- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
القروض والارتهان الاقتصادي من إدارة الأرقام إلى استعباد الأجيال
الخبر:
نقلت بوابة أخبار اليوم، الخميس 18/12/2025م، أن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي أكد أن الدين العام بات مصدر قلق للناس مع ارتفاع المعيشة، مؤكداً أن الحكومة تديره في ظروف دولية صعبة منذ عام 2020. وأوضح أن مصر سددت صافي دين خارجي بنحو 3.4 مليار دولار خلال عام، وحولت 11 مليار دولار من التزامات إلى استثمارات طويلة الأجل، وأن 81% من الدين بات طويل الأجل لتخفيف ضغوط السداد. وأكد استخدام أدوات مثل مبادلة الديون، وأن تقييم المسار لا يكون بحجم الدين بل باتجاهه وهيكله،
مع التزام الحكومة بخفض الأعباء وتحسين معيشة الناس على المدى المتوسط.
التعليق:
في كل مرة تُعلن فيها السلطة عن أرقام جديدة تتعلق بالديون الخارجية، تُقدَّم الأرقام في قالبٍ يوحي بالإنجاز: سداد مليارات هنا، وإعادة هيكلة هناك، وتحويل التزامات إلى استثمار طويل الأجل. غير أن القراءة المتأنية، بعيداً عن العناوين الدعائية، تكشف حقيقةً واحدة لا تتبدل وهي أن المديونية ليست أرقاماً تُدار، بل أعباء تُحمَّل على ظهور الناس، وارتهاناً لإرادة البلاد، وقيوداً تُشدّ على أعناق الأجيال القادمة.
الخبر المعلن يتحدث عن سداد جزء من الديون خلال عام، وعن تحويل التزامات بمليارات الدولارات إلى استثمارات طويلة الأجل، وعن كون أغلب الدين طويل الأمد. لكن السؤال الجوهري الذي يجب أن يُطرح هو ما طبيعة هذا المسار؟ ولمن تُدار الدولة؟ وبأي معيار يُقاس الصواب والخطأ؟
القرض الخارجي لا يُسدَّد من فراغ، بل من كدّ الناس وعرقهم والضرائب المفروضة عليهم وارتفاع الأسعار وتقليص ما يُنفق على رعاية شؤونهم. كل دولار يُستدان اليوم هو التزام في الغد، وكل جدول سداد ممتد هو تقييد لحرية القرار السياسي والاقتصادي. حين تُقال عبارة دين طويل الأجل، فإن معناها الواقعي أن أجيالاً لم تُستشر ولم تنتخب أحداً ستُطالَب بالدفع، دون أن يكون لها رأي في أصل الاستدانة ولا في شروطها.
إن تحويل الديون إلى استثمار لا يُخرجها من حقيقتها؛ إذ يبقى الأجنبي شريكاً متحكماً، ويظل القرار الاقتصادي مرهوناً بمصالح الدائنين، سواء سُمِّيَ الدين قرضاً أو استثماراً أو مبادلة. فالنتيجة واحدة وهي أن السيادة تُجزَّأ، والقرار يُقيَّد، والناس يدفعون الثمن.
لم تُعرف دولةٌ ارتهنت بالديون إلا ودخلت معها شروط سياسية واقتصادية، تُفرض باسم الإصلاح والالتزام. تُعاد صياغة القوانين، وتُرفع الأسعار، وتُفتح الأسواق، وتُغلق الأبواب في وجه الناس، ليس لأن ذلك أصلح لهم، بل لأنه يرضي الدائن ويضمن تدفق السداد.
وهنا تتحول الدولة من راعٍ لشؤون الناس إلى وكيل تحصيل، وتصبح السياسة الاقتصادية قائمة على إرضاء الخارج لا على رعاية الداخل. وهذا هو جوهر الرأسمالية: تقديم المال على الإنسان، والربح على العدل، والقوة المالية على القيم.
فوق كل ما سبق من أعباء اقتصادية وتبعية سياسية، تبقى الحقيقة الأخطر أن هذه القروض هي رِبا صريح، لا يغيّر من حكمها تغيير الأسماء ولا طول الآجال. وقد جاء التحريم قاطعاً في كتاب الله، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾. فأيُّ خطر أعظم من سياسةٍ تقوم على ما وصفه الله بأنه حرب عليه وعلى رسوله؟ وأيُّ بركة تُرجى من اقتصاد يُبنى على معصيةٍ بهذا الحجم؟ إن آثار الربا لا تقتصر على الحسابات، بل تمتد إلى نزع البركة، وانتشار الظلم، وضيق العيش، واضطراب المجتمع.
يُقال إن نسبة الدين إلى الناتج "ضمن الحدود"، وإن أغلب الدين طويل الأجل، وإن الإدارة رشيدة. غير أن هذه اللغة تُخفي سؤالاً أساساً هو لماذا تُدار البلاد أصلاً بهذا المنطق؟ لماذا يكون الحل الدائم هو الاستدانة؟ ولماذا يُصرّ النظام الرأسمالي على معالجة الأزمات بمزيد من الديون؟
إن الأرقام، مهما زُيِّنت، لا تُغيِّر من حقيقة أن الناس يزدادون فقراً، والأسعار ترتفع، والعملة تضعف، والخدمات تتراجع. وهذا وحده كافٍ لإسقاط السردية الرسمية.
إن المشكلة ليست في سوء إدارةٍ عابرة، بل في النظام الذي يحكم من الأصل. الرأسمالية تجعل المال محور السياسة، وتُبيح الربا، وتشرعن الاستدانة، وتحوّل الدولة إلى أداة لخدمة رأس المال. ولذلك فهي تنتج الأزمات ثم تدّعي علاجها، بينما تعمّق الجراح.
أما الإسلام، فله نظرة مغايرة كليا وجذرياً: فالإسلام يمنع الربا منعاً باتاً، ويجعل رعاية شؤون الناس غاية الحكم، ويُقيم الاقتصاد على ملكياتٍ واضحة، وموارد عامة، ونقدٍ ثابت، وسياسة مالية لا تُحمّل الناس ما لا يطيقون.
إن الحل ليس في إعادة جدولة القروض، ولا في تحسين شروطها، ولا في تبديل مسمياتها، بل في قطع الطريق عليها من أصلها. الحل في نظامٍ اقتصادي إسلامي يمنع الربا، ويحرر القرار، ويستثمر الثروات لصالح الأمة، ويُعيد للدولة وظيفتها الحقيقية: الرعاية لا الجباية.
إن قيام دولةٍ تحكم بالإسلام حكماً كاملاً، وتتبنى نظامه الاقتصادي، هو وحده الكفيل بإنهاء دوامة الديون، واستعادة السيادة، وإقامة العدل، وبعث الطمأنينة في حياة الناس.
يا أهل الكنانة: إن ما تعانونه ليس قضاءً محتوماً، ولا نتيجة كسل ولا نقصاً في الموارد، بل هو ثمرة نظامٍ فاسدٍ في أساسه فُرض عليكم، وحُكمتم به عقوداً. لا تنخدعوا بلغة الأرقام ولا بتغيير العناوين؛ فالقرض قرض ولو سُمّي استثماراً، والربا ربا ولو غُلّف بالتقارير. والرأسمالية هي الداء، والإسلام هو الدواء. تمسكوا بدينكم، وعوا على حقيقة ما يُدار باسمكم، واعلموا أن التغيير الحقيقي يبدأ من تغيير الفكرة التي تُحكمون بها. واعلموا أن خلاصكم ليس في مزيد من الاستدانة، بل في الوعي، ورفض الرأسمالية، والتمسك بالإسلام نظام حياة ودولة.
يا أجناد الكنانة، يا أهل القوة والمنعة، إن الله جعلكم أصحاب قدرة وتأثير، ولم يجعلكم حراساً للتبعية ولا أدوات لتنفيذ سياسات تُفقِر شعبكم وتغضب ربكم. إن الانحياز الحقيقي ليس للسلطة ولا للدائنين، بل للأمة ولدينها، فانحازوا لمشروع يرضي الله، ويحرر البلاد، ويعيد لمصر مكانتها، ويكتب لكم شرف النصرة في الدنيا والآخرة.
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
سعيد فضل
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر