السبت، 11 شوال 1445هـ| 2024/04/20م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
  •   الموافق  
  • 1 تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الجيوستراتيجية الاستعمارية: خرائط الموت وحدود الدم

صراع "أذربيجان-أرمينيا" جنوب القوقاز نموذجاً

 

خلفت نكبة النكبات هدم الخلافة العثمانية في عشرينات القرن الماضي فراغا سياسيا وعسكريا واستراتيجيا مدويا وزلزالا حضاريا وفراغا مبدئيا مدمرا، شكل ثقبا أسود في الجغرافيا السياسية بحجم البلاد الإسلامية، جعل من هذه البقعة الجغرافية مسرحا لأشرس الصراعات الدامية للقوى الاستعمارية الدولية، مادتها التفكيك والتفتيت والتلغيم والتدمير؛ تفكيكها سياسيا وتفتيتها جغرافيا وتلغيم حدودها وبنيتها وتركيبتها والأنكى هدمها حضاريا.

 

ومن البلاد الإسلامية التي عمها هذا الخراب تفكيكا وتفتيتا وتلغيما وتدميرا منطقة القفقاس أو القوقاز، وهي المنطقة الجبلية الواقعة بين البحر الأسود وبحر قزوين (الخزر)، وتشمل بلاد الأنجوش وداغستان وأوسيتيا الشمالية والشيشان شمالا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان وأجزاء من تركيا وإيران جنوبا، وهي بلاد إسلامية خالصة دخلها الفتح الإسلامي في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث فتح القائد سراقة بن عمرو أذربيجان في عام 22 للهجرة، وأما في خلافة ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه ففتحت جورجيا وأرمينيا.

 

بقيت بلاد القوقاز جزءا من دار الإسلام زمن الخلافة الأموية والعباسية، لكن الضعف الذي دب في أوصال الخلافة العباسية بعد سقوط بغداد سنة 656 هجرية على أيدي التتار (المغول) أدى إلى تدمير الحكم الإسلامي في القوقاز على يد المغول. ومن عجائب وخوارق الإسلام العظيم أن المغول الذين نكلوا بالمسلمين قد اعتنقوا الإسلام على يد أهل القوقاز المغلوبين وأقاموا بالتالي حكما إسلاميا في القوقاز واتخذوا من قازان شرقي موسكو عاصمة لحكمهم، وقويت شوكتهم وعظم ملكهم وتوسع سلطانهم وامتد إلى سيبيريا وموسكو نفسها، واصطدموا بالدولة الروسية التي أعيد إنشاؤها وتوحيد إماراتها بزعامة موسكو، وبعد قرنين من الصراع سقط حكم التتار الإسلامي ودمر الروس عاصمتهم قازان واستباحوا دماء وأعراض وأموال المسلمين التتار. وبعد بروز حكم سلاطين العثمانيين وبرعايتهم لمسلمي القوقاز بدأت الدولة العثمانية تنازع الروس المناطق القوقازية، وتمكنت من فرض سيطرتها على القوقاز باستثناء أذربيجان التي خرجت إلى نفوذ الدولة الصفوية في إيران وذلك عام 1578م، واستمر الحكم الإسلامي للقوقاز حتى 1722م حيث قام قيصر الروس بطرس بمهاجمة القوقاز واحتل قسما منه، لكن المسلمين قاموا بطرد الروس سنة 1735م، ثم استمرت الحرب سجالا بين المسلمين والروس وأبلى أهل القوقاز المسلمين بلاء حسنا جعل قتالهم آية في الجهاد، وحمل لواء الجهاد وتصدى للروس أئمة أبرار من أبناء القوقاز منهم الإمام منصور والإمامان غاز مولا محمد وحمزات والإمام شامل، وكانت لهم الخلافة العثمانية سندا وعونا على ضعفها في أواخر أيامها. إلا أنه مع الزلزال الجيوستراتيجي لهدم دولة الخلافة العثمانية تنازل الاتحاديون بزعامة الملعون مصطفى كمال عن منطقة القوقاز لروسيا الشيوعية، ومن ثم اشتد الأمر على المسلمين ولكن نار جهادهم ما خبت، وأرهق جهادهم العظيم الجيش الروسي لدرجة أن لينين فسر سرعة الهزائم التي لحقت بالجيش الروسي في الحرب العالمية الأولى بأنها نتيجة الإرهاق من شدة حروب القوقاز، فانتهج بعدها الشيوعيون بزعامة ستالين سياسة النفي إلى أصقاع سيبيريا، وأبيد فيها خلق عظيم من مسلمي القوقاز.

