابِ الملتحقينَ فيه بالمجان ومن دونِ أقساطٍ ونفقاتٍ باهظة كما هو حاصل الآن، وهذا لا يتصور أن يحصل إلا بعدَ إقامةِ الدولة الإسلاميةِ التي تحكم بالإسلامِ وتكونُ سياستها تخريج العلماءِ والفقهاءِ الذين يفقِّهون النَّاس شئونَ دينهم حتى تصقل المجتمعَ بالإسلام، وتقوم سياستها الخارجيةِ على سياسةِ حملِ الإسلامِ رسالةً للعالمِ أجمع تحتاجُ للعلماءِ من أجل تحقيقِ تلك الغاية، فإلى ذلك فليتنافسِ المتنافسون، قال الإمام الغزالي رحمه الله: "الدين والسلطان توأمان، ولهذا قيل الدين أس والسلطان حارس، فما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع".

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

بلال المهاجر – ولاية باكستان

 

Template Design © Joomla Templates | GavickPro. All rights reserved.