الجمعة، 10 شوال 1445هـ| 2024/04/19م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
  •   الموافق  
  • 1 تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الدولة العلمانية تموت بالسكتة الرأسمالية

 

يلمس الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله الفرق الشاسع بين التنظير للتعريفات الوردية الخيالية للعلمانية[1]، وبين واقع العلمانية وما آلت إليه، فقد كان تعريف العلمانية بأنها "فصل الدين عن الدولة" صالحا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وكان التصور أن عملية الفصل هذه ستؤدي لا محالة إلى الحرية والديمقراطية وحل مشكلات المجتمع، فيَحل السلام في الأرض وتنتشر المحبة والأخوة والتسامح. ولكن كلمة "دولة" كما وردت في التعريف آنف الذكر لها مضمون تاريخي وحضاري محدد، فهي تعني بالدرجة الأولى المؤسسات والإجراءات السياسية والاقتصادية المباشرة، وكانت كثير من مجالات الحياة لا تزال خارج سيطرة الدولة، فكانت تديرها الجماعات المحلية المختلفة، منطلقة من منظوماتها الدينية والأخلاقية المختلفة، فالنظام التعليمي على سبيل المثال لم يكن بعد خاضعاً للدولة، كما أن ما أسميه "قطاع اللذة" (السينما - وكالات السياحة، وأشكال الترفيه المختلفة مثل التلفزيون) لمَ يكن قد ظهر بعد. والإعلام لم يكن يتمتع بالسطوة والهيمنة التي يتمتع بهما في الوقت الحاضر. والعمليات الاقتصادية لم تكن قد وصلت إلى الضخامة والشمول الذي هي عليه الآن. كل هذا يعني في واقع الأمر أن رقعة الحياة الخاصة كانت واسعة للغاية، وظلت بمنأى عن عمليات العلمنة إلى حد كبير.

 

ويلاحظ أن تعريف العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة يلزم الصمت بخصوص حياة الإنسان الخاصة والأسئلة الكونية الكبرى مثل الهدف من الوجود والميلاد والموت، ولا يتوجه إلى مشكلة المرجعية ومنظومة القيم التي يمكن أن يحتكم إليها أعضاء مجتمع واحد.

 

لكن حدثت تطورات همشت التعريف الوردي القديم، منها تعملُق الدولة وتغوُّلها وتطويرها مؤسسات "أمنية وتربوية" مختلفة ذاتَ طابع أخطبوطي يمكنها أن تصل إلى كل الأفراد وكل مجالات الحياة، ثم تغوَّل الإعلام وتعملق هو الآخر وأصبح قادرا على الوصول إلى الفرد في أي مكان وزمان، والتدخل في تعريفه لنفسه وفي تشكيل صورته عن نفسه، وفي التدخل في أخص خصوصيات حياته وحياة أطفاله، وفي صياغة أحلامهم ولاوعيهم. والسوق هي الأخرى لم تعد سوقاً، وإنما أصبحت كيانا أخطبوطيا يسيطر على الإعلام وعلى كل مجالات الحياة، وهو يوجه رؤى البشر ويعيد صياغة أحلامهم وتوقعاتهم. كل هذا نجم عنه تضييق وضمور - وأحياناً اختفاء الحياة الخاصة. في هذا الإطار، كيف يمكن أن نتحدث عن فصل الدين عن الدولة؟! أليس من الأجدر أن نتحدث عن هيمنة الدولة والسوق والإعلام، لا على الدين وحسب، بل على حياة الإنسان العامة والخاصة. لكل هذا وجدتُ أنه لا مناص من إعادة تعريف العلمانية انطلاقا من دراسة ما تحقق في الواقع بالفعل وليس من التعريف المعجمي، على أن يحيط التعريف الجديد بمعظم جوانب الواقع الذي تمت علمنته.

 

العلمانية التي تحققت في الواقع تعني أن ثمة انتقالا من الإنساني إلى الطبيعي المادي، أي من التمركز حول الإنسان إلى التمركز حول الطبيعة، أي الانتقال من تأليه الإنسان وخضوع الطبيعة له، إلى تأليه الطبيعة وإذعان الإنسان لها ولقوانينها ولحتمياتها، أي أن هذه العلمانية تشكل سقوطا في الفلسفة المادية. "فالعلمانية الشاملة" وهي رؤية شاملة للكون بكل مستوياته ومجالاته، لا تفصل الدين عن الدولة وعن بعض جوانب الحياة العامة وحسب، وإنما تفصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن كل جوانب الحياة العامة في بادئ الأمر، ثم عن كل جوانب الحياة الخاصة في نهايته، إلى أن يتم نزع القداسة تماماً عن العالم، بحيث يتحول العالم (الإنسان والطبيعة) إلى مادة استعمالية.

