- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
جواب سؤال
الاحتجاجات في السودان ما لها وما عليها!
السؤال: ما زالت الاحتجاجات التي اندلعت منذ أكثر من شهرين مستمرة حتى يومنا هذا، فهل هي عفوية نتيجة الأوضاع الاقتصادية المتردية؟ أو أن أسباب المظاهرات في السودان هي التوتر في العلاقات بين الخرطوم وواشنطن بعد زيارة نائب وزير الخارجية الأمريكي جون سوليفان للخرطوم في تشرين الثاني 2017؟ فقد رشح أن من بين الأمور التي أثارها في محادثاته مع الجانب السوداني مسألة عدم إعادة ترشيح البشير في انتخابات 2020، وأن البشير توتر بذلك وسافر إلى روسيا نكاية في أمريكا ووافق لها على قواعد عسكرية... وهل هذا يعني أن أمريكا قررت تغيير البشير ولهذا ضيقت الخناق الاقتصادي على السودان فمنعت عملاءها وخاصة السعودية من مساعدة السودان؟ ثم ما تفسير دعم الصادق المهدي للاحتجاجات فهل يعني أن للإنجليز يداً فيها؟ والمعذرة على طول السؤال... وجزاك الله خيراً.
الجواب: حتى يتبين الجواب لا بد من استعراض الأمور التالية:
1- نعم زار نائب وزير الخارجية الأمريكي، جون سوليفان، السودان في 2017/11/16م، والتقى بوزراء الخارجية والمالية، ورئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة، وممثلين عن وزارة السودان الداخلية، وجهاز الأمن والمخابرات الوطني، بالإضافة إلى القائم بأعمال سفارة السودان في أمريكا، كما التقى بعدد من القيادات الدينية في جلسة مغلقة، ثم قدم محاضرة بقاعة الشهيد التابعة لجامعة القرآن الكريم، متحدثاً عن السياسة الأمريكية تجاه السودان. (وطلب المسؤول الأمريكي في هذه المقابلة طبقا لتسريبات بثها موقع "سودان تايمز" الحكومة السودانية بمراجعة وتعديل أو إلغاء عدد من القوانين أبرزها التي تتحدث عن الحكم بإعدام المرتد عن دينه كما دعا إلى "إلغاء المادة الخاصة بالزي في قانون النظام العام، والتي تعاقب النساء بالجلد حال ارتداء ملابس غير محتشمة وفقا لرؤية منفذي القانون من منسوبي الشرطة"، ودعا "للمحافظة على الحرية الدينية للجميع عند صياغة دستور السودان الجديد"... سودان تريبيون 2017/11/18).
2- وصحيح أيضا أن بعض التسريبات ذكرت أن سوليفان طلب من البشير عدم الترشح لانتخابات 2020 وأن البشير لم يرض بذلك، ومن ثم حدث توتر في العلاقات... لكن هذا مستبعد لأن البشير لا يستطيع معارضة تعليمات سيدته أمريكا، فهو لا يترشح إلا إذا أرادت ذلك أمريكا... ولو افترضنا أنه رفض تعليمات أمريكا وأصر على إعادة ترشيحه في انتخابات 2020 وبقائه في الحكم لقامت أمريكا بالانقلاب عليه فتزيله كما جاءت به في انقلاب 1989/6/30... هذا مع العلم أنه عندما تردد في مواقع التواصل (الاجتماعي) أن المسؤول الأمريكي طلب من البشير عدم الترشح لانتخابات عام 2020 قام وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور ونفى ذلك قائلا: "إن الولايات المتحدة لم تفرض أي شروط تقضي بعدم ترشح الرئيس السوداني عمر البشير للانتخابات المزمع قيامها في عام 2020 مقابل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب" وقال: "كل ما بحثناه مع جون سوليفان نائب وزير الخارجية الأمريكي خلال