- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
العُروَةُ الوُثقى
ذُكِرَت (العروة الوثقى) في موضعين من كتاب الله تعالى: الأول في سورة البقرة، قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 256]، والثاني في سورة لقمان، قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: 22]، وهي في كلا الموضعين قد فسرت بتفسيرات عدة؛ فقد فسرها بعض المفسرين بــ(لا إله إلا الله)، وقال آخرون هي الإيمان، وقال آخرون هي الإسلام، وقال آخرون هي القرآن، وكل هذه الأقوال لا تعارض بينها لأن من تمسك بـ(لا إله إلا الله) فقد تمسك بالإيمان والإسلام والقرآن، والمقصود أنه تمسك بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت أركانه.
إن المسلم مخاطب، لجهة الإيمان والكفر، من الله تبارك وتعالى، بمعنى أنّ الحق تبارك في علاه بيّن معاني الإيمان، كيف يكون، وما ينقضه ويبطله وما يقوّيه في قلب المؤمن ويعمقه، كذلك فقد بيّن ما هو الكفر وكيف يكون، وبماذا يحصل، وبماذا يُكفَر.
الله سبحانه وتعالى أخذ على البشر عهداً بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأشهدهم على أنفسهم فقال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾. وعلى أشهر أقوال أهل العلم أن الله تعالى جمع ذرية آدم في أول الخلق في صورهم - وقيل أرواحهم، وقيل أرواحهم ثم صورهم - وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. ولكن أحدا من بني آدم لا يتذكر هذا الميثاق. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله القول الآخر، وأن هذا الإشهاد والإقرار: إنما هو خلقهم على الفطرة الحنيفية، قبل أن يتهودوا أو يتنصروا، أو يتحولوا إلى غيرها من الأديان...
وبهذا يكون الحق سبحانه قد أخذ من الناس شهادة على أنفسهم أنه خالقهم وربهم، وحتى لا يكون لهم حجة حين يلقونه سبحانه فقد أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، مبينين درب الحق داعين إليه، كما بيّنوا دروب الشياطين محذرين منها، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾. ولهذا كانت رسالات كلّ المرسلين صلوات الله عليهم، مختصرة بما قاله الله سبحانه: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾.
ومن الجهة المقابلة طلب من الناس، حتى يستقيم إيمانهم ولكي يكونوا ممن ينطبق عليهم أنهم من أهل العروة الوثقى، أن يكفروا بالطاغوت فقال: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. فجعل الكفر بالطاغوت يسبق الإيمان بالله، وكما قال بعض السلف: أنه لا إيمان إلا من بعد كفر، فلا يكفي ممن يقول إنه آمن بالله تعالى أن يكون قد عرف الله، فآمن بألوهيته وربوبيته، بل وجب عليه أن يكفر بالطاغوت.
وحتى يكفر الإنسان بالطاغوت وجب عليه معرفته، وإلا فكيف يكفر أحدنا بما لا يعلم وبمن لا يعلم؟؟ لأن معرفة الله والإيمان بها تتعلق فيها مسألة الولاء، ومعرفة الطاغوت والكفر به تتعلق بها مسألة البراء، فلا يقولنّ مسلمٌ إنه من أهل العروة الوثقى تمسكاً والتزاماً إلا إن كان قد كفر بالطاغوت وآمن بالله تعالى.
فالقبول بأنظمة وضعية ليست من عند الله تعالى هو قبول بالطاغوت، فكما قيل: ما كان من عند الله فهو شرع وما كان من عند غيره فهو طاغوت. فالقبول بشرائع وضعية، والسير تحتها وتطبيقها والرضا بها تحطيمٌ لتلك العروة الوثقى، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾.
ومظاهرة أعداء الله على عباد الله هو فكّ لتلك العروة الوثقى وانفكاك لها ومنه.
ومن معاني الكفر بالطاغوت نبذه ورفضه ومحاربته وعدم الرضا به ظاهراً وباطناً.
فمعنى الكفر بالطاغوت: البراءة منه واعتقاد بطلانه، قال الله سبحانه: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [البقرة: 256]، ومعنى الطاغوت المعبود من دون الله، يعني يتبرأ من عبادة غير الله؛ عبادة الأوثان والأصنام والجن يتبرأ منها، ويعتقد بطلانها ويؤمن أن المعبود بحق هو الله وحده سبحانه وتعالى، فمن لم يؤمن بهذا فليس بمسلم، وكما هو معلوم فإن الطاغوت في اللغة مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد، ومجاوزة الحق إلى الباطل، ومجاوزة الإيمان إلى الكفر وما أشبه ذلك...
قال ابن القيم رحمه الله: (الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع) أي كل شيء يتعدى العبد به حده أي قدره الذي ينبغي له في الشرع يصير به طاغوتا سواء تعدى حده من معبود مع الله بأي نوع من أنواع العبادة أو متبوع في معاصي الله أو مطاع من دون الله في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله.
وقال أيضاً: (فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم. إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها. رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت وعن طاعة رسول الله e إلى طاعة الطاغوت ومتابعته.)
فمن كان يدّعي الإيمان بالله تعالى وهذه الثوابت غير متحصلة عنده - عالماً غير جاهل - فقد ضرب ركناً من أركان التمسك بالله وحبل الله تعالى، ولن يكون ذلك إلا على حساب العقيدة.
فالفلاح كلّ الفلاح في التّمسّك بدين الله وأحكامه والعمل بما جاء بها، والخُسران في تركها إلى غيرها.
والحمد لله ربّ العالمين.
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
رولا إبراهيم – بلاد الشام