- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الاختلاف في تعريف مسألة القضاء والقدر
يتلاشى عند المذاهب الفكرية بين النظرية والتطبيق
لقد بحثت المذاهب الفكرية في التاريخ الإسلامي موضوع القضاء والقدر وأفعال الإنسان وقالوا فيه ما قالوا وعرفوا فيه التعاريف المختلفة التي تصل إلى حد التباين. فالمعتزلة قالوا إن الله ترك العبد وما يخلق من أفعال بما سمي بحرية الإرادة والاختيار، والجبرية قالوا إن الله تعالى يخلق أفعال العبد ولا خيار له فيها فهو كالريشة في مهب الريح، والأشاعرة جمعوا بين الرأيين فاختاروا تعريفا تصالحيا توافقيا فقالوا إن الإنسان له حرية الإرادة والكسب لكن الله يخلق أفعاله التي أراد فعلها أو كسبها.
إلا أن حزب التحرير قد قوم خطأ تعريفهم لكل من القضاء والقدر وأوضح تعريف كل منهما وعبر عنهما بشكل دقيق صحيح على أساسين: الأول نصوص الوحي القطعية، والثاني مطابقتها للواقع. فأنهى حزب التحرير ذلك الخلاف الفكري الذي طال مكثه في الأمة لقرون من الزمن في الأذهان والسطور. وكان له رأي جديد نورده هنا على عجالة باختصار وتصرف من كتاب نظام الإسلام حيث يقول:
"والمدقِّقُ في الأفعالِ يرَى أَنَّ الإنسانَ يعيشُ في دائرَتَيْنِ إِحْداهُما يسيطِرُ عَلَيْها، وهيَ الدائرةُ الَّتي تقعُ في نِطَاقِ تَصَرُّفَاتِهِ وَضِمْنَ نطَاقِهَا تحصُلُ أفعالُهُ الَّتي يقومُ بها بمحْضِ اختيارهِ، والأُخْرى تُسَيْطِرُ عليْهِ، وهيَ الدائرةُ الَّتي يقعُ هوَ في نِطاقِهَا وتقعُ ضِمْنَ هذهِ الدائرةِ الأفعالُ الَّتي لا دَخْلَ لَهُ بِهَا، سواءٌ أَوَقَعَتْ مِنْهُ أمْ عليهِ. فالأفعالُ الَّتي تقعُ في الدائرةِ الَّتي تُسيطرُ عليهِ لا دَخْلَ لَهُ