- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
معنى الحاكم، الحاكمية، السيادة والحكم والقضاء، والعلاقة بينها
إن ألفاظ اللغة العربية إما أن تكون حقيقة لغوية أو حقيقة شرعية أو حقيقة عرفية.
وعرفت الحقيقة اللغوية بأنها اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب، وأيضا الحقيقة اللغوية هي اللفظ المستعمل في ما وضع له أولا في اللغة، أي هي اللفظ الذي وضعه أهل اللغة بإزاء معنى معين للدلالة عليه.
والحقيقة الشرعية، هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا في اصطلاح الشرع، وبتعبير آخر هي اللفظة التي انتقلت عن مسماها اللغوي إلى غيره لاستعمال الشرع لها بالمعنى الذي انتقلت إليه. والحقيقة العرفية، هي اللفظ المستعمل فيما وضع له بعرف الاستعمال اللغوي، أي هي اللفظة التي انتقلت عن مسماها اللغوي إلى غيره، للاستعمال العام في اللغة بحيث هجر الأول وهو ما تعارف عليه أهل اللغة، أي تعارف العرب على استعمالها مثل لفظ الدابة فهي تعني كل ما دب على الأرض من الإنسان والحيوان، ثم أطلقت فقط على الحيوان، وكذلك الغائط ومعناها المكان المنخفض ثم أطلقت على القذرات التي تخرج من الإنسان.
وأما ما يوضع من مصطلحات لمختلف العلوم والصناعات والأعمال فهي عرفية خاصة، وهنا يتعلق البحث بتوصيف معاني المصطلحات الواردة أعلاه وتوضيح العلاقة بينها ما أمكن.
أولا الحاكم: ويراد به من له حق إصدار الحكم على أفعال الناس وعلى الأشياء المتعلقة بها، وليس المراد هنا بالحاكم صاحب السلطان المنفذ للأحكام المتعلقة بتنظيم شؤون حياة الناس، بل بالمعنى الاصطلاحي بمن له حق إصدار الحكم على أفعال الناس والأشياء المتعلقة بها!.
فيكون السؤال، هل الله سبحانه تبارك وتعالى هو الحاكم بهذا المعنى؟ أم الإنسان نفسه؟ وبعبارة أخرى، هل الشرع هو الحاكم أم العقل؟
والمقصود من إصدار الحكم هو تعين موقف الإنسان تجاه الفعل، هل يفعله أو يتركه أو يخير بين فعله وتركه، وكذلك تعيين موقفه تجاه الأشياء المتعلقة بأفعاله، هل يأخذها أم يتركها أو يخير بين الأخذ والترك.
وتعيين موقف الإنسان من هذه يتوقف على نظرته لها أهي حسنة أم قبيحة أو ليست بالحسنة ولا بالقبيحة. فيكون السؤال هل الحكم بالحسن والقبح للعقل أم للشرع؟ بمعنى أن الله تبارك وتعالى هو المشرع أم الإنسان يشرع لنفسه ولغيره؟
وحيث إن الحكم يكون على الأفعال والأشياء من ثلاث جهات أحدها من حيث واقعها والثاني من حيث ملاءمتها لطبع الإنسان والثالث من حيث الثواب والعقاب أو المدح والذم؛
فالحكم على الأشياء من ناحية واقعها وملاءمتها للإنسان يكون للإنسان نفسه، أي للعقل وليس للشرع، فالعقل هو الذي يحكم على الأفعال والأشياء من ناحية واقعيتها وملاءمتها لطبع الإنسان، والشرع لا يحكم في أي منها مثل (العلم حسن والجهل قبيح)، فإن واقعهما ظاهر من الفرق الشاسع بينهما، وأيضا (الغنى حسن والفقر قبيح)، و(إنقاذ الغريق حسن وأخذ الأموال ظلما قبيح) (والحلو حسن والمر قبيح)، وهذا يرجع إلى واقع الشيء الذي يحسه الإنسان ويدركه عقله، أو يرجع إلى فطرة الإنسان ويدركه العقل، فكان إصدار الحكم على الأفعال والأشياء من ناحية واقعهما وملاءمتهما للإنسان.
