- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
جواب سؤال
كيف يفهم حديث «لا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلا الدُّعَاءُ»
السؤال:
(ورد في كتاب التفكير الإسلامي، وهو أحد كتبنا المتبناة، أن الدعاء لا يرد القدر ولا يغير القضاء ولا علم الله سبحانه وتعالى...) بينما هناك نصوص من القرآن والسنة بدت لي أنها تخالف هذا الفهم، فقد ورد عن الرسول ﷺ قوله «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ» وهناك أحاديث أخرى كثيرة بهذا المعنى، وهذه الأحاديث تثبت أن الدعاء يغير من القدر... فكيف يتم التعامل مع هذا التعارض بين ما ورد في الكتاب وبين هذه النصوص؟ وجزاك الله خيرا.
الجواب:
يبدو أنك تشير إلى ما جاء في كتاب الفكر الإسلامي وليس التفكير الإسلامي كما جاء خطأ في السؤال، وخطأ آخر ورد في السؤال وهو قولك (وهو أحد كتبنا المتبناة) فهو غير متبنى، حيث إنه مذكور في الملف الإداري تحت باب (الكتب غير المتبناة التي أصدرها الحزب، سواء أذكر اسم الأمير عليها، أم ذكر اسم عضو آخر لاعتبارات معينة، وهي لا تدرّس في الحلقات)، ثم ذكر من هذه الكتب: (...الفكر الإسلامي...)... على كل، كما ذكرت آنفاً، فيبدو أنك تشير إلى ما جاء في الكتاب: (ولكن يجب أن يكون واضحاً أن الدعاء لا يغيّر ما في علم الله، ولا يدفع قضاء، ولا يسلب قدراً، ولا يحدث شيئاً على غير سببه. لأن علم الله متحقق حتماً، وقضاء الله واقع لا محالة. إذ لو دفعه الدعاء لَما كان قضاء. والقدر أوجده الله فلا يسلبه الدعاء...) وأنت تقول إن هذا يتعارض مع ما جاء في الحديث: «إِنَّ الدُّعَاءَ يَرُدُّ الْقَضَاءَ»، وفي رواية «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ» وتسأل: كيف يتم التعامل مع هذا التعارض؟
وقبل أن أجيبك أذكر لك بعض الأمور ذات العلاقة كمقدمة للجواب:
1- منزلة الدعاء في الإسلام والاستجابة له بإذن الله... لقد وردت آيات وأحاديث حول هذا الموضوع ومنها:
- قال سبحانه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾.
- وأخرج الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الدُّعَاءِ». وأخرج أحمد في مسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ إِمَّا أَنْ تُعَجَّل لَهُ دَعْوَتُهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا قَالُوا إِذاً نُكْثِرُ قَالَ اللَّهُ أَكْثَرُ»، وأخرجه أيضاً الحاكم في مستدركه عن أبي سعيد رضي الله عنه.
وهذه الأدلة تبين أن الله يحب لعبده المؤمن أن يدعوه ويكثر من الدعاء، وأن هناك إجابة للدعاء بإحدى ثلاث كما في مسند أحمد... والاستجابة مسجلة في اللوح المحفوظ، فلا يقع شيء إلا أن يكون مسجلاً منذ الأزل، كما هو مبين في أدلة القدر أدناه.
2- إذا كان هناك دليل قطعي على مسألة يفيد حكماً معيناً، وهناك دليل ظني سنده صحيح على المسألة نفسها يفيد حكماً آخر فيه شبهة تعارض مع الدليل القطعي، فإنه يُعمد في هذه الحالة إلى الجمع بين الدليلين، لأن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما، فإن لم يمكن الجمع فيؤخذ بالدليل القطعي، ويُردّ الدليل الظني درايةً لأن سنده صحيح، أما لو كان سنده ضعيفاً فيُرد لضعفه.
3- من الأدلة على القدر:
- قال تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً﴾. فمعنى ﴿قَدَراً﴾ هنا أي أمراً جرى تقديره في الأزل، ومعنى ﴿مَقْدُوراً﴾، أي حتمي الوقوع، فقدراً مقدوراً أي حكماً مبرماً. أي لا بُدَّ من وقوعه. ﴿ومَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾. ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِين﴾. ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾...
- وكذلك وردت أحاديث في موضوع القدر أو الكتابة في اللوح المحفوظ، ومنها:
عن أبي هريرة قال: قال لي النبي ﷺ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاَقٍ» رواه البخاري، أي قد كتب في الأزل ما أنت لاق... وحديث عمر عن النبي ﷺ الذي روي فيه مجيء جبريل وسؤاله عن الإسلام وعن الإيمان، وقد جاء في الحديث قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الإيمان قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» رواه مسلم، أي تعتقد أن الله تعالى قدر الخير والشر قبل خلق الخلق... وعن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ» رواه الترمذي... وعن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي ﷺ يوماً فقال: «يا غُلاَمُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الأَقْلامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» رواه الترمذي.
4- والآن نأتي للحديثين في أن الدعاء يرد القضاء وفي رواية يرد القدر:
- أخرج الحاكم في المستدرك على الصحيحين عن ابن عباس، عن ثوبان، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ الدُّعَاءَ يَرُدُّ الْقَضَاءَ». وفي رواية أخرى للحاكم عن عبد الله بن أبي الجعد، عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ»، قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه).
5- وبدراسة ما ورد في القدر، وبخاصة الآيات القطعية الدلالة، يُفهم من هذه الأدلة أنه ما من شيء في الأرض ولا في السماء إلاَّ والله قد قدره وسجله عنده، فلا يقع في هذا الوجود شيء إلاَّ وقد سبق أن قدره الله وسجَّله. فما سبق أن قدره الله وسجله لا بُدَّ أن يقع ولا مفر من وقوعه، أي لا شيء يرد القدر فيمنع وقوعه.
ويُفهم من الحديثين أعلاه أن الدعاء يرد القدر، أو يرد القضاء، فالمعنى هنا واحد، وإذن فهنا شبهة تعارض مع الأدلة القطعية الواردة في القدر، وكما ذكرنا آنفاً فيُعمد أولاً إلى الجمع بين الأحاديث وبين الأدلة القطعية، فإن أمكن كان وإلا يُردّ الحديث دراية...
6- وعليه، وبتدبر هذا الأمر أقول وبالله التوفيق:
أ- إن الحديث «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ» بالمعنى الحقيقي لكلمة (يرد القدر) أي يمحوه من اللوح المحفوظ، هذا الحديث بهذا المعنى يُردُّ دراية لأن الأمر المقدر أو المقضي مسجل في اللوح المحفوظ ولا بد أن يقع ولا مفر من وقوعه فلا يتخلف أي لا يُمحى القدر من اللوح المحفوظ، وعليه يُردّ الحديث دراية إذا لم يمكن الجمع، وحينها يؤخذ بالأدلة القطعية في القدر أي أن القدر لا بد من وقوعه ولا يُردّ... ولكن قبل الرد دراية يجب بذل الوسع في الجمع بين الأدلة القطعية والظنية لأن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما.
ب- في الأصول عند تعذر الحقيقة لقرينة مانعة من المعنى الحقيقي، وهي هنا الأدلة القطعية في القدر المذكورة آنفاً، فإنه يُعمد إلى المجاز فيُفهم الحديث بموجبه إذا كان هذا ممكناً حسب اللغة، وهذا ممكن هنا، فكلمة القدر أو القضاء في الحديث بالمعنى المجازي تُفهم بما يترتب عليها أي أثرها، وبعبارة أخرى ما يتسبب عنها بعلاقة السببية، فيذكر السبب ويقصد المسبَّب كما تقول (أنبتت الأرض مطراً) فذكرت السبب (مطراً) وقصدت المُسبَّب أي الناتج عنه (نباتاً)، وهنا كذلك ذكرت (القدر) والمقصود المعنى المجازي أي أثره أو ما ينتج عنه، وعندها يكون الرد ليس للقدر أو القضاء وإنما لأثره، فالمؤمن إذا وقع عليه قدرٌ أو قضاءٌ مثلاً مرضٌ أو فقدُ ولد أو ضياعُ مال وخسارةُ تجارة...إلخ فإن الدعاء يَردُّ أثر ذلك عليه، فكما جاء في حديث الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما قَالَ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوَتْر: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ... وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ...»، فإن المؤمن إذا دعا الله وأكثر من الدعاء أن يكفيه شر القضاء فإن الله يخفف عنه أثره ويعينه على تحمله والصبر عليه، ومن ثم يطيب عيشه رغم وقوع القضاء عليه، أي يخف القضاء عليه ويهون وقعه فكأن دعاءه قد رد القضاء مجازاً أي أعانه الله على تحمله والصبر عليه... وكم من رجل يصاب بشوكة فتضعف قواه ويضطرب أمره، وكم من رجل يصاب بمصيبة ولسانه رطب بذكر الله يدعوه سبحانه بأن يقيه شر هذه المصيبة وأثرها فيصبر عليها ويستقيم أمره، فكأن دعاءه ردها مجازاً. وهكذا يفهم الحديث أي أن القدر يقع ولا بد، ولكن دعاء المؤمن بصدق وإخلاص يرد أثره عليه أي يخف عنه ويُعان على تحمله والصبر عليه ويهون ثقل المصيبة عليه، ومن ثم يطيب عيشه كأن المصيبة لم تقع، وكل ذلك مسجل في اللوح المحفوظ فالله قدَّره ويعلمه منذ الأزل... أي مسجل في اللوح المحفوظ أنه مقدر على هذا العبد مصيبة معينة وأنها تقع... وأن هذا العبد يدعو الله أن يقيه شرها فيستجيب الله له فيعينه على تحملها والصبر عليها فكأنها لم تقع عليه مجازاً.
هكذا يُفهم الحديث كما أرجحه والله أعلم وأحكم.
7- وللعلم، ولمزيد من الفائدة أذكر ما يلي:
أ- جاء في كتابي (التيسير في أصول التفسير):
[ليس معنى استجابة الدعاء تغيير في القدر أو الكتابة في اللوح المحفوظ أو في علم الله، أي لا تعني الإجابة أن الله لم يكن يعلم بدعوة عبده وإجابته لها، وبالتالي لا تكون مسجلة في اللوح المحفوظ، بل يعلمها الله ومسجلها منذ الأزل... إن القدر هو علم الله أي الكتابة في اللوح المحفوظ وكلّ ما هو كائن مكتوب فيه منذ الأزل، فالله يعلم أن فلاناً سيدعوه فإن كان الله قد قدَّر إجابتها تكتب أن فلاناً سيدعو بكذا وكذا، وأن هذا سيتحقق بكذا وكذا... فالدعاء ليس إنشاءً جديداً لم يكن في علم الله أو لم يكن مكتوباً في اللوح المحفوظ، وكذلك الاستجابة، بل كلّ ما هو كائن مسجل في اللوح المحفوظ فالله يعلم الغيب ويعلم ما يفعله العبد قولاً أو عملاً، وكلّ شيءٍ مكتوبٌ مسبقاً منذ الأزل، فالدعاء الذي يدعوه العبد يعلمه الله ومسجل كما هو، وكذلك إجابته كما يريدها الله سبحانه مسجلة منذ الأزل. فالدعاء والإجابة ليستا فوق علم الله بل هما مسجلان في اللوح المحفوظ على وجههما كما سيحدثان، فالله عالم الغيب والشهادة ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ [سبأ/ آية 3.]
ب- جاء في شرح السنة لأبي محمد الحسين البغوي الشافعي (المتوفى 516ه): [(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ... عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلا الدُّعَاءُ»... قلت: ذكر أَبُو حاتم السجستاني (أن دوام المرء عَلَى الدعاء يطيب لَهُ ورود القضاء، فكأنه رده...)]
ج- جاء في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لأبي الحسن نور الدين الملا الهروي القاري (المتوفى: 1014ه):
[قَوْلُهُ: «لا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلا الدُّعَاءُ» الْقَضَاءُ هُوَ الْأَمْرُ الْمُقَدَّرُ... أَوْ أَرَادَ بِرَدِّ الْقَضَاءِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ حَقِيقَتَهُ تَهْوِينَهُ وَتَيْسِيرَ الْأَمْرِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ...]
آمل أن يكون في هذا الكفاية والحمد لله رب العالمين.
السادس عشر من ربيع الأول 1441هـ
2019/11/13م