زيارته الأخيرة للخرطوم هو قضايا ذات صلة بحقوق الإنسان والحريات الدينية... القدس العربي 2017/11/14)... ثم إن الزيارة تدل على الانسجام وليس التوتر، فسوليفان اجتمع مع مختلف قطاعات الدولة خلال هذه الزيارة بالتهليل والترحاب! وقد جاءت بعد رفع الإدارة الأمريكية حظر السفر عن مواطني السودان في 2017/9/26 وكذلك بعد رفع بعض العقوبات الاقتصادية التي استمرت نحو 20 عاما على السودان في 2017/10/6... ومن ثم فلم تكن الزيارة لبحث الترشيح بل كان الغرض الرئيسي من تلك الزيارة هو رفع اسم السودان من قائمة "الدول الراعية للإرهاب"، لذلك اشترطت أمريكا بعض الشروط لرفع اسم السودان من قائمة "الدول الراعية للإرهاب" كما سبق ذكره أعلاه في موقع سودان تريبيون. هذا من جهة ومن جهة أخرى، فقد جدد البشير قبل عشرة أيام من زيارة سوليفان إلى السودان تعهداته السابقة بعدم الترشح، (جدد الرئيس السوداني عمر البشير، الاثنين، تعهداته السابقة بالتخلي عن الحكم في البلاد مع نهاية دورته الرئاسية الثانية عام 2020... كلام البشير جاء في خطاب أمام حشد شبابي بمناسبة انعقاد المؤتمر العام السابع للاتحاد الوطني للشباب السوداني غير الحكومي في الخرطوم... الخليج أون لاين 2017/11/6)، ومع أنه ليس صعباً نقض العهود في مثل هذه الدول إلا أن ما تم من تصريحات واتصالات أمريكية مع السودان يستبعد أن يكون الغرض من الزيارة هو منع البشير من الترشح، فقد تواصلت الاتصالات بين أمريكا والسودان بعد الزيارة وبعد انطلاق الاحتجاجات، وذلك لرفع اسمه من قائمة الدول الراعية "للإرهاب" منذ 1993 لأن هذه استمرت بعد إلغاء إدارة ترامب للعقوبات الاقتصادية والتجارية التي فرضتها على السودان منذ عام 1997، واشترطت أمريكا لاستكمال المرحلة الثانية حول إزالة اسم السودان أن يوسع تعاونه في "مكافحة الإرهاب" ويعزز حقوق الإنسان والحريات الدينية والسياسية...إلخ.
3- وكذلك فإن زيارة سوليفان في 2017/11/16 ليست هي الدافع للاحتجاجات التي انطلقت في 2018/12/19 وذلك لأن الموقف الأمريكي بعد الزيارة وخلال الاحتجاجات كان في جانب الحكم وليس في جانب الاحتجاجات، والاتصالات والتصريحات تدل على ذلك... فقد وصل الخرطوم الأحد في 2019/2/17 المساعد الخاص للرئيس الأمريكي وكبير المستشارين لأفريقيا سيريل سارتر، يرافقه مدير دائرة أفريقيا بالأمن القومي دارين سيرايل، واختتم محادثاته في السودان الأربعاء 2019/2/20 وفي أحد تصريحاته قال المساعد الخاص الأمريكي عقب اللقاء بالقصر الجمهوري ("عقدت لقاءً مثمرا وبناءً مع مساعد رئيس الجمهورية وجئت من أجل مواصلة الحوار بين الجانبين بما يقود إلى إزالة اسم السودان من الدول الراعية للإرهاب"، وأكد سيريل أنه "ومع مزيد من الصبر ستتمكن الحكومة من إيجاد حل سياسي وأنه لن يتم فرض أي حلول من الخارج على السودان، لافتا إلى أنه ومن خلال العمل المشترك سيجد البلدان طريقهما إلى شراكة قوية... شروق نيوز 2019/2/18)... وكل ذلك يبين أن الزيارة لم تكن الدافع للاحتجاجات، بل هي تدل على الدعم الأمريكي لحكم البشير، وعدم فرض أي حل من الخارج... ووضع شروط أمريكية لإزالة اسم السودان من قائمة "الدول الراعية للإرهاب".
