Logo
طباعة
  •   الموافق  
  • كٌن أول من يعلق!

بسم الله الرحمن الرحيم

 

طريق الحق لا يسلكه إلا من اصطفاهم الله

 

إن الله سبحانه وتعالى لا يصطفي للعمل في سبيله إلا من أحبهم وأراد لهم الرفعة في الدنيا والآخرة. فاختيار طريق الحق ليس صدفة، ولا هو دربٌ مفروش بالورود، بل هو طريق الأنبياء والصديقين، طريق العناء والتضحيات، طريق لا يسلكه إلا الرجال الذين باعوا أنفسهم لله، ولم يتعلقوا بزخرف الدنيا.

 

من ظن أن حمل الدعوة الإسلامية وإقامة الدين سيكون مريحاً وسهلاً، دون بلاء واختبار، فهو لم يفهم سنة الله في خلقه. هذا الطريق محفوف بالمصاعب، لكنه أيضاً محفوف بالرحمة والعناية الإلهية، والأجر العظيم الذي لا يعلم قدره إلا الله.

 

لقد كان حبيبنا محمد ﷺ خير من سار في هذا الدرب، وما أوذي نبي كما أوذي رسول الله؛ ضرب، شُتم، كُذّب، وحوصِر، وطُرد، لكنه لم يتزحزح عن دعوته، ولم يلن صوته في وجه الجاهلية.

 

خرج ﷺ إلى الطائف يطلب النصرة، فرجموه بالحجارة حتى أدميت قدماه الشريفتان، ومع ذلك لم يغضب لنفسه، بل شكا إلى ربه ضعف قوته، لا اعتراضاً، بل تذللاً وخضوعاً: «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي. أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مِنْ أَنْ تُنَزِّلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ. لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ...».

 

في تلك اللحظة، لم يكن ﷺ منهزماً، بل كان عبداً مطمئناً إلى اختيار الله، راضياً بقضائه، متوكلاً عليه، لا يهمه إن كان في عزٍّ أو أذى، ما دام ربه عنه راضيا غير غضبان.

 

نعم حين أوذي رسول الله ﷺ في الطائف، ورفع شكواه لربه، لم يكن ذلك ضعفاً بل قمة القوة، قوة الاعتماد على الله، لا على الناس.

 

وانظر إلى سيدنا بلال بن رباح رضي الله عنه، العبد الحبشي، لمّا طُرح على الرمضاء تحت شمس مكة المحرقة، ووُضع الحجر على صدره، لم يقل سوى: "أحدٌ أحد"، وهو لا يملك لا قبيلة تحميه، ولا نسباً يُدافع عنه، لكن الله ثبت قلبه، فخلّد ذكره فكان جبلاً شامخاً رضي الله عنه وأرضاه.

 

وانظر إلى آل ياسر كيف عُذّبوا وأُحرقوا بالنار، حتى قال لهم النبي ﷺ: «صَبْراً آلَ يَاسِر، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ».

 

وانظر إلى مصعب بن عمير، فتى قريش المدلل، كان أنعم شبابها ثياباً وطيباً، فلما آمن، حرمه أهله من كل شيء، ثم أُرسل أول سفير للإسلام إلى المدينة، ثم استُشهد يوم أُحد، وترك خلفه جسداً لا يُغطّيه كفن كامل.

 

هذه التضحيات لم تكن لحظات عابرة، بل هي دروس خالدة تُربينا على الثبات، مهما اشتد الظلام أو طال الطريق، والأعظم من ذلك: أن هذه التضحيات لم تذهب سدى، بل مهدت لدولة الإسلام الأولى، فكانت مكة تربية، وكانت المدينة تمكيناً... وهكذا نحن اليوم.

 

من سار على طريق الأنبياء سيُبتلى كما ابتُلوا، ولكن العاقبة للمتقين، اللهم ثبتنا كما ثبتهم، وانصرنا كما نصرتهم.

 

وهناك القصص الكثيرة والمؤثرة التي تُجسد الصبر والتضحية في سبيل الله، وتُلهب القلوب حماسة وثباتاً:

 

فهذا خبيب بن عدي رضي الله عنه أُسر عند كفار قريش، وقرروا أن يقتلوه صلباً. وقبل أن يُصلب، طلب أن يصلي ركعتين، فأذِنوا له، فصلّى ركعتين خفيفتين، ثم قال: "والله لولا أن تظنوا أني إنما أطلت جزعاً من الموت لأطلت" ثم قالوا له: أتحب أن محمداً مكانك؟ فقال: "والله ما أحب أني في أهلي وولدي، ومحمد ﷺ يُشاك بشوكة" فقال أبو سفيان: "ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد لمحمد".

 

وهذا صهيب الرومي رضي الله عنه عندما أراد الهجرة إلى المدينة، تبعه كفار قريش ليمنعوه. فقال لهم: "إنكم تعلمون أني من أرماكم، فإن شغلتموني قاتلتكم، وإن تركتموني دللتكم على مالي". فأخذوا ماله، وتركوه يهاجر، فلما وصل المدينة، قال له النبي ﷺ: «رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ الْبَيْعُ».

 

وهذا أنس بن النضر رضي الله عنه لم يشهد بدراً، فقال: "لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله ليرينّ الله ما أصنع" فلما كان يوم أحد، قاتل حتى وُجد في جسده أكثر من ثمانين طعنة وضربة، حتى لم تعرفه إلا أخته ببنانه. فنزل فيه: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ...﴾.

 

وهذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: لما هاجر رسول الله ﷺ، كانت تحمل الطعام له في الغار، وقطعت نطاقها نصفين لتربط به الطعام، فسُميت "ذات النطاقين" ثم جاء أبو جهل يضربها في بيتها ويبحث عن أبيها، فثبتت ولم تخبره وكانت حاملاً، ومع ذلك لم تضعف.

 

وهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في فتنة "خلق القرآن"، جُلد حتى غشي عليه، وسُجن، وأُوذي، فقيل له: متى الراحة؟ قال: "عند أول قدم أضعها في الجنة".

 

فهذه النماذج، ليست حكايات تروى بل مشاعل تنير الدرب لكل من نذر نفسه لدين الله. فطريق الحق محفوف بالدموع والدماء، لكنه موصل إلى جنة عرضها السماوات والأرض.

 

فلنثبت ولنصبر أيها الإخوة، يا حملة لواء الحق، فأنتم على خطا قوم نصرهم الله بعد شدة، ومكّن لهم بعد ابتلاء.

 

فهكذا يُربّي الإسلام رجاله؛ لا يبحثون عن الراحة، بل عن الرضا، لا يسعون وراء المنصب، بل وراء النصرة، لا تلهيهم الدنيا، بل يستهينون بها في سبيل إقامة دين الله.

 

فليعلم كل من يسير في طريق الدعوة، أن ما يلقاه من صعاب، وضيق، وتشويه، وسجن، وتعذيب ليس إلا تمحيصاً واصطفاءً، وأن الأجر أعظم مما يُتخيل: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾.

 

فيا حملة الدعوة اثبتوا، فأنتم على درب الأنبياء، والله ناصركم ولو بعد حين واعلموا أن طريق الحق محفوف بالتضحيات، ولا يثبت فيه إلا من تدرّب على الصبر والرضا، كما صبر أولو العزم من الرسل. وقد واجه رسول الله ﷺ جاهليةً أولى فكان ثباته هو النور الذي مزّق ظلامها. واليوم نعيش الجاهلية الثانية، أخطر وأشد، لأنها جاءت باسم الدين، ولكنها تفرغه من مضمونه، وتحرف الحق، وتُلمّع الباطل.

 

الصبر اليوم ليس فقط على الأذى، أو السجون، بل على الغربة، على كثرة الشبهات والتكذيب، والمطاردة والاستهزاء والتجسس، على تشويه العاملين، وعلى كثرة الداعين إلى الباطل باسم (الواقعية، والاعتدال، وأمن الوطن والوطنية).

 

ومع ذلك، فالله معنا؛ معنا بوعده ونصره وتثبيته لنا. فلتكن هذه المرحلة تربية لنا كما كانت مكة للمسلمين الأوائل، ولندعُ كما دعا الرسول ﷺ في لحظة الشدة، ونعمل بيقين أنه "ما ضاع حق وراءه مطالب".

الثبات الثبات حتى يأذن الله بتمكين دينه وعودة شرعه، في ظل الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

عبد المحمود العامري – ولاية اليمن

 

Template Design © Joomla Templates | GavickPro. All rights reserved.