Logo
طباعة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

Al Raya sahafa

 

2025-04-23

 

جريدة الراية: 

قراءة في رفع ترامب للرسوم الجمركية

المنظومة الرأسمالية المأزومة تصنع أزمتها النهائية!

 

 

 

مما يجب التنبيه إليه أن ترامب الرئيس هو رأسمالي نتاج الشركة الرأسمالية وليس نتاج المطبخ السياسي، ومنطلقاته السياسية محكومة بغاية الشركة الرأسمالية وقواعد السوق الرأسمالية ومعايير الربح والخسارة، فهو ينظر للساحة الدولية كسوق ويُعَيِّر العلاقات الدولية بمعيار الربح والخسارة، والهدف هو جني العائد المادي في زمن قياسي، فالسياسة بالنسبة لترامب هي مجرد صفقات تجارية واقتصادية، فهو يسعى لفرض تغول الدولة الشركة على العلاقات الدولية، ورفع الرسوم الجمركية أداة لإدارة ذلك التغول الرأسمالي.

 

 فالحديث عن التعرفة الجمركية ورفع الرسوم هو حديث عن التجارة العالمية وأسواقها الرأسمالية الكبرى الاستهلاكية، ولا تعدو أن تكون ثلاثة أسواق رأسمالية، في المرتبة الأولى أمريكا ثم تليها السوق الأوروبية ثم الصين. وكون أمريكا هي السوق الرأسمالية الاستهلاكية الأولى فتجاوزها أوروبيا وصينيا في حكم المستحيل، فاعتماد كل من الاقتصاد الأوروبي والصيني على أمريكا حيوي واستراتيجي.

 

تُعد العلاقات التجارية بين أمريكا والاتحاد الأوروبي من بين الأكثر تشابكاً وأهمية على مستوى العالم. فهما يمثلان حوالي 30% من حجم التبادل التجاري العالمي للبضائع، وحوالي 40% من التجارة العالمية في الخدمات، ما يعادل نحو نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وبحسب بيانات مكتب الممثل التجاري لأمريكا، ففي عام 2024، بلغ إجمالي تجارة السلع بين الطرفين 975.9 مليار دولار، ما يعكس عمق الترابط الاقتصادي بينهما. ووفقاً لتلك البيانات، فقد بلغت صادرات السلع الأمريكية إلى الاتحاد الأوروبي عام 2024 حوالي 370.2 مليار دولار، بينما ارتفعت واردات أمريكا من الاتحاد الأوروبي بشكل ملحوظ، حيث بلغت 605.8 مليار دولار، بزيادة قدرها 5.1% (29.4 مليار دولار) عن العام السابق. هذا عن العلاقات التجارية بين أمريكا والاتحاد الأوروبي وحجمها وتأثيرها الاستراتيجي في اقتصاد الطرفين.

 

كذلك بالنسبة للعلاقات التجارية بين أمريكا والصين، فوفقا لمكتب الإحصاء الأمريكي التابع للحكومة الأمريكية، استوردت أمريكا من الصين بضائع وسلعا بقيمة 438.9 مليار دولار عام 2024، مرتفعة عن عام 2023 الذي سجل 426.9 مليار دولار، في حين صدّرت أمريكا بضائع وسلعا إلى الصين بقيمة 143.5 مليار دولار عام 2024.

 

فاعتماد الاقتصادات الأوروبية والصينية على السوق الأمريكية حيوي واستراتيجي، فهي السوق الأولى لتصريف الإنتاج الأوروبي والصيني، ما يجعل البديل عن السوق الأمريكية عسيرا بل متعذرا.

 

كما أن التبادل التجاري بين أوروبا والصين بلغ حد التشبع، فحجم التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي والصين خلال 2023 بلغ 738 مليار دولار وفق مكتب إحصاءات اليورو ستات، وأورد المكتب أن الصين كانت أكبر شريك لواردات الاتحاد الأوروبي. وهذا التشبع هو الذي دفع بالاتحاد الأوروبي لفرض حظر تجاري على بعض المنتوجات الصينية واتخاذ إجراءات لمكافحة الإغراق التجاري ضد الصين. بمعنى أن تحول أوروبا للسوق الصينية أو الصين للسوق الأوروبية أمر محسوم تعذره وانتفاء حدوثه.

 

ويؤكد هذا الأمر ما جاء في تقرير البرلمان الأوروبي الأخير حول رسوم ترامب الجمركية "كما أن فرض الولايات المتحدة للرسوم الجمركية على أجزاء أخرى من العالم قد يخلق أيضاً مشاكل للاتحاد الأوروبي. فقد تقرر البلدان المتضررة إعادة توجيه منتجاتها التي قد تصبح باهظة الثمن للغاية للبيع في الولايات المتحدة إلى أوروبا، ما يجعل من الصعب على شركات الاتحاد الأوروبي المنافسة".

 

وكذلك عطفا على حجم التبادل التجاري المؤثر والفاعل، هناك نوعية التبادل التجاري (طبيعة البضائع والسلع والخدمات) بين أوروبا وأمريكا، والصين وأمريكا، وهذه النوعية تزيد المشكلة تعقيدا والوضع تأزما. فمثلا واردات الصين من أمريكا حيوية (النفط والغاز، البذور الزيتية والحبوب، الأدوية، وسائل التعليم، أشباه الموصلات، قطع غيار ومعدات الطيران، أدوات الملاحة، الآلات الصناعية...) والسوق الأوروبية لا توفر هكذا بديل، بينما صادرات الصين لأمريكا الحيوي فيها هي (المعادن النادرة والتي يسعى ترامب لوضع اليد عليها من أوكرانيا كبديل عن الصين)، أما باقي الصادرات فالهند تعتبر بديل أمريكا لتوفيرها، وقد جعلت أمريكا من الهند حليفها الإستراتيجي، وبديلا لسلسلة الإنتاج الأمريكية بدل الصين.

 

كما أن أهم ثلاثة منتجات مُصدَّرة إلى أمريكا عام 2024 من أوروبا كانت المنتجات الطبية والصيدلانية، والأدوية، والسيارات والمركبات الآلية. علما أن تجارة السيارات تعتبر من أعمدة الاقتصاد الأوروبي وتحديدا اقتصاد ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، والبدائل عن السوق الأمريكية نادرة إن لم تكن منعدمة، والبديل الأمريكي عنها يمكن إنتاجه من المصانع الأمريكية.

 

وعليه فالتوجه نحو بديل عن السوق الأمريكية بالنسبة لأوروبا والصين أمر متعذر، ما يجعل من رسوم ترامب حربا تجارية على الاتحاد الأوروبي والصين.

 

والنقطة الثانية الاستراتيجية في الموضوع والتي لا يمكن تجاوزها، عطفا على حجم السوق الأمريكية وأهميتها الاستراتيجية بالنسبة لأوروبا والصين، فالتجارة مع أمريكا هي كذلك مصدر للدولار الذي يعتبر عملة التجارة العالمية، عطفا على النظام المالي الدولي الذي صنعته أمريكا وأقامته وفرضته وفرضت معه ورقتها الدولار كعملة رئيسية للتجارة العالمية، هذا الوضع يصعب معه فك الارتباط بأمريكا وخلق بدائل عنها، ويجعل تجاوز السوق الأمريكية في ظل المنظومة الرأسمالية القائمة في حكم المستحيل.

 

أما كيف ستؤثر الرسوم الجمركية على أوروبا؟

 

فبحسب تقرير للبرلمان الأوروبي، فإنه إذا فرضت أمريكا رسوماً جمركية على منتجات الشركات الأوروبية، فإن هذه المنتجات ستصبح أكثر تكلفة وستقل مبيعاتها نتيجة لذلك. وإذا رد الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم جمركية على المنتجات الأمريكية، فإن هذه المنتجات ستصبح أكثر تكلفة بالنسبة للمستهلكين في الاتحاد الأوروبي. فالمعضلة والمأزق الاقتصادي الأوروبي سيتفاقم، ومع أزمة الطاقة التي تواجهها أوروبا جراء الحرب الروسية الأوكرانية فالأزمة الاقتصادية الأوروبية مرشحة للتفاقم.

 

أما بالنسبة لكندا والمكسيك فالوضع كارثي فاعتماد اقتصاديهما على أمريكا كلية يجعل فك الارتباط بها في حكم المستحيل (ففي عام 2024 كانت أمريكا هي الوجهة لـ75.9% من إجمالي صادرات كندا، وكانت مصدرا لـ62.2% من إجمالي وارداتها). ومع المكسيك (إجمالي التجارة - الواردات والصادرات - بين البلدين 839.8 مليار دولار، وبهذا تعد المكسيك أكبر شريك تجاري لأمريكا للعام الثاني على التوالي).

 

فهذا التشابك والارتباط الرأسمالي يجعل المسألة أكثر تعقيدا، وانسداد أفق الأسواق الرأسمالية البديلة يزيد من تفاقم المعضلة الرأسمالية وأزمة منظومتها.

 

ما يعني أن مسألة رفع الرسوم الجمركية لم يكن اعتباطا ولكنها مقامرة لرئيس رأسمالي يسعى لعائد مادي في أجل قصير، لمحاولة رقع الثقب الأسود الذي أحدثته ديون أمريكا الفلكية.

 

يبقى السؤال السياسي عن العواقب المؤجلة لمقامرة ترامب القصيرة النظر؟!

 

فالتعرفة الجمركية الجديدة لترامب هي تقويض لفلسفة الاقتصاد الرأسمالي وحرية سوقه، فالتعرفة الجمركية هي فرامل تضعها الدولة الرأسمالية الأولى في حرب تجارية للمركز الرأسمالي مع باقي الأطراف الرأسمالية. وهذه الردة الرأسمالية هي تقويض للمنظومة وهدم لركيزتها الأولى اقتصادها الحر، وهي مرحلة جد متقدمة في التعفن الرأسمالي والتفسخ والموت الحضاري.

 

كما أن فرض رسوم جمركية لا يعني رأسماليا سوى رفع تكلفة الإنتاج وغلاء الأسعار بالنسبة للمستهلكين، ما يعني أن دوامة غلاء المعيشة وبؤس الحال سيتفاقم، عطفا على تعطيل سلسلة التوريد للعديد من الشركات التي ستعلن إفلاسها أو تقلص حجم مبيعاتها ما يعني مزيدا من العطالة والبطالة والفقر.

 

كما أن محرك الاقتصاد الرأسمالي هو الاستهلاك المفرط وتلك الإنتاجية المفرطة، وفائض الإنتاج يعتمد بشكل أساسي على الأسواق الخارجية في تصريفه، ورسوم ترامب الجمركية هي تحطيم للأسواق الخارجية وتحطيم للاقتصاد الرأسمالي، ما يعني تفاقم أزمة المنظومة الرأسمالية وتنامي إرهاصات الثورة واتساع آفاق البديل الحضاري الإسلامي.

 

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى

 

 

بقلم: الأستاذ مناجي محمد

 

المصدر: جريدة الراية

 

 

 

 

 

Template Design © Joomla Templates | GavickPro. All rights reserved.