4- وأما موقف عملاء أمريكا فكذلك كان داعماً للحكم وليس للاحتجاجات، أي ليس كما ورد في السؤال...
وفيما يلي بيان ذلك:
أ- أما عن السعودية... فهي منذ بدء العملية العسكرية في اليمن للتحالف تستمر بضخ استثمارات جديدة في مجالات الزراعة السودانية:
- (والسعودية هي أكبر مستثمر عربي في السودان خلال العام 2016، باستثمارات تقدر بنحو 15 مليار دولار، وتتركز تلك الاستثمارات على الأعلاف والقمح والذرة؛ وتدعم اقتصاد الخرطوم... الخليج أون لاين 2017/7/17)... وأكد سفير المملكة (أن قيمة الاستثمارات السعودية الفعلية في السودان فاقت 12 مليار دولار... موقع البوابة 2018/12/03)... وكذلك (أعلن السودان الاثنين 2018/5/7 توصله لاتفاق مع السعودية لمده بالنفط لمدة خمسة أعوام... سودان تريبيون 2018/5/7).
- قام وفد وزاري سعودي يوم 2019/1/24 بزيارة الخرطوم وأجرى مباحثات مع الرئيس السوداني البشير ناقشت الأوضاع التي يمر بها السودان. وقال وزير التجارة السعودي ماجد القصبي في تصريح صحفي: ("إن زيارة الوفد للسودان جاءت بتوجيه من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع السودان وزيادة التبادل التجاري"، مضيفا "أن الملك سلمان أكد على أن أمن السودان أمن للمملكة، واستقراره استقرار لها وأن السودان أحق بأي علاقة معها من أي دولة أخرى"... الوطن المصرية 2019/1/26) فهذا كله يؤكد أن السعودية لم تتخل عن دعم السودان.
ب- وأما مصر الركيزة الأخرى... فقد قام البشير بزيارة مصر يوم 2019/1/27 ورحب السيسي باستقباله في المطار وأظهر حفاوة به، وهذا يدل على أن أمريكا لم تقرر تنحية البشير، وإلا لما فعل السيسي ذلك وهو الراكن لأمريكا والتابع لها. ووصف الزيارة سفير السودان في مصر بأن ("الزيارة تعد أهم الزيارات توقيتا ومضمونا"... الصباح المصرية 2019/1/27) علما بأن البشير قد زار مصر والتقى بالسيسي في 2018/11/6 بعد زيارة السيسي للسودان يوم 2018/10/25 يرافقه 12 وزيرا ووقع 12 اتفاقا... وبعد اندلاع الاحتجاجات مباشرة قام وزير خارجية مصر سامح شكري ورئيس مخابراتها فزارا السودان والتقيا مع عمر البشير ونظرائهما. فقال شكري بعد اللقاء: "إن مصر تثق في أن السودان سيتجاوز الظروف الحالية. وإن مصر دائما على استعداد لتقديم الدعم والمساندة للسودان. وإن أمن واستقرار السودان من أمن واستقرار مصر"... البوابة المصرية 2018/12/27) وهذا يدل على أن مصر ما زالت تدعم السودان.
ج- وأما داخلياً فإن القوى الأمريكية المحلية الأهم هي الجيش، وقد كان موقف الجيش السوداني من الاحتجاجات بجانب البشير وحماية نظامه، فقد أعلن الجيش في بيان له ("التفافه حول قيادته وحرصه على مكتسبات الشعب وأمن وسلامة المواطن في دمه وعرضه وماله"... عربي بوست 2018/12/23) وقال رئيس الأركان في القوات المسلحة السودانية كمال عبد المعروف في مخاطبته لضباط برتبتي العميد والعقيد ("إن الجيش لن يسلم البلاد لشذاذ الآفاق من قيادات التمرد المندحرة، ووكلاء المنظمات المشبوهة بالخارج"... مصر العربية 2019/1/30) وهذا يدل على أن الجيش ما زال يدعم البشير، وهكذا كان موقف القطاعات العسكرية والأمنية الأخرى: (هدد الفريق محمد حمدان دقلو حميدتي قائد قوات الدعم السريع في السودان بأن قواته مستعدة للتصدي لمن وصفهم بالجشعين... المسيرة نت 2018/12/26). وكذلك (قال مدير جهاز الأمن والمخابرات السوداني صلاح قوش في تصريح مقتضب بالبرلمان "هناك مبادرات كثيرة في الساحة لكن يجب أن يعلم الجميع أن أي مبادرة تخرج عن الشرعية القائمة لا مكان لها"... الجزيرة نت 2019/2/21). وأمريكا تستخدم الجيش للقيام بالانقلابات وقد تركزت فيه منذ انقلاب النميري عام 1969...
5- أما بالنسبة للمعارضة، فقد ("دعا الصادق المهدي رئيس حزب الأمة في اليوم الرابع للاحتجاجات إلى تشكيل حكومة وفاق جديدة يشارك فيها جميع الأطراف". وقال إنه "يدعم الاحتجاجات الشعبية في البلاد، لكنه أكد أن حزبه لن يشارك فيها"... هيئة الإذاعة البريطانية 2018/12/22) ولكنه عندما رأى استمرار الاحتجاجات أعلن تبنّيها (أعلن رئيس حزب الأمة القومي رئيس تحالف "نداء السودان" الصادق المهدي تأييده للحراك الشعبي الداعي لإسقاط النظام، ودعا لوقف قتل المتظاهرين قبل أن يطالب الرئيس عمر البشير بالتنحي... سودان تريبيون 2019/1/25)، أي بعد أكثر من شهر من الاحتجاجات محاولاً استغلالها فيما بعد... والصادق المهدي معروف بولائه للإنجليز، وقد ترأس الحكومة السودانية بين 1986 و1989 وهو الذي قلبه البشير بعد ذلك. ثم نشأ تجمع المهنيين السودانيين كتنظيم مواز للنقابات الرسمية الموالية للحكومة، وتجمع المهنيين هذا لأوروبا تأثير فيه عن طريق المهدي وهو محاولة ليكون البديل للنقابات الرسمية التي يسيطر عليها النظام، وقادته الذين في الخارج يستقرون في أوروبا (وقد ذُكر من قادته في الخارج ويتحدثون باسمه كل من الصحفي محمد الأسباط في فرنسا والدكتورة سارة عبد الجليل في بريطانيا. موقع بي بي سي 2019/1/24). وكذلك تخللت الاحتجاجات توجهات علمانية وحركات أخرى هامشية ليست مؤثرة في التغيير... ومع أن تأثير الإنجليز يتخلل هذه التجمعات وبخاصة في حزب الصادق المهدي، إلا أن هذا التأثير غير قادر على التغيير الفعلي، ولكن استمرار الاحتجاجات يعطيه قوة لخبرة الإنجليز في استغلال الاحتجاجات، ولذلك تأخر إعلان حزب المهدي دعم الاحتجاجات نحو شهر ظنا منه أن البشير سيخمدها في أيامها الأولى فلما امتدت ركب موجتها! ثم بعد أكثر من شهرين قوي عود المهدي فأكد على تنحي البشير (وأبدى استعداده للقاء ممثلي المعارضة للاتفاق على تفاصيل العبور نحو النظام الجديد... سبوتنيك 2019/3/2). وهكذا فكلما تأخرت قدرة النظام على وقف الاحتجاجات ازدادت قوة عملاء الإنجليز، ولذلك أخذت أمريكا في الحسبان هذا الأمر، فتحسباً لأي طارئ فقد رتبت أمريكا مع البشير اقتحام هذه التجمعات بانسحاب بعض الأحزاب السياسية المشاركة في الحكومة منها ومن ثم يكونون معارضة: (أعلن رئيس حزب الأمة مبارك الفاضل فضّ شراكة حزبه مع المؤتمر الوطني الحاكم وانسحابه من الحكومة... موقع النيلين 2018/12/28) وكذلك انسحاب غازي صلاح الدين: (قررت حركة الإصلاح الآن سحب كافة ممثليها في المجالس التشريعية خلال مؤتمر صحفي تحدث فيه رئيسها غازي صلاح الدين... وكالة سوا الإخبارية في 2019/1/1)، وقد انتخب غازي صلاح رئيساً للجبهة الوطنية للتغيير ("انتخبت الجمعية العمومية للجبهة الوطنية للتغيير أمس دكتور غازي صلاح الدين رئيسا للمجلس الرئاسي للجبهة"... الخليج 365 في 2019/2/14)، وبالإضافة لهذا الاقتحام واستباقاً لتصعيد الاحتجاجات واستغلال أوروبا لها فقد أعطت الضوء الأخضر للبشير بفرض حالة الطوارئ وقد تم فرضها في 2019/2/22... ومؤخراً في 2019/2/28 انسحب حزب الميرغني من الحكومة وهو المعروف بعلاقاته مع أمريكا (أعلن الحزب الاتحادي الديمقراطي بقيادة محمد عثمان الميرغني، الخميس، إنهاء كل اتفاقات الشراكة في الحكم التي وقعها مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم والانسحاب من الحكومة السودانية"... العين الإخبارية 2019/2/28)... ثم كانت الخطوة الجديدة لتهدئة المعارضة بإعلان البشير نفسه محايدا ليس مع طرف ضد طرف! (فوض الرئيس السوداني صلاحياته كرئيس لحزب المؤتمر الوطني لنائبه في هروب للأمام مع انحسار خياراته في مواجهة أسوأ أزمة خلال ثلاثة عقود من حكمه... وقال الحزب في البيان إن ذلك القرار يأتي "وفاءً لما جاء في خطاب السيد الرئيس للأمة من أنه يقف على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية". ميدل إيست أون لاين 2019/3/1). والبشير بهذا يخدع نفسه قبل أن يخدع الآخرين، فكيف يكون على الحياد وهو رئيس الدولة، وحزبه هو الحزب الحاكم؟ فحتى لو كلف غيره برئاسة الحزب فلن يكون أكثر من ناحية شكلية فحسب؟!
على كل، هو من الأساليب لتهدئة الاحتجاجات! وكل ذلك لمحاولة التأثير في المعارضة واحتواء الاحتجاجات خاصة وأن للنظام الآن قوى اقتحمت المعارضة فإن لم تستطع هذه القوى احتواءها تحاول قيادتها أو الاشتراك المؤثر في قيادتها ومن ثم تبقى هيمنة أمريكا مستمرة...
6- أما زيارة البشير إلى موسكو التي استمرت لمدة 4 أيام في 2017/11/22 أي بعد ستة أيام من زيارة سوليفان إلى السودان فتلك الزيارة لم يقم بها البشيرُ ليشكو أمريكا عند روسيا، بل جاءت بأمر ورضا من أمريكا والدليل على ذلك (كشفت صحيفة سودانية، اليوم الأربعاء، عن صفقة بين الخرطوم وواشنطن، تقضي بتأمين مسار طائرة الرئيس السوداني عمر البشير إلى روسيا في مقابل قبول إلغاء قوانين مثيرة للجدل تعترض عليها الإدارة الأمريكية، تزامناً مع بدء أول زيارة للبشير إلى موسكو. وقالت مصادر مُطلعة لصحيفة "الراكوبة"، إن النظام السوداني حصل على ضمانات من قِبل نائب وزير الخارجية الأمريكي، جون سوليفان، في زيارته إلى الخرطوم، بعدم اعتراض طائرة البشير في مقابل تمرير مقترحات أمريكية تقضي بإتاحة الحريات الدينية، وإلغاء مواد قانونية مثيرة للجدل وتختص "بالردة، والميراث، والزي الفاضح"... مصراوي 2017/11/22) وذلك لأنه لو لم يكن بأمر من أمريكا لما تمكن البشير استخدام المجال الجوي السعودي حيث إن الدولة المستعمرة التي يواليها النظام السعودي تؤثر في التحكم بالمجال كما حصل في عهد الملك عبد الله العميل لإنجلترا في 2013 فقد كانت بريطانيا لا ترغب وصول البشير إلى إيران لأنها لا تريد للنظام الإيراني أن يحصل على شهرة بتوافد كثير من الرؤساء لحفل تنصيب الرئيس، ولذلك منعت السعودية طائرة البشير حسب رغبة بريطانيا (أعلنت الرئاسة السودانية أن السعودية منعت طائرة الرئيس الأحد من عبور أجوائها لحضور حفل أداء الرئيس الإيراني اليمين في طهران، ما اضطره إلى العودة أدراجه... فرانس24 في 2013/8/4).
7- إن كل ما سبق يستبعد وقوف أمريكا وراء الاحتجاجات... وبريطانيا ليست لها القدرة على إطلاقها... وإذن كيف بدأت واستمرت؟
والجواب عليه أن الاحتجاجات انطلقت بشكل عفوي بسبب تصاعد أزمة عيش الناس في السودان، والمسألة بتمامها على النحو التالي:
أ- لقد توهم البشير ومن معه أنه بتنازله عن جنوب السودان تنفيذا لأوامر أمريكا سيعيش السودان في رفاهية وأمن وستدعمه أمريكا بعدما ترفع عنه العقوبات... ولكن العكس حدث إذ بدأت الحالة الاقتصادية تتدهور أكثر وتتأزم، واشتدت الأزمة مع بداية 2018 وبعد رفع العقوبات الأمريكية عن السودان! فقامت الحكومة برفع أسعار الخبز ورفع قيمة الدولار الجمركي لثلاثة أضعاف وتراجعت قيمة العملة المحلية مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وتبعتها أزمات الوقود... وتضاعفت أسعار الخبز إلى أن أصبح نادرا، فيقف المرء ساعات طويلة في صف طويل للحصول على رغيف الخبز الذي ارتفع سعره فوق ما يتحمله الناس... فبلغت نسبة التضخم نحو 70% وقام البنك المركزي بحجز الأموال عن البنوك في محاولة لوقف انخفاضها وارتفاع سعر الدولار إلى أن اضطرت إلى خفض سعر العملة أكثر من 60% ليصبح سعر الدولار 47,50 جنيها، وانخفض إلى أن أصبح يوم 2019/2/20 في السوق الموازي (السوق الحرة) 75 جنيها مقابل الدولار...
ب- وبلغت نسبة الفقر بين سكان السودان إلى مستويات قياسية، فقد أكد الجهاز المركزي للإحصاء على ("أن معدل الفقر يزيد عن ثلثي السكان استنادا إلى نتائج مسح أجري في العام 2014 كأول دراسة منذ انفصال جنوب السودان عام 2011"). وكل ذلك يحدث بعدما أطلق صندوق النقد الدولي توصياته، بل أوامره كما يفعل في كل مكان، إذ طالب الحكومة بتعويم العملة ورفع الدعم عن المحروقات والكهرباء والقمح متعهدا مع البنك الدولي بتقديم المساعدات الفنية للسودان في تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي! وقد جاء هذا التعهد في اجتماع الصندوق والبنك الدوليين على هامش اجتماعات في جزيرة بالي بإندونيسيا في تشرين الأول 2018. علما أن الصندوق الدولي طالب الحكومة بتعويم الجنيه في تقريره السنوي الذي أعده في كانون الأول 2017 وأكد أن ذلك ضروري لخلق الظروف اللازمة لاجتذاب المستثمرين وتعزيز التنمية الاقتصادية في البلاد كما طالب الحكومة بإلغاء دعم الكهرباء والقمح بين عامي 2019 و2021 بعد تعويم العملة. فانصياع النظام السوداني لهذه الأوامر أدى به إلى ما أدى من تدهور الحالة الاقتصادية والمعيشية لدى الناس.
ج- وهكذا أصبحت ظروف السودان مهيأة للانفجار فكان هذا الخروج إلى الشارع بشكل عفوي بسبب تفشي الفقر وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وزيادة البطالة وسوء توزيع الثروات، وكل ذلك لتطبيق البشير النظام الرأسمالي واتباع توصيات مؤسساته المالية من الصندوق والبنك الدوليين، ولخضوعه للضغوطات الأمريكية. فهو نظام موال لأمريكا وينفذ سياستها، وبخاصة
فصل الجنوب وفقدان الدولة لدخلها الكبير من النفط (وإثر انفصال جنوب السودان عام 2011، فقدت الخرطوم ثلاثة أرباع مواردها النفطية، التي كانت تضخ في خزانتها نحو 80% من موارد النقد الأجنبي. الجزيرة نت 2018/12/26)، فتصاعد ضيق العيش على الناس... ومن ثم اندلعت شرارة الثورة السودانية في شمال البلاد بولاية نهر النيل بمدينة عطبرة في 2018/12/19 ثم انتشرت في مدن السودان كافة، وهي ما زالت مستمرة، ونيرانها لم تخمد ولهم مطلب واحد فقط لا غير وهو رحيل النظام...
وهكذا فقد انطلقت الاحتجاجات عفوياً ثم تداخلت معها قوى لاستغلالها إلى جانبها لتحقيق مصالح تلك القوى وحرف الاحتجاجات عن مسيرتها كما بيناه أعلاه.
8- وفي الختام فإن هناك أمرين جديرين بالتدبر وإنعام النظر:
أما الأول فإن أول ما تفرضه أمريكا على عملائها هو بذل الوسع في خدمة مصالحها، وقد بذل البشير الوسع في ذلك حتى إنه خان قسمه ففصل الجنوب عن السودان... وحتى اليوم فإن أمريكا ما زالت تدعم البشير فاتصالاتها به وبنظامه كما بيَّنا تدل على ذلك... لكن إذا استمرت الاحتجاجات ولم يقدر البشير على ضبطها في وقت قريب فإنه يسقط من عين أمريكا ومن ثم يصبح عاجزاً عن خدمة أمريكا في مصالحها، وعندها يرجح أن تسعى أمريكا لتغييره، ولعل ترتيب انسحاب بعض رجالها من الحكومة ليركبوا موجة المعارضة وبخاصة حزب الميرغني الموالي لها... لعل كل ذلك يكون سائراً في هذا الاتجاه، أي تهيئة البديل، لأن أي تغيير للبشير يتطلب وجود البديل المقبول لدى الناس، وأمريكا تستعمل هذا الأسلوب مع عملائها، فقد استعملته مع مبارك فلما لم يستطع ضبط الاحتجاجات أمرته بالرحيل فاستقال وكلف الطنطاوي ومجلسه العسكري مكانه... فهو أسلوب معتاد عند أمريكا، فقط إنها تحتاج البديل قبل أن تأمر عميلها بالرحيل، فهي تخشى إن كان التغيير قبل إنضاج البديل أن يصل إلى الحكم رجال صادقون مخلصون يكونون شوكة في حلقها بل خنجراً في صدرها، وإبقاء عميلها بشار حتى الآن هو من هذا الباب...
وأما الأمر الثاني فإن الذي يُخشى منه هو أن تضيع تلك الدماء من القتلى والجرحى وتلك الخسائر في الشوارع والمرافق العامة، وتفضي الاحتجاجات في النهاية إلى تبديل عميل بعميل ويبقى الدستور الوضعي قائماً في البلاد يزهق الأنفس ويرهق العباد... وهذا ما نحذر منه وذلك لأن الاحتجاجات حتى اليوم لا تتبنى مطالب الإسلام ولا تطالب بوضع أحكام الشرع موضع التطبيق باتباع قيادة صالحة صادقة تعمل لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة... ومن ثم تبقى الأزمة السياسية هي هي بل قد تكون أسوأ، وتكون الأزمة الاقتصادية هي هي بل قد تكون أسوأ، وقول الله هو الحق المبين ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً﴾ وصدق الله العليم الحكيم ﴿فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ﴾.
السابع والعشرون من جمادى الآخرة 1440هـ
2019/3/4م