أما الحكم على الأفعال والأشياء من ناحية المدح والذم عليها في الدنيا والثواب والعقاب عليها في الآخرة فهو لله وحده تبارك وتعالى وليس للإنسان، وذلك كحسن الإيمان وقبح الكفر وحسن الطاعة وقبح المعصية وحسن الكذب في المعركة وقبحه مع الحاكم الكافر ومع غيره في السلم، لأن واقع العقل أنه إحساس وواقع ومعلومات سابقة ودماغ، فالإحساس جزء جوهري من مقومات العقل، فإذا لم يحس الإنسان بالشيء لا يمكن لعقله أن يصدر حكما عليه لأن العقل مقيد حكمه على الأشياء بكونها محسوسة فيستحيل عليه إصدار حكم على غير المحسوس، وكون الظلم مما يمدح أو يذم ليس مما يحسه الإنسان، فلا يمكن للعقل إصدار حكم عليه بمدحه أو ذمه، وإن كان الإنسان يشعر بفطرته بالنفرة من الظلم أو الميل له فإن الشعور وحده لا ينفع في إصدار العقل حكمه على الأشياء، بل لا بد للعقل من الإحساس بالشيء ليتمكن من إصدار الحكم عليه فلا يجوز للعقل إصدار حكمه على الأفعال والأشياء التي لا يستطيع الإحساس بها.
ثانيا: لا يجوز جعل إصدار الحكم بالمدح والذم لميول الإنسان، لأن هذه الميول تصدر الحكم بالمدح على ما يوافقها وبالذم على ما يخالفها، وقد يكون ما يوافقها مما يذم، كالزنا وفعل قوم لوط واستعباد الناس وظلمهم، وقد يكون ما يخالفها مما يمدح كقتال العدو والصبر على المكاره، فجعل الحكم للميول والأهواء يجعل الحكم بالمدح أو الذم حسب الهوى والشهوات لا حسب ما يجب أن تكون عليه، لذلك لا يجوز للميول أن تصدر حكما بالمدح أو الذم، أيضا فإنه لو ترك للإنسان أن يحكم على الأفعال والأشياء بالمدح والذم لاختلف الحكم باختلاف الأشخاص والأزمان، والمشاهد المحسوس أن الإنسان يحكم على الأشياء أنها حسنة اليوم ثم يحكم عليها غدا أنها قبيحة، فيختلف الحكم على الشيء الواحد ولا يكون حكما ثابتا، لذلك لا يجوز أن يجعل للعقل ولا للإنسان حق الحكم بالحسن والقبح على أفعال الناس والأشياء المتعلقة بها.
وعليه لا بد من أن يكون الحاكم على أفعال الناس وعلى الأشياء المتعلقة بها من حيث المدح والذم هو الله تبارك وتعالى وليس الإنسان، بمعنى أن الحاكم المسير لإرادة الناس هو الشرع وليس العقل، هذا من حيث الدليل العقلي.
أما من حيث الدليل الشرعي فإن الشرع أمر باتباع الرسول ﷺ وذم الهوى ومخالفة الرسول ﷺ فكان من المقطوع به شرعا أن الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع، وفوق ذلك فإن الحكم على الأشياء من حيث الحل والحرمة وعلى أفعال العباد من حيث كونها واجبا أو حراما أو مندوبا... وعلى الأمور والعقود من حيث كونها صحيحة أو باطلة أو سببا أو شرطا ليس من قبيل ملاءمتها للطبع أو عدم ملاءمتها، ولا من قبيل معرفة واقعها وإنما من قبيل ترتيب المدح والذم عليها في الدنيا والثواب والعقاب عليها في الآخرة، لذلك كان الحكم في شأنها للشرع وحده وليس للعقل.
فيكون الحاكم على الأفعال والأشياء المتعلقة بها وعلى الأمور والعقود هو الشرع وحده ولا حكم للعقل في ذلك مطلقا، ويجب اتباع الشرع والتقيد به، والحكم بما أنزل الله تبارك وتعالى على رسوله ﷺ، قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [سورة المائدة: 44-50].
ومن هذه الآيات الكريمة وأمثالها استنبط أبو الأعلى المودودي مصطلح الحاكمية وتبعه في ذلك سيد قطب رحمهما الله.
والحاكمية تعني: أن الله هو الحاكم المشرع المنفرد بإنشاء الأوامر والنواهي والأحكام، المختص بالتحليل والتحريم، الواضع التصورات عن ذاته سبحانه وتعالى وعن الكون والإنسان والحياة، الواجب طاعته والانقياد لأمره ونهيه بجعل الإسلام وقوانينه وتشريعاته وقيمه وآدابه وأخلاقه وتصوراته عن الكون والإنسان والحياة وما قبلها وما بعدها أساسا لحياته وتنظيم شؤونها. (صفحة 75 كتاب الحاكمية في الفكر الإسلامي للدكتور حسن الحساسنة، بتصرف).
ويقول الكاتب في صفحة 70 لا شك أن للحاكمية أبعاداً عقدية يدركها أدنى متأمل في النصوص الشرعية التي تحدثت عن أوصاف الألوهية، وهذه المعاني تندرج تحت ما يسمى بالحاكمية الإلهية، وهذا مراد العلماء عند قولهم: أن الحاكم هو الله تبارك وتعالى، عندما يتحدثون عن الحاكم في الفقه الإسلامي. يقول محمد أبو زهره رحمه الله (اتفق جمهور المسلمين بل أجمع المسلمون، فإن الإجماع قد انعقد على أن الحاكم في الإسلام هو الله تبارك وتعالى) ومعنى الإجماع هنا أي لا خلاف بين المسلمين على ذلك، بمعنى أن الله تبارك وتعالى هو من يصدر الحكم بالتحسين والتقبيح على أفعال الناس والأشياء المتعلقة بها وعلى الناس الذي طاعته مطلقة والرجوع والالتزام بشرعه سبحانه وتعالى.
ومعنى أن الله هو الحاكم أي المشرع المسير لإرادة الفرد ولإرادة الأمة، فإرادة الفرد مسيرة بأوامر الله ونواهيه تبارك وتعالى ولا يملك مخالفتها وليس له أن يفعل كما يشاء، وكذلك الأمة ليست مسيرة بإرادتها تفعل ما تريد وما يحلو لها، بل هي مسيرة بأوامر الله ونواهيه ولا تملك مخالفتها ولا الخروج عليها، وهي محكومة بأمر الله وطاعته وتنفيذ أمره ونهيه.
قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 59-60] وقال الله تبارك وتعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65] ومعنى رده إلى الله ورسوله هو رده إلى حكم الشرع والالتزام به، فالذي يتحكم في الأمة والفرد ويسير إرادتهما هو الشرع الذي جاء به الرسول ﷺ والأمة وأفرادها يسيرون إرادتهم بالشرع ويلتزمون به ويخضعون لحكمه، وهذا هو معنى السيادة للشرع، والمقصود به أن الممارس للإرادة والمسير لها هو الشرع وليس الأمة ولا أفرادها.
وإن كان مفهوم السيادة اصطلاحا غربيا ويراد به الممارس للإرادة والمسير لها والمهيمن عليها، من هنا جاء في الفكر الغربي أن السيادة للشعب بمعنى أن الشعب هو من يضع القوانين والأنظمة الواجب اتباعها والالتزام بها فكان سيد نفسه، أما عند المسلمين فالسيادة للشرع وليست للأمة، فإرادة الفرد مسيرة بأوامر الله ونواهيه ولا خيار له في ذلك، وكذلك الأمة إرادتها مسيرة بأوامر الله ونواهيه ولا تملك إلا طاعة الله والالتزام بشرعه، فيكون معنى السيادة والحاكمية والحاكم الذي يصدر الحكم على أفعال الناس والأشياء المتعلقة بها: من يصدر الحكم على أفعال الناس والأشياء المتعلقة بها.
وأما الحاكم بمعنى صاحب السلطان المنفذ للأحكام المتعلقة برعاية شؤون الناس وتنظيم حياتهم وتدبير أمرهم فهو معنى اصطلاحي، اتفق الناس على تسمية من يسوسهم وينفذ الشرع عليهم ويرعى شؤونهم أنه حاكم عليهم، ومعنى الحاكم لغة منفذ الحكم، ومعنى كلمة الحكم لغة القضاء، والقضاء هو الإخبار بالحكم الشرعي على سبيل الإلزام، والقاضي لا يلزم أحدا بشيء بل هو يصدر حكمه في القضية المعروضة أمامه حسب الأصول المتبعة في القضاء، والحاكم صاحب السلطان صاحب الأمر والنهي (ولي الأمر)، هو من يكلف من يقوم بتنفيذ حكم القاضي، بمعنى أن الشرطة هي التي تقوم بتنفيذ حكم القاضي وقد كلفها الحاكم المنوط به تنفيذ الأحكام وتنظيم شؤون الناس ورعايتهم، كما أنه هو الذي يكلف القاضي بالقضاء بين الناس وفض التنازع بينهم، وإلا لما استطاع القاضي أن يعقد مجلسا للقضاء ولا كان لحكمه أي اعتبار، ولا يصبح القاضي قاضيا إلا بعد تكليفه من الحاكم صاحب السلطان (ولي الأمر) أو من ينوب عنه بتعيين القضاة، فمنصب القاضي لا يكون منفصلا مستقلا ذاتيا من عند نفسه، فحتى يكون هناك قضاة لفض النزاعات بين الناس وتمكينهم من استيفاء حقوقهم لا بد من وجود خليفة أو إمام أو أمير (سلطان) انتخبه الناس ليحكمهم ويرعى شؤونهم وينظم حياتهم بالشريعة الإسلامية ليقلد القاضي القضاء، ولا وجود للقاضي قبل تكليف صاحب السلطان له بالقضاء، بمعنى آخر وجود القاضي مرتبط أولا بوجود - الحاكم - ولي الأمر أو من ينوب عنه، والحاكم هو من ينفذ الأحكام، ووجود القاضي مستند لوجوده، فكان لا بد من إيجاد الحاكم ولي الأمر لتكليف من يراه أهلا للقضاء ليكون قاضيا، فيكون المراد بكلمة الحاكم والحكم في الغالب عند ذكرها المعنى الاصطلاحي وذلك حسب السياق في الآيات الكريمة المتعلقة في الحكم والحاكم، كما أن المراد بكلمة الحكم هو رعاية شؤون الناس وتحقيق مصالحهم وسياستهم بالشريعة الإسلامية لاشتمالها وتحقيقها للمعنى اللغوي والاصطلاحي.
وقد يكون المراد المعنى اللغوي من كلمة الحكم وهو القضاء وذلك حسب سياق الآية مثل الآية الكريمة، قال الله تبارك وتعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [سورة المائدة: 42]
وأيضا حين يأتي القاضي للمحكمة لا يقال جاء الحاكم بل يقال جاء القاضي وحين يصدر حكمه يقال حكم القاضي ويذيل قرار حكمه بالقاضي ولا يوقع بالحاكم، إذ إن الحاكم ولي الأمر غير القاضي، ويمكن للحاكم صاحب السلطان أن يعقد مجلس قضاء برئاسته ليقضي في قضية ما لأنه في الأصل هو صاحب صلاحية رعاية الناس وتنظيم شؤون حياتهم بتطبيق الشرع عليهم.
فكان في المعنى الاصطلاحي لكلمة الحاكم أن الحاكم والملك والسلطان بمعنى واحد وهو السلطة التي تنفذ الأحكام، والحاكم هو السلطان صاحب الأمر والنهي ومن يتولى رعاية الناس بتنظيم شؤونهم وتحقيق مصالحهم حسب الشريعة الإسلامية وهو من يعين القاضي ليفض النزاعات بين الناس، وشرعية القاضي مستندة إلى تعين الحاكم له قاضيا، كما أن الحاكم يعين المعلم ليعلم الناس ويعين الطبيب ليعالج المرضى ويجند الجند ويعدهم لحماية البلاد ونشر الإسلام ويعد الشرطة لحماية البلاد من المفسدين والبغاة وقطاع الطرق ومن يبث الفساد والفوضى في البلاد ويعتدي على الناس وممتلكاتهم، فكان الحاكم هو صاحب صلاحية تنفيذ الأحكام الشرعية هو ولي الأمر الذي جاء وصفه في الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [سورة النساء: 59].
وحين عرض رسول الله ﷺ نفسه على بني عامر بن صعصعة اشترطوا عليه أن يكون الأمر من بعده لهم فقال ﷺ: «الأمر لله يضعه حيث يشاء» فهم قد طلبوا الحكم أن يكون لهم من بعده ﷺ، فقول الرسول ﷺ لبني عامر «الأمر لله يضعه حيث يشاء»، إشارة واضحة أنه ليس هناك لأي مسلم الحق المسبق ليكون حاكما للمسلمين بصفة مميزة له عن غيره من المسلمين من نسب أو علم أو هيئة معينة تجعله حاكما عليهم فكل مسلم رجل بالغ عاقل يجوز أن يختاره المسلمون ويبايعونه على أن يحكمهم ويسوسهم بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، والسياسة من ساس يسوس، وهي رعاية شؤون الناس وسياستهم بتدبير أمرهم وحملهم على تنظيم شؤون حياتهم بالشريعة الإسلامية وهي من الحكم، فالحاكم يرعى شؤون الناس ويسوسهم بتطبيق الشرع عليهم مباشرة ويحفظ دماءهم وأعراضهم وأموالهم وبلادهم بحيث لا يتمكن عدوهم منهم ولا تحقيق أي فائدة له من بلادهم، والناس يمارسون السياسة بمحاسبة الحاكم وحمله على الالتزام بتطبيق الشريعة الإسلامية في تسيير شؤون الدولة داخليا وفي الخارج حسب الأحكام الشرعية.
والرسول ﷺ كان يحصر السلطان والقيام بسياسة الناس به ﷺ بوصفه رئيس دولة، وكان هو الذي يولي من يقوم مقامه في المدينة حين كان يخرج لغزوة من الغزوات، وولى الولاة والقضاة وجباة الأموال ومن يقوم بمصلحة من المصالح كتوزيع المياه وخرص الثمار وأمانة بيت المال، وهذا دليل على أن الشرع أعطى سياسة الناس للخليفة ولمن يوليه الخليفة، فلا يحل لأحد غير الخليفة وغير من يوليه الخليفة أن يقوم بأي عمل من أعمال الحكم أو القضاء أو بإدارة مصالح الدولة، أو برعاية شؤون الناس رعاية إلزامية، لأن هذا هو عمل الحاكم المعين شرعا ولا يجوز لغيره القيام بشؤون الحكم وتنفيذ الأحكام على الناس بدون ولاية شرعية، فالسياسة هي رعاية شؤون الناس وتحقيق مصالحهم وإنصافهم وإشاعة العدل بينهم حسب مبدئهم ووجهة نظرهم في الحياة وطريقة عيشهم التي تحددها أفكارهم عن الحياة وعقيدتهم، ولا تكون إلا للخليفة الذي بايعه الناس وأعطاه الشرع السلطان ومكنه من تنفيذ أحكام الشرع عليهم، والسياسة هي أيضا فن الممكن من باب أنها تتعامل مع ما يمكن تحقيقه وليس مع المستحيل برعاية الناس وتحقيق مصالحهم بتطبيق الشرع عليهم بحكمهم بالإسلام ونشره وحفظ بلاد المسلمين من عدوهم أو الطامع في بلادهم. ﴿والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
إبراهيم سلامة
المراجع:
القرآن الكريم
مقدمة الدستور، القسم الأول
الشخصية الإسلامية، الجزء الثالث
نظام الحكم في الإسلام
الحاكمية في الفكر الإسلامي