 

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه إلى خمس عشرة جمهورية في عام 1991 استمرت منطقة القوقاز ملحقة بجمهورية روسيا الاتحادية عن طريق أنظمة الحكم وحكام تلك الجمهوريات، ولكن الضعف السياسي لروسيا الاتحادية جراء انهيار الاتحاد السوفيتي وآثاره على الساحة الروسية وارتداداته على المحيط، ولد فراغا استراتيجيا، أضيف إليه ثروات القوقاز الهائلة، ويكفي أن احتياطي النفط لحوض بحر قزوين قدر بـ178 مليار برميل أي في المرتبة الثانية بعد السعودية كما أعلن خبراء وزارة الطاقة الأمريكية سنة 1996، ما جعل القوقاز ساحة لتكالب القوى الغربية وعلى رأسها أمريكا، والتي حدد ستروب تالبوت المستشار الخاص ونائب وزيرة الخارجية الأمريكية سنة 1994 في خطاب له ضمن أنشطة مركز آسيا الوسطى والقوقاز الاستراتيجية الأمريكية للوجود في المنطقة واختراقها والهيمنة عليها، بأنها تقوم على الأسس التالية: 1- تطوير الديمقراطية 2- خلق اقتصاد السوق الحرة 3- احتضان السلم والتعاون بين دول المنطقة 4- إدماج دول المنطقة في منظومة المجتمع الدولي.

 

وهي استراتيجية ترمي لصبغ المنطقة ودمغها أمريكياً على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني وهو ما يسهل انقيادها ووضعها في قاطرة التبعية للهيمنة الأمريكية. وانفتح الطريق على مصراعيه أمام أمريكا بعد احتلالها لأفغانستان، لكن انتكاساتها العسكرية في كل من أفغانستان والعراق، وبعد تقرير لجنة بيكر-هاملتون وتوصياتها لتعويم الفشل الأمريكي في العراق والمنطقة ومن أن استراتيجيتها في اعتمادها على قواها المنفردة لم تعد قابلة للتنفيذ، اقترحت اللجنة خطة جديدة للاستعانة بدول الجوار لتتحمل عن أمريكا عبء التكاليف والمواجهة، فصار مقترح اللجنة نهجا سياسيا للإدارات الأمريكية المتعاقبة وأسلوبا عمليا، وذاك ما تم اعتماده في آسيا الوسطى والقوقاز، فحركت أمريكا تركيا بشكل فعال، وأخذت كيان يهود تحت معطفها، فدعمت أمريكا التطلعات التركية في المنطقة وساعدتها في إقامة استثمارات في كل من أذربيجان وتركمانستان ودعمتها لإقامة جسور ثقافية، فقد صرح أردوغان في مئوية تحرير باكو عاصمة أذربيجان "إن تركيا وأذربيجان دولتان شقيقتان ماضيهما وثقافتهما ولغتهما ودينهما واحد... فقط نحن في الوقت نفسه دولتان بأمة واحدة"، ودعمتها على إقامة علاقات اقتصادية وسياسية شاملة تحت لواء النموذج العلماني التركي لدمج المنطقة وإلحاقها بقاطرة الهيمنة الأمريكية.

 

وقعت تركيا وأذربيجان مشروع "تاناب" لنقل الغاز الطبيعي الأذري إلى أوروبا عبر الأراضي التركية عام 2012، ويعتبر من أهم مشاريع الطاقة على مستوى العالم لأنه سيعطي الأفضلية لتركيا ومن ورائها شركات الطاقة الأمريكية، كخطوط الأنابيب التي تمتد من باكو في أذربيجان إلى تبليسي في جورجيا وتصب في ميناء جيهان التركي على سواحل البحر الأبيض المتوسط والتي بنتها شركات أمريكية كبرى لنقل الغاز والنفط إلى أسواق الغرب، وتنقل يوميا مليون برميل من النفط فائق الجودة، وقد أطلقت عليها واشنطن في التسعينات اسم "أنابيب السلام" ورأى فيها الروس أنابيب حرب هدفها النهائي وضع اليد الأمريكية على نفط المنطقة تمهيدا لإحكام الحصار على روسيا ودفعها للاختناق بأنفاسها الداخلية. أما بالنسبة لمشروع "تاناب" فسيفسح المجال أمام إمكانية نقل الدول المالكة لاحتياطي واسع من الغاز الطبيعي وعلى رأسها دول منطقة بحر قزوين لمصادر الطاقة إلى الأسواق العالمية عبر الأراضي التركية ما يمثل تهديدا لسوق الغاز الروسية، ويزيد من حدة التهديد الاتفاق التركي الأذري بتقريب موعد افتتاح مشروع "تاناب" لتزويد تركيا بالغاز الطبيعي الأذري ومروره عبرها لأوروبا بحيث ترتفع حصة تركيا منه من 7 مليارات متر مكعب حاليا إلى 31 مليار متر مكعب بحلول 2026، ودخول المشروع حيز الإنتاج سيعني تراجع اعتماد تركيا على الغاز الطبيعي الروسي إضافة لانخفاض إضافي في سعره العالمي، وهما تطوران مضران بأمن الطاقة الروسي والدور الأرميني في خطوط الطاقة، فضلا عن صفقة الغاز الرئيسية بين تركيا وروسيا المزمع تجديدها في 2021 التي باتت في مهب الريح. ففضلا على تهديد سوق الغاز الروسية أضحت لأمريكا اليد الطولى على إمدادات الطاقة لأوروبا.

 

كما أنه في عام 2017 تم افتتاح خط حديدي دولي يربط بين أذربيجان وتركيا مرورا بجورجيا، باكو - تبليسي - قارص ويهدف إلى نقل مليون مسافر سنويا بالإضافة إلى 6.5 مليون طن بضائع بين البلدان الثلاثة، كما يسهم الخط من خلال ربطه بين تركيا وآسيا ومنطقة القوقاز والدول الأوروبية في نقل 50 مليون طن من البضائع كل عام، حيث ستمر البضائع المراد شحنها من الصين وكازاخستان وتركمانستان وأذربيجان إلى أوروبا عبر البوابة التركية، علما أن المفاتيح والأقفال تمسك بها اليد الأمريكية الخفية.

 

الشراكة الاستراتيجية بين تركيا وأذربيجان والدعم المتبادل، ففي عام 2010 وقعت اتفاقية عسكرية تفرض استخدام الوسائل العسكرية للبلدين في الظروف الطارئة ضد أي منهما. وتواصل أنقرة بشكل سنوي إجراء المناورات العسكرية مع أذربيجان، وتضع أنقرة "الجيش الثالث" الذي تحرس عناصره ذوو الدرجات العالية في الجاهزية القتالية حدودها الشرقية في خدمة التشكيلات التي نشرتها أذربيجان على الحدود مع تركيا وإيران وأرمينيا، ففي حرب الأربعة أيام لسنة 2016 بين أذربيجان وأرمينيا تم استهداف مباشر وفعال لدبابات أرمينية بطائرات مسيرة تركية. وكذلك اجتماعات مشتركة ودورية لوزراء دفاع كل من تركيا وأذربيجان وجورجيا منذ عام 2014. وكان لتفقد قائد القوات الخاصة التركية للقوات الأذرية على جبهة الصراع مع أرمينيا في تشرين الثاني/نوفمبر 2014 رسالة واضحة صريحة لدعم أنقرة التام لباكو.

 

فضلا على المناورات العسكرية الدورية بين الجيش التركي والأذري والتي حملت اسم "الأخوة الراسخة 2019"، التي أكد خلالها وزير الدفاع التركي خلوصي أكار: "إن بلاده وأذربيجان تقفان معا ضد جميع أنواع التهديدات والمخاطر وفي الحزن والفرح"، وصرح رئيسه أردوغان قائلا: "في الوقت الذي يشارك فيه جنود البلدين في مناورات عسكرية مشتركة يلتحق جنود البلدين بمختلف الأنشطة العسكرية في أفغانستان وأنحاء العالم كافة". أي أن أذربيجان تم دمجها بالكامل وربطها بقاطرة الهيمنة الأمريكية. كما أن الدور المنوط بكيان يهود ووجوده العسكري والاستخباراتي في أذربيجان يصب في خدمة الهيمنة الأمريكية.

