Logo
طباعة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

الثبات على الحق في وجه الطغاة

 

 

 

في خضمّ الفتن والمحن، وفي أزمنةٍ يسود فيها الظلم، ويُكتم صوت الحق، يبرز أصحاب المبادئ وهم يحملون أسمى صورة من صور الإيمان وأشدّها إشراقاً.

 

إنّ الثبات على الحق لا يكون في أوقات الراحة، بل حين يصبح التمسّك به ثمنه النفس أو العذاب؛ هناك يُمتحن الصادقون، وتُفرَز الصفوف، ويُعرَف أهل العزيمة من أهل الهوى.

 

إنّ الحق ليس رأياً يُناقَش أو صفقةً تُبرم، بل هو نورٌ من عند الله، لا يتغيّر بتغيّر الزمان، ولا يتبدّل تحت ضغط السلطان، والذين ثبتوا على الحق إنما فعلوا ذلك لأنهم يعلمون أنّ هذه الحياة زائلة، وأنّ الله تعالى أحقّ أن يُطاع.

 

ولنا في كتاب الله عبرٌ وعظات؛ فهذا سيدُنا إبراهيمُ عليه السلام واجه نمرودَ الطاغيةَ الذي ادّعى الألوهية، فلم يتردّد في محاججته، ولم يخَفْ من إعلان عقيدته، رغم تهديده بالنار، لكنه قال: (حسبي الله ونعم الوكيل)، فلم يرَ في النار عذاباً، بل امتحاناً، فجعلها الله تعالى برداً وسلاماً عليه.

 

وكذلك أصحاب الأخدود، أمةٌ كاملةٌ رفضت الانحناء، وواجهت بطش ملك أراد منهم أن يعودوا إلى الكفر أو يُحرَقوا بالنار؛ فاختاروا الإيمان والموت على الذلّ والخنوع، نساءٌ وأطفالٌ ورجالٌ وشيوخٌ آثروا نار الدنيا على نار الآخرة، لم يكونوا أنبياء، بل مؤمنين عاديين، لكنّ ثباتهم جعلهم خالدين في كتاب الله.

 

إنّ الحياة ليست عناداً، بل وعيٌ وثباتٌ على الحق عن إدراكٍ عميقٍ بأنّ ما يعتقده الإنسان هو الحق الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى؛ فلا يُساوِم عليه ولو اجتمعت عليه الدنيا، هو موقفٌ يخلقه القلب والعقل معاً، لا مجرد تمرد، بل رفضٌ للخضوع لما يخالف الفطرة.

 

وفي زماننا هذا، ما أكثر الطغيان، وما أكثر محاولات تزييف الوعي وتمييع الحق وتشويه الصادقين، فما أحوجنا اليوم إلى الثبات واتخاذ الموقف في وجه الطغاة!

 

ربما يكون الثبات في قول كلمة الحق أمام مسؤولٍ ظالم، أو في الدفاع عن مظلوم، أو في الصبر على الأذى، لأنك لا تريد أن تبيع مبادئك.

 

إنّ الحقّ في وجه الطغيان هو ميراث الأنبياء، وشعار المؤمنين، وسرّ بقاء الأمم الحرّة، ومن يثبت على الحق، يكتب تاريخه بدمه، أو بصبره، أو بكلمته. ومهما بدا الظلم قويّاً، فإنّ الحق وحده هو الذي يبقى، لأنّ الله معه: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾.

 

إنّ أصحاب المبادئ هم الذين يُكمِلون الطريق، ليس لأنّ الطريق سهل، بل لأنّهم يحملون في قلوبهم يقيناً، وفي أعماقهم ثباتاً، وفي عقولهم وعياً. وما يُبنى على الحق لا يمكن أن يهدمه ظلم، أو تزعزعه عواصف الباطل.

 

وعندما نقول إنّ أصحاب المبادئ هم الذين يُكمِلون الطريق، فإنّ غزة هي المعنى الحيّ لهذه الجملة؛

 

غزة، حيث تتجسّد معركة الحق مع الطغيان... غزة ليست فقط قطاعاً محاصرا، بل جرحٌ مفتوح في وجه عالمٍ مغلق... لا يُقاس فيها الإنسان بعدد أنفاسه، بل بعدد المرّات التي قال فيها "لا" في وجه أعتى جبابرة الشر.

 

في غزة، لا يملك الناس ما يخسرونه سوى مبادئهم، ولقد قرّروا ألا يُفرّطوا فيها، حتى ولو خسروا كل شيء.

 

في كل بيت مهدوم، وفي كل نظرة طفل يرى السماء من بيته المدمر، معنىً يتجدد: أن المبدأ أغلى من الجسد، وأن الكرامة لا تُقايَض بالرغيف.

 

إنّ غزة ليست فقط تحت القصف، بل تحت امتحانٍ إيمانيٍّ عظيم. يشاهدون أجساد أحبّتهم تُنتشل من تحت الركام، وهم صابرون محتسبون، ثابتون على عقيدتهم، مؤمنون بأن وعد الله حق، وأن وعده لا يُخلَف: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ﴾.

 

غزة هي صورة هذه الأمة... ليست بحاجة لمن يبكي عليها، بل لمن يفهم سرّها: أنها لا تموت، لأن قضيتها عقيدتها، متصلةٌ بمعنى إلهيٍّ عميق.

 

في غزة، لا أبطال خارقين، بل أمهات يكفّنّ أبناءهن بأيديهن، ثم يرفعن رؤوسهن ويقلن: اللهم تقبّل!

 

أيّ يقينٍ هذا؟! إنها العقيدة التي تكون أغلى من الروح، والتي يُبذل من أجلها الغالي والنفيس.

 

كل بيت مهدوم في غزة هو درس للعالم، بأن الطغيان - مهما بلغ - لا يستطيع أن ينتصر على من امتلأ قلبه بالإيمان، مهما بدا ضعيفاً. قد تُثقِلها الهزائم، وتُربكها الفتن، وتتسلّط عليها قوى الطغيان؛ لكنها لا تموت، لأن في جوهرها وعداً ربانيّاً لا يُكسَر: ﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

 

إنّ الأمة الإسلامية تمرض حين تبتعد عن الحق، حين تنسى رسالتها، وحين تغفل عن واجبها، لكنها سرعان ما تستعيد عافيتها حين تبصر الطريق؛ طريق الخلاص، الذي توّجها الله به، بهذه الأمانة التي بها خلاص البشرية وإنقاذها من عفونة الحضارة الغربية المتعفنة؛ لتعود من جديد خيرَ أمةٍ أُخرجت للناس، لتعتلي ذرى المجد، وتنهض من جديد، وعداً وعده الله تعالى لها بالاستخلاف والتمكين: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾.

 

كلُّ ألمٍ تعيشه الأمة اليوم، وكلُّ قطرة دمٍ تسيل في سبيل الله، هو جزءٌ من مخاضِ أمةٍ عائدةٍ بإذن الله، وما ذلك على الله بعزيز.

 

كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

مؤنس حميد – ولاية العراق

 

وسائط

Template Design © Joomla Templates | GavickPro. All rights reserved.