 

إن العالم من منظور العلمانية الشاملة (شأنها في هذا شأن الفلسفة المادية) خاضع لقوانين مادية كامنة فيه لا تفرق بين الإنسان وغيره من الكائنات. كل هذا يعني نزع القداسة عن الطبيعة والإنسان وتحويلهما إلى مادة استعمالية، يوظفها القوي لحسابه.

 

والعلمانية الشاملة بطبيعة الحال لا تؤمن بأية معايير أو مطلقات أو كليات، فهي لا تؤمن إلا بالنسبية المطلقة، إذ إنه في غياب المعايير التي تتجاوز الذات الإنسانية تظهر آلية واحدة لحسم الصراع وهي القوة، ولذا نجد أن البقاء للأقوى، ولعل المنظومة الداروينية الصراعية هي أقرب المنظومات من نموذج العلمانية الشاملة.

 

والعلمانية ليست ظاهرة اجتماعية أو سياسية محددة واضحة المعالم تتم من خلال آليات واضحة (مثل إشاعة الإباحية) يمكن تحديدها بدقة وبساطة، كما أنها ليست - كما يتصور البعض - أيديولوجية ولا حتى مجموعة من الأفكار التي صاغها بعض المفكرين العلمانيين الغربيين، (وأن هذه الأفكار نشأت في أوروبا بسبب طبيعة النصرانية) باعتبارها عقيدة تفصل الدين عن الدولة وتعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

 

إن من يدرس ظاهرة العلمانية باعتبارها مجموعة من الأفكار المحددة والممارسات الواضحة، يتجاهل الكثير من جوانبها وبالتالي يفشل في رصدها، إن مصطلح "علمانية" كما هو متداول لا يشير إلا إلى هذه الجوانب الواضحة والظاهرة التي أشرنا إليها، فهو دال قاصر عن الإحاطة بمدلوله. وما قولكم في هذه النجمة السينمائية المغمورة (أو الساطعة) التي تحدثنا عن ذكريات طفولتها وفلسفتها في الحياة وعدد المرات التي تزوجت فيها وخبراتها المتنوعة مع أزواجها، ثم تتناقل الصحف هذه الأخبار وكأنها الحكمة كل الحكمة! وقد يكون وصف أقوال هذه النجمة بأنها منافية للأخلاق أو للذوق العام وصفاً دقيقاً، ولكنه مع هذا لا يُبيِّن الدور الذي تلعبه النجمة وأفكارها في إعادة صياغة رؤية الإنسان لنفسه وتَصوُّره لذاته وللكون بشكل غير واع، ربما من جانبها ومن جانب المتلقي معا. انتهى ملخصا.[2]

إذن فالدولة العلمانية أبعد ما تكون عن أن تقيم اعتبارات للقيم التي يراد للمجتمع أن يقيس قناعاته إليها، وأبعد ما تكون عن أن تضع أيديولوجية تهدف لضبط العملية التشريعية، أو وضع القوانين لضبط سلوك الناس، فتقول لهم: الزنا حرام والمخدرات حرام! لا تهتم العلمانية بشيء من ضبط سلوك الناس، فإذا ما أمكن للرأسمالي أن "يصنع ثروة طائلة" من تجارة المخدرات كالقنب الهندي مثلا، فسيجد القوانين في الدولة طوع يديه، فيجعل استعمالها قانونيا، ومن ثم يبدأ بصناعة الأرصدة الفلكية!

 

ولقد خضعت العلمانية لمنطق القوة، وكان أبرز ما في المجتمع هو قوة الرأسمالي، ونفوذه، فأعاد صياغة فكر المجتمع، ومقاييسه وقناعاته بما يتمحور حول السلع والخدمات، لتنمية رأس المال، وجعل القطاع الواسع من المجتمع عمالا يعيشون للعمل، وينتظرون نهاية الأسبوع ليقعوا ضحية قطاع اللذة، من سُكْرٍ في الحانات إلى دور السينما، إلى نوادي الرياضة، ففرغ الإنسان من أي محاولة لسبر أغوار الكون ومعرفة سر الوجود، ولم يعد لديه أي اهتمام بالبحث عن الحقيقة، وقد تغولت الدولة كثيرا في التجسس على الناس، لمعرفة طبائعهم، ورغباتهم، وطموحاتهم، فتجسست عليهم من خلال أجهزة الاتصال والإنترنت، وبرامج التواصل الإلكتروني، واستعملت تلك المعلومات للدعاية والإعلان، وللتأثير على الناخب في فترة الانتخابات، ذلك الناخب الذي كان يسمى ذات يوم: (مواطناً)، فأضحى يسمى اليوم: "دافع ضرائب"، وبعد أن كانت الحاجة أم الاختراع، أضحى الاختراع أبو الحاجة وأمها وأختها!

 

لقد تحول المجتمع إلى الاستهلاك، والإنفاق، والملذات، وهكذا فإن العلمانية التي فصلت الأخلاق والدين والقيم كلها عن حياة الناس، فإنها لم تأبه بأن تكون بنت الرأسمالية وأختها، وأما القيم التي قامت عليها الثورة الفرنسية من الحرية والإخاء والمساواة، وأما القيم التي قامت عليها الثورة الأمريكية والتي كانت تهدف لضمان حقوق الأفراد في الحياة والملكية، وفي حرية العبادة والتعبير، إضافة إلى مساواة الجميع أمام القانون، وفصل الدين عن الدولة، والتي استمدت من نظريات الفلاسفة الإنجليز جون لوك وتوماس هوبز وإدوارد كوك، والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، ثم جاءت وثيقة الحقوق التي من نصوصها: ولا يحق للدولة البحث في أوراق أو ممتلكات الرعايا ولا يحق أخذ أموال الأفراد العقارية بدون تعويض مقبول من الرعية. وفي حالة ارتكاب جريمة فللمجرم الحق في الإسراع لمحاكمته، وله الحق في أن يعرف الجرم الذي ارتكبه أو المخالفة التي قام بها، وله الحق في مقابلة الشهود الذين يشهدون ضده وسماع أقوالهم، وله الحق في الحصول على شهود لمصلحته وله الحق في تعيين مجلس قضائي يدافع عنه!

 

هذه القيم يمكن تقسيمها إلى صنفين: صنف غير مهم، وصنف مهم!

 

أما الصنف غير المهم، فالدولة لا يهمها إن تعشيت بطاطا أم أفطرت على العدس، وإن سهرت في ناد ليلي أم أمام جهاز التلفزيون، فطالما أن ما تقوم به تافه غير مهم، فليكن للدولة قيمٌ تطبقها عليك، فإن سرقت وأنت أبو العيال فالحبس، وتشديد العقوبة، أما إذا احتالت الشركات الكبرى على نظام الضرائب، وقوننت أعمالها وجعلتها سليمة من ناحية قانونية، وتهربت من دفع ضرائب على التريليونات التي تودعها في مصارف أيرلندا، فهذا لا يسمى سرقة، ولا ينطبق عليه شيء من القوانين التي يُنَظَّرُ لها على أنها القيم التي قامت عليها أمريكا.

 

أما إذا كان ما تفعله مهما، فيقوم طائفة من السود مثلا بمحاولة الحصول على حقوقهم، فيشكلون جماعات لها أهداف، فحين ذلك لا تتعامل معهم الدولة وفق تلك القيم والمعايير!

 

على أن كثيرا من هذه الحقوق والقيم تجاوزتها الممارسات الفعلية، فالدولة تتجسس على الناس بكل أشكال التجسس بحيث لم يعد ثمة من خصوصية، وتم إقرار قوانين الأدلة السرية التي يسجن على أساسها المتهم ولا يعرف سببا لسجنه، ولا تهمته، ولا تعرض على القضاء، ولا يدافع عنه بحجة أن الأدلة على جريمته سرية وفي حال فضحها سيؤدي ذلك للإضرار بالأمن القومي...

 

لذلك فالعلمانية على الحقيقة ماتت بالسكتة الرأسمالية! كما ماتت أختها الديمقراطية بالسكتة الليبرالية!

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

ثائر سلامة (أبو مالك)

 


[1] [ونقول أيضا: وللديمقراطية]

[2] بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، الدكتور عبد الوهاب المسيري. موقع الجزيرة نت.

1 تعليق

  • Mouna belhaj
    Mouna belhaj الخميس، 01 شباط/فبراير 2018م 01:01 تعليق

    وسيجهض النضام الإسلامي هذه الرأسمالية العفنة بإذن الله. بارك الله فيكم وجزاكم عنا خير الجزاء

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع