Logo
طباعة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الطّريق إلى أعلى مراتب الإيمان: "أن نعبد الله كأنّنا نراه"

 

لقد أنعم الله على عباده بنعم كثيرة لا تحصى ولا تعدّ وأعظمها نعمة الإسلام التي كرّم بها أمّة نبيّه الحبيب محمّد ﷺ والتي أنزلها عليه لينشرها في العالمين هدى ورحمة. فأدّى عليه الصّلاة والسّلام الأمانة وترك أمّته خير أمّة تقود النّاس إلى الخير وتنشر فيهم الرّحمة، ولكنّ حالها تغيّر وصارت في ذيل الأمم مسلوبة أراضيها منهوبة ثرواتها منتهكة أعراضها بعد أن هدمت دولة الخلافة التي كانت تحميها وتذود عنها ضدّ الأعداء.

 

مرّ على هدم هذا الحصن قرن من الزّمن، مرّ على إقصاء الإسلام عن حياة المسلمين مائة عام. مائة عام والمسلمون يحيون "ميّتين"، فما دعاهم رسولهم إليه قد ألغي من حياتهم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ وفرضت عليهم قوانين وضعيّة سيّرت حياتهم وفق النّظام العالميّ الرّأسماليّ الذي حلّ مكان النّظام الإسلامي وأقصاه. وهل يهنأ المسلمون بعيش أُقصي فيه دينهم وتعطّلت أحكامه؟!

 

لقد عمل النّظام الرّأسماليّ على أن يبعد المسلمين عن ربّهم، يعبدونه في أماكن ومناسبات ولا يتقرّبون إليه إلّا في بعض الأحكام. تمكّن بمفاهيمه الفاسدة القائمة على المصلحة والمنفعة أن يشكّل عبادتهم على النّحو الذي يريده هو ووفق ما تنصّ عليه حضارته الغربيّة: فصل الدّين عن الحياة، فصارت عبادة المسلمين لربّهم مقتصرة على صلاة وصيام وحجّ وصاروا يعيشون بأحكام غير أحكامه تسيّر حياتهم السّياسيّة والاقتصاديّة وحتّى الاجتماعيّة وامتثلوا لأوامر هذا النّظام الرّأسماليّ.

 

فعلاوة على ما صارت عليه العلاقات من روابط تقوم على مدى ما ستجلب من فائدة ومنفعة فإنّ المسلم حين غُيِّب عنه مقياس شرعه "الحلال والحرام" صار يعبد الله دون أن يستحضره في حياته ودون أن يعود لحلول يستنبطها من شرعه ليحلّ ما يعترضه من مشاكل بل صار لا يرى إلاّ ما وضعه النّظام الرّأسماليّ من قوانين والذي نصّب نفسه النّظام الوحيد القادر على تسيير الحياة وعلى العالم بأسره والمسلمين أيضا أن يسيروا معه ووفق ما تنصّ عليه مفاهيم حضارته حتّى يلحقوا بالرّكب وإلّا فإنّهم عاجزون - لا محالة - عن حلّ ما هم عليه من تخلّف، فروّج لذلك ووظّف كلّ وسائله من إعلام وعملاء ليبرز في صورة المنقذ والمصلح وجالب الخير الكثير. وهو على النّقيض من ذلك! يكيد لهم ولدينهم ويسعى جاهدا للقضاء عليهم وعلى حضارتهم العريقة التي تمثّل خطرا يهدّد وجوده إن هي عادت من جديد إلى الحياة.

 

لقد قام الغرب بحرب فكريّة زعزع فيها ثقة أمّة الإسلام بأحكام دينها، حرب نزع فيها شموليّة هذه الأحكام ليحصرها في العبادات دون العلاقات والمعاملات. وزرع أشواك مفاهيمه السّامّة وألغى أحكام الإسلام العطرة وخيرها. وحتّى تستعيد الأمّة عافيتها وتشفى من مرضها عليها أن تقتلع هذه الأشواك وتعود للشّجرة الطّيبة التي تطرح ثمارا طيّبة، عليها أن تلفظ هذه المفاهيم الفاسدة وتعود لمفاهيم دينها النّقيّة الصّافية.

 

فأن نعبد الله معناه أن نمتثل لأوامره ونواهيه في كلّ كبيرة وصغيرة من حياتنا: في علاقتنا بالله وبأنفسنا وبالآخرين؛ في صلاتنا وصيامنا وقيامنا، في أكلنا وشربنا ولباسنا، في برّنا بآبائنا وصلة رحمنا، في معاملتنا لجيراننا، في بيعنا وشرائنا، في معاملاتنا وعلاقاتنا مهما تنوّعت واختلفت فندور حيث تدور أحكامه ونلتزم بها. فللّه الخلق والأمر وهو ربّنا وخالقنا ومولانا ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾.

 

أن نعبد الله هو أن نؤمن به ونوحّده ونعمل على أن لا نعصي له أمرا، نعبده ونتنافس لأن نبلغ أعلى درجات الإيمان، أن نبلغ درجة الإحسان. فما هو الإحسان؟

 

«أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»: كان هذا ردّ النّبيّ ﷺ حين سأله جبريل عليه السّلام عن الإحسان. فالإحسان هو أن يقوم المسلم بالعمل وكأنّه يرى ربّه، واقف بين يديه يجتهد في أعماله ويؤدّيها على خير وجه وأكمله. فعلى المسلم أن يربط صلته بربّه في كلّ حين وفي كلّ حال ولا تغيب عنه ولو للحظة حقيقة أنّ الله يراه ويراقب أعماله ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.

 

تناول العديد من الباحثين والعلماء موضوع الإحسان وأطنبوا الحديث فيه وجعلوه من مراتب الإيمان.

 

فأن تعبد الله كأنّك تراه: معناه أن تراه في العبادة والخلوة، تراه في معاملاتك وعلاقاتك، تراه في كلّ كبيرة وصغيرة من حياتك. وهذه درجة من الإيمان إذا بلغها المسلم فإنّه يكون بذلك قد ارتقى إلى مَنزلةٍ رفيعة. ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ.

 

فالإنسان إن أحسن وعبد ربّه على الوجه الذي يرضيه عنه فإنّ جزاءه سيكون رضوان الله وجنّته، وما أعظمه من جزاء! ما أجمل أن يلقى الإنسان قبولا من ربّه ورضا نتيجة لما قدّمه من أعمال حسنة! ما أحسن أن يقوم الإنسان بأعماله وهو يستحضر خشية ربّه، يخشاه ويطلب رضاه! وما ألذّه من شعور والمسلم يبلغ أعلى مراتب العبوديّة وأفضلها، فيلقى من ربّه حسن الثّواب! ﴿فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. فهنيئاً للمحسنين، هنيئا لهم حبّ الله لهم، ونسأل الله أن يكتبنا منهم وأن يوفّقنا لما يحبّ ويرضى ويثبّتنا على طاعته.

 

فأين أمّة الإسلام اليوم من دينها؟ هل تحيا في كنف أحكامه؟ وكيف رضيت بالحياة دون أن تكون مسيّرة بأحكام ربّها؟ كيف تعيش بقوانين من وضع البشر وتتخلّى عن قوانين خالقها؟!

 

أين المسلمون ممّا يجري اليوم في حياتهم؟ هل يعبدون الله كما أمرهم؟ هل يستحضرون رضا ربّهم وشرعه معطّل ومقصيّ؟ هل يخشون الله ويرونه والأعداء يتطاولون على أحكام الله ويستهزئون برسوله؟ ألا يأملون ويتنافسون لنيل شرف درجة عليا فيعملوا ليكونوا من المحسنين؟

 

إنّ واقع أمّة الإسلام يحتّم على أبنائها العمل للخروج من هذه الظّلمات التي خيّمت على حياتهم وأن يتحرّروا من قيود النّظام الرّأسماليّ الذي أذاقهم والبشريّة جمعاء الويلات وضنك العيش. عليهم أن يعبدوا الله وكأنّهم يرونه فيستحضرون رضاه عنهم إن عملوا على إعادة شرعه وأحكامه إلى حياتهم ونشره للنّاس كافّة. عليهم أن يحثّوا السّير لبلوغ هذه الغاية السّامية الرّفيعة فيلقوا من ربّهم ما يسعدهم في الدّنيا والآخرة.

 

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ أي معهم بتأييده ونصره ومعونته وهديه وسعيه وهذه معيّة خاصّة، ومعنى الذين اتّقوا أي تركوا المحرّمات، والذين هم محسنون أي فعلوا الطّاعات، فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم وينصرهم ويؤيّدهم ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم). وهل هناك أعظم حرمة من العيش بدون شرع الله وأحكامه تطبّق في حياة المسلم؟ هل ثمّة طاعة أعظم من تحكيم شرع الله في الأرض؟

 

حتى يَسير المؤمنُ في درب الإحسان في جميع ما يَصدر عنه من أعمالٍ، وأقوالٍ، وتصرّفات؛ عليه أن يعبد الله سبحانه وتعالى كما يحبّ ويرضى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً﴾، وعليه أن يستحضر مراقبة الله سبحانه وتعالى له في كلّ الأحوال، وأن يَتيقّن بأنّ الله على كلّ شيء رقيبٌ شهيد ولا يغيب عن علمه مِثقال ذرّةٍ في السّماوات ولا في الأرض، فإذا استحضر المسلم ذلك فإنّه سيسعى لأن يَسمو بعمله ويرفع من سقف مطالبه وأهدافه ويجعل من إقامة دولة الخلافة التي ستطبّق شرع الله همّه وشغله الشّاغل فيجتهد ويعمل مع العاملين لبلوغ تلك الغاية ويستحضر مراقبة الله سبحانه وتعالى له في جميع أعماله، وحركاته، وسكناته.

 

على المسلم أن يعبد الله كما يحبّ لا كما يريد هو فيبحث عن الحجج الواهية ليبرّر تجاوزه لأحكام ربّه ويلوي عنق النّصوص الشّرعيّة حتّى تتماشى والواقع الذي يعيشه. هي آثار الحضارة الخبيثة التي حلّت وسادت حياة المسلم فصار يتأرجح بين أحكام دينه وبين واقع مادّيّ فاسد فساد الحضارة التي تسيّره، صار يحاول أن يتأقلم مع الواقع. فكيف له أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ كيف لا يعضّ بالنّواجذ على أحكام دينه ويقبض على دينه كما يقبض على الجمر ولا يحيد عنها قيد أنملة؟! يسير في طريق بلوغ مرتبة المحسنين كلّفه ذلك ما كلّفه.

 

إنّ يقين المسلم بمراقبة الله له في جميع أعماله يقيه من الوقوع في المحرّمات ويدفعه للسّعي المتواصل لنيل رضوان الله بأن لا يقوم إلّا بما فيه طاعة ويبتعد عن المعاصي ويتغلّب على ما تحدّثه به نفسه وما يغويه به الشّيطان. يتغلّب على واقع تحكمه حضارة تعادي حضارته فيصارع ويكافح ويعمل على أن لا يسير في ركابها ويتمسّك بكتاب ربّه وسنّة نبيّه ﷺ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَداً: كِتَابُ اللهِ، وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ» فيكون المسلم بذلك مع ربّه في كلّ تحرّكاته وتكون أحكام الله حصنه المنيع أمام إغراءات الواقع وملذّات الحياة وشهوات النّفس وتكون له سلاحا في حربه ضدّ الحضارة الرّأسماليّة "العدوّ".

 

#رمضان_والإحسان

#Ramadan_And_Ihsan

#Ramazan_ve_İhsan

 

كتبته للمكتب الإعلاميّ المركزيّ لحزب التّحرير

زينة الصّامت

 

Template Design © Joomla Templates | GavickPro. All rights reserved.