 

فالصراع بين أرمينيا وأذريبجان يعد صراعا جيوسياسيا بين أمريكا وروسيا تحديدا، وإن كان لبعض الأوروبيين سعي لمحاولة اقتحامه. ففي العنوان العام هو نزاع تاريخي بين أذربيجان وأرمينيا على إقليم "قرا باغ (بستان العنب الأسود)" ولكن في الأبعاد الاستراتيجية والجغرافيا السياسية والاقتصادية هو صراع دولي بين أمريكا وروسيا بلاعبين محليين عطفا لهم كيان يهود.

 

أما روسيا فتسعى للحفاظ على بقايا نفوذ في آسيا الوسطى والقوقاز، وجيوب تأثير في مواجهة الهجمة الأمريكية الشرسة، ومن هذه الجيوب أرمينيا، فبعد تفكك الاتحاد السوفيتي حافظ الروس على وجود عسكري دائم لهم في أرمينيا وأبقوا على الجزء الأكبر من قواتهم فيها في قاعدتهم 102 في غيومري، في حين أدت عضوية أرمينيا في تحالف الدول السوفيتية السابقة "منظمة الأمن الجماعي" نحو زيادة اعتمادها العسكري على موسكو طبقا إلى ما أفضى إليه اتفاق الدفاع الجوي المشترك في كانون الأول/ديسمبر 2015. وقد نشر الروس قبل عام 2016 في أرمينيا سربا من طائرات مقاتلة "ميج 29" إلى جانب بضعة آلاف من الجنود والمدرعات الثقيلة وأنظمة الدفاع الجوية الصاروخية بعيدة المدى من طراز "إس 300" إلى جانب الدفاعات الجوية المتوسطة المستوى من طراز "إس إي-6" كما جاء في تقرير "معهد واشنطن" لسياسات الشرق الأدنى.

 

فروسيا عمليا هي التي احتلت إقليم قرا باغ بغطاء أرميني في تسعينات القرن الماضي للفصل بين شرق أذربيجان وغربه لعزل أرمينيا عن النفوذ الأمريكي، خاصة بعد التصريح الواضح لحلف الشمال الأطلسي آنذاك "أننا نريد التوسع شرقا وجنوبا".

 

أما اليوم فمسرح الصراع بين الروس والأمريكيين جنوب القوقاز قد تحول، فالمجال الحيوي الروسي قد تقلص بشكل كبير بعد قضم أمريكا لجورجيا، فالجغرفيا السياسية للمنطقة باتت أمريكا هي الفاعل الأساسي فيها، وعليه فالظرف الجيوستراتيجي مواتٍ لتغيير المعادلة واستكمال رسم الخريطة الجيوسياسية جنوب القوقاز وفق مصالح الهيمنة الأمريكية، وعليه تصبح إثارة النزاع مصلحة استراتيجية أمريكية بامتياز، وقد كانت محاولة نيسان/أبريل 2016 والتي سميت بحرب الأيام الأربعة بين أذربيجان وأرمينيا، وقد اندلعت شرارتها ساعات فقط مرت على انتهاء قمة الأمن النووي الرابعة التي انطلقت في اليوم الأخير من آذار/مارس عام 2016 بالعاصمة الأمريكية واشنطن، والتي تكلم فيها وزير الخارجية الأمريكية جون كيري نيابة عن رئيس أذربيجان إلهام علييف مطالبا أرمينيا بسحب قواتها فورا من الإقليم المتنازع عليه. ما جعل الروس يطالبون بوقف إطلاق النار والتزام قرار وقف إطلاق النار الموقع عام 1994، سعيا من الروس للحفاظ على الوضع الراهن على الأرض. ثم كانت مناوشات عسكرية في 12-13 تموز/يوليو 2020، تلاها الصراع العنيف الذي تشهده المنطقة اليوم.

 

وفي ضوء تحولات المناخ السياسي والعسكري في أذربيجان والذي ساعد عليه وجود النفط والغاز الوفير، ما يفتح المجال لإنفاق عسكري ضخم، فقد تمكنت أذربيجان ما بين عامي 2004 و2014 من زيادة حجم إنفاقها العسكري 20 مرة، ما يجعل من ميزانية أذربيجان العسكرية أكبر من ميزانية أرمينيا كاملة. فضلا على ما تعانيه أرمينيا من نقص في الموارد، وما تسببت به الحدود المغلقة لها مع تركيا وأذربيجان، والوضع المستجد لجورجيا كحليف لأمريكا، يجعل أرمينيا تعتمد بالكامل على المورد الروسي وهو ما يستنزف الروس. فمسرح الصراع جنوب القوقاز باتت مناخاته وسياقات أوضاعه الجيوستراتيجية مفيدة لأمريكا، ما يجعل تصعيد النزاع بين أذربيجان وأرمينيا حاجة استراتيجية أمريكية، ما يفسر الموقف الباهت للإدارة الأمريكية من الصراع العنيف الذي انطلق يوم الأحد 27 أيلول/سبتمبر 2020 بين أذربيجان وأرمينيا، حيث صرح الرئيس الأمريكي ترامب بعد اندلاع المواجهات: "لدينا الكثير من العلاقات الجيدة مع تلك المنطقة سنرى ما إذا كان بإمكاننا إيقاف الاشتباكات"، واتصلت الخارجية الأمريكية عبر مساعد وزير الخارجية ستيفن بيغان "لحض الطرفين المتحاربين على وقف الأعمال العدائية فورا". عطفا على ذلك الموقف التركي الذي أعلن وقوفه مع أذربيجان "لصد العدوان واستعادة أراضيها المحتلة"، وصرح أردوغان أن: "أذربيجان التي قالت حان وقت الحساب مع أرمينيا باتت مضطرة إلى حل مشاكلها بنفسها". وفي سلسلة تغريدات نشرها الأحد 27 أيلول/سبتمبر 2020 اتهم أردوغان مجموعة مينسك وموقفها المتهاون منذ 30 سنة. أي سعي أنقرة لتخليص أذربيجان من اتفاق إطلاق النار الموقع عام 1994 الذي أشرفت عليه مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا... ما يعني شل اليد الأوروبية عن أي تدخل في القوقاز.

 

هذا الموقف التركي المتحمس للمعركة، ما كانت أنقرة لتتخذ هذا القرار الاستراتيجي دون قرار وإذن من واشنطن، لأن الموقف التركي يحمل إمكانية كبيرة لتدحرج الأمور نحو مواجهة أوسع وأشمل بكثير من مستوى أرمينيا وأذربيجان.

 

وعليه فالجيوستراتيجية الاستعمارية الأمريكية هي الفاعل الأساسي في خلق توتر أو مواجهة واسعة أو حرب شبه محدودة جنوب القوقاز في حديقة روسيا الخلفية لقضم مزيد من إقليم القوقاز ومن ثم التحكم في مصادر الطاقة في آسيا الوسطى والقوقاز وخطوط إمداداتها لأوروبا.

 

أما الموقف الروسي على عكس المرات الماضية وفي مسعى لعدم توسع الحريق في حديقته الخلفية، لم يترك الكرملين الأمر لوزارتي الدفاع والخارجية للوصول إلى التهدئة، ودخل بسرعة على خط الأزمة وأعرب بوتين "عن بالغ قلقه إزاء تجدد القتال... وتم التأكيد على أهمية منع استمرار التصعيد، والأهم ضرورة وقف الأعمال القتالية". وأعلن المتحدث باسم الكرملن ديميتري بيسكوف الاثنين 28 أيلول/سبتمبر "أن بلاده على اتصال مع تركيا"، كما اتصل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وبحث مع نظيره الأذربيجاني جيهون بيراموف تفاقم النزاع وشدد على ضرورة وقف إطلاق النار، مشيرا إلى أن "روسيا ستواصل مع المشتركين في مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا بذل جهود الوساطة الهادفة إلى إعادة الوضع لطبيعته"، أي أن الروس معنيون بالتهدئة واستمرار الوضع القائم على حاله، فموسكو تخشى من أن يؤدي انفلات الأوضاع جنوب القوقاز إلى خلل كبير في منظومتها الأمنية خصوصا أنها معبر إلى خاصرتها الضعيفة شمال القوقاز والجمهوريات ذات الشعوب المسلمة مثل الشيشان وداغستان.

 

أما أوروبا فقد دعا رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال الأحد 27 أيلول/سبتمبر 2020: "لوقف القتال... والعودة فورا إلى المفاوضات دون شروط". علما أنه ليست هناك سياسة خارجية أوروبية ولكنها سياسات خارجية لبعض دول أوروبا، والهاجس الذي يسكن الأوروبيين هو ضعفهم الاستراتيجي على مستوى الطاقة ونظرتهم للقوقاز كمصدر لتنويع موارد الطاقة وخاصة الغاز الطبيعي الذي كان ورقة روسيا لابتزاز أوروبا. فقد اعتمد البرلمان الأوروبي في 20 أيار/مايو 2010 تحت عنوان "ضرورة استراتيجية الاتحاد الأوروبي لجنوب القوقاز" قرارا ينص على وجه

 

الخصوص أنه يجب "تطهير المناطق الأذرية المحتلة حول (قرا باغ) في أقرب وقت ممكن". أي أن الأوروبيين معنيون بالحل السياسي الذي يضمن لهم تدفق النفط والغاز الطبيعي وتنويع مواردهم.

 

هذا هو حال قوقازنا معشر المسلمين بعد أن كان حديقتنا الذهبية وفردوسنا الأرضي حولته الجيوستراتيجية الكافرة الآثمة إلى جبهة حرب حشو مدافعها لحم وعظام أجسامنا!

 

ما كانت جيوستراتيجية الكافر المستعمر إلا خرابا ودمارا ودماء وأشلاء، فجيوستراتيجيته الاستعمارية ما فتئت تنكي جراحنا، ما إن تنتهي من تسخين جبهة من الجبهات الكلاسيكية القديمة حتى تفتح لنا جبهة جديدة أخرى، وما إن تنتهي من خريطة موت حتى ترسم لنا أخرى، وما إن تحد لنا حدودا بدمائنا حتى تخط لنا أخرى.

 

والأنكى أن جغرافية إجرامه هي بلادنا الإسلامية شرقا وغربا شمالا وجنوبا، وأوكل بها أكابر المجرمين من أبناء جلدتنا حكام العمالة والخسة، فأسندت كبار مناصبنا وقضايانا لصغار النفوس من حكامنا فتعاظمت بهم مآسينا وتفاقمت مصائبنا وازدادت فواجعنا.

 

معشر الساسة المبدئيين حملة دعوة الإسلام العظيم، معشر المسلمين أصحاب الشهادة على الناس أجمعين:

 

قضيتنا مع الغرب طالت وتمادت، تقطر دما وغدرا وخيانة، وترشح مكرا وخبثا وخسة وفظاظة. وآن لعقلكم وتفكيركم الاستراتيجي أن يأخذ زمام المبادرة، وآن لكم أن تستجمعوا قواكم وتعزموا أمركم وتحسموا صراعكم مع الغرب. وما كان لهذا الفراغ الحضاري والجيوسياسي في بلادكم الإسلامية أن يملأ إلا بخلافة الإسلام العظيم الراشدة على منهاج النبوة.

 

واعلموا أنه ما سمى جهابذة علمائكم الخلافة تاج الفروض سدا، بل لأنها الفريضة الاستراتيجية الكبرى التي بها تعالج كل القضايا وتحل بها كل العقد. واعلموا أن في محنكم امتحانكم، فأروا الله من أنفسكم صبرا وثباتا وعزما، واعلموا أن في شدة البلاء عظيم التمكين وأن العاقبة للمتقين فكونوا لنصر الله أهلا.

 

﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

مناجي محمد

 

1 تعليق

  • Mouna belhaj
    Mouna belhaj الأحد، 04 تشرين الأول/أكتوبر 2020م 23:36 تعليق

    شكرا لهذا العمل المميز ، جزاكم الله خير الجزاء ونفع بكم

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع