Logo
طباعة
  •   الموافق  
  • كٌن أول من يعلق!

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

متى تكون المفاوضات من أجل مصالح حقيقية

ومتى تتحول إلى أداة لتمرير السياسات الاستعمارية؟

 

 

التفاوض وهندسة الهيمنة الدولية وأزمات المنطقة

 

في الوقت الذي تتصاعد فيه الأزمات في البلاد الإسلامية، تتكاثر جولات التفاوض في عواصم العالم؛ مثل جنيف والقاهرة وواشنطن، تحت شعارات (السلام، وتسوية النزاعات، والمسارات الإنسانية، والهدن). غير أن هذه المفاوضات، في حقيقتها، باتت أكثر ارتباطاً بمصالح القوى الكبرى منها بمصالح الشعوب التي تُجرّ إلى طاولاتها.

 

فالمفاوضات اليوم لم تعد مجرّد أداة لحل النزاعات، بل تحولت إلى وسيلة ضغط وإدارة نفوذ تُعيد رسم خرائط المنطقة وفقاً لرؤية القوى الدولية. وتفرض هذه القوى أجنداتها عبر منظومة أدوات متشابكة تشمل العقوبات، وتأهيل أطراف معينة، وتضييق الخناق الإعلامي، وصناعة شرعية دولية جاهزة عند الطلب.

 

السودان: مفاوضات تتحرك بإرادة خارجية

 

شهد ملف السودان خلال الأعوام الأخيرة سلسلة من الجولات التفاوضية، كان أبرزها مفاوضات جنيف في آب/أغسطس 2024 التي لم تتجاوز فتح ممرات إنسانية، إضافة إلى ضغوط أمريكية مباشرة وصلت حدّ إمهال الجيش السوداني ثلاثة أيام للحضور، في خطوة عكست حجم الوصاية الخارجية على القرار السوداني.

 

وفي المقابل، جاء تصريح قائد الجيش السوداني في 13 آب/أغسطس 2024 بأن "لا تفاوض، ولا سلام، ولا وقف لإطلاق النار إلا بعد طرد العدو المتمرد"، ليكشف عن استراتيجية عسكرية واضحة تقوم على الحسم لا التفاوض. هذا الموقف ترافق مع تعبئة عامة، واستنفار ميداني، وتحركات عسكرية مكثفة.

 

لكن هذا النهج، كما يراه مراقبون، يُنذر بإطالة أمد الحرب، وتمكين الدعم السريع من السيطرة على مزيد من المناطق، وهو ما ينسجم مع مخطط التفتيت الإقليمي الذي تعمل عليه واشنطن منذ سنوات.

 

وفي خلفية هذه الصراعات، تجري تفاهمات غير معلنة في الغرف المغلقة، تتضمن مصالح اقتصادية وسياسية لا تظهر في البيانات الرسمية، بينما يتعامل الوسط الدولي مع قوات الدعم السريع كطرف شرعي، رغم ما ارتكبته هذه القوات من انتهاكات جسيمة.

 

غزة: مفاوضات تُصنع لخدمة الاحتلال

 

تظهر الحالة الفلسطينية بوضوح حدود التسويات التي تُرسم من خارج الإرادة الشعبية. فمنذ اتفاق أوسلو عام 1993 وحتى اليوم، تتابعت جولات التفاوض: كامب ديفيد، أنابوليس، والحوارات في القاهرة والدوحة، دون أن تحقق الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني.

 

وفي غزة، أصبحت التهدئة أداة تُدار عبر وسطاء إقليميين مثل مصر وقطر، وتُستخدم لفرض وقائع جديدة تخدم الاحتلال، وتمنع الفلسطينيين من ممارسة حقهم في المقاومة.

 

الدور المصري: الوسيط الإقليمي بين السياسة والمصالح

 

في تشرين الثاني/نوفمبر 2025، استضافت القاهرة جولة الحوار الاستراتيجي بين مصر والولايات المتحدة، التي تناولت ملفات السودان وليبيا والقرن الأفريقي، مؤكدة الدور المصري كمحور إقليمي فاعل.

 

مصر، عبر عقود من عهد عبد الناصر وحتى السيسي، لعبت دوراً مركزياً في المفاوضات (الفلسطينية الإسرائيلية)، واستمرت كوسيط رئيس في اتفاقيات غزة ومباحثات السودان.

 

وفي حرب السودان تحديداً، تجمع القاهرة بين الدعم السياسي والعسكري للجيش السوداني، وإن حاولت إخفاءه، وبين الوساطة الدبلوماسية التي تمنح العملية التفاوضية غطاءً إقليمياً.

 

نماذج ميدانية: الفاشر وليبيا وسوريا واليمن

 

الفاشر – السودان تشرين الأول/أكتوبر 2025: سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة بعد حصار دام 18 شهراً مثّلت إحدى أبشع الكوارث الإنسانية، مع وقوع إعدامات ميدانية، واغتصاب، ونهب مستشفيات، في ظل صمت دولي رغم تحذير الأمم المتحدة من تهديد 260 ألف مدني.

 

ليبيا: المفاوضات تحولت إلى مناورة سياسية بعد استقالة المبعوث الأممي، حيث تولت دبلوماسية أمريكية إعادة ترتيب المشهد بما يخدم مصالح الغرب.

 

سوريا: المفاوضات كرّست مناطق نفوذ دولية، وحافظت على حالة التفكك السياسي والطائفي.

 

اليمن: من ستوكهولم إلى الكويت، أصبحت القضية تُدار كملف دولي لا وطني، وجرى تثبيت الحوثيين طرفاً شرعياً ضمن منظومة "تسوية" تُعيد تشكيل اليمن وفق مصالح إقليميّة ودوليّة.

 

الاتحاد الأفريقي والإيقاد... وساطة أم أذرع تنفيذية؟

 

تتحول المنظمات الإقليمية، مثل الاتحاد الأفريقي والإيقاد، من "وسطاء" إلى أدوات سياسية تضبط إيقاع التفاوض بما يتناسب مع الرؤية الدولية.

 

فالتحرك الأفريقي يشمل: تجميد عضوية دول، وصياغة خرائط طريق، وإطلاق مبادرات سياسية بالشراكة مع القوى الغربية، وتوفير شرعية إقليمية لأي اتفاق دولي جاهز... وهي أدوار تعكس حجم النفوذ الدولي داخل هذه المؤسسات.

 

البعد الشرعي: المفاوضات بين المشروعية والانحراف

 

إن الإسلام لا يرفض المفاوضات، بل يقرّها إذا كانت لإحقاق الحق ودفع الظلم، كما في صلح الحديبية. لكنّه يرفض التفاوض الذي يؤدي إلى التنازل عن حقوق الأمة أو الخضوع لإرادة خارجية. قال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾، وفي زمن غابت فيه المرجعية الإسلامية، أصبحت القرارات تُحال إلى الأمم المتحدة ومجلس أمنها، لا إلى كتاب الله وسنة نبيه.

 

خاتمة: استعادة الإرادة المفقودة ومعيار الشرعية في التفاوض

 

"المفاوضات وسيلة؛ إن كانت في سبيل الله فهي حكمة، وإن كانت في سبيل الطاغوت فهي خيانة".

 

تؤكد تجارب العقود الأخيرة أن المفاوضات لا تكون مشروعة إلا إذا كانت مع أطراف شرعية، لا مع مليشيات متمردة خرجت على سلطان الدولة، ولا مع كيان مغتصب يحتل الأرض والمقدسات. فالتفاوض مع طرف غير شرعي ليس سعياً نحو حل، بل هو منح صك اعتراف وتثبيت لكيانات باطلة.

 

ومن هنا، فإن ما يجري اليوم من مفاوضات مع كيان يهود تديرها أمريكا، ومع مليشيا الدعم السريع الانفصالية في السودان، وتديرها أمريكا كذلك، ليس إلا تثبيتاً لأركان الباطل، وصناعة لشرعية مقلوبة تتجاهل جوهر الصراع وحقوق الشعوب.

 

إن الأزمات التي تعصف بالبلاد الإسلامية تثبت أن الحلول الحقيقية لا تأتي من طاولات تُدار بإرادة خارجية، ولا من صفقات تُبرم مع الخارجين على الشرعية، بل من استعادة الأمة لمرجعيتها السياسية والشرعية. ولا يتحقق ذلك إلا بعودة الإرادة الإسلامية الجامعة، وبناء كيان سياسي يعيد للأمة وحدتها، ويقطع يد الاستعمار عن قرارها.

 

فعندما تستعيد الأمة سيادتها، تصبح المفاوضات أداة من أدوات الحق لا وسيلة لفرض الهيمنة أو صناعة شرعية زائفة.

 

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

حاتم العطار - ولاية مصر

 

 

Template Design © Joomla Templates | GavickPro. All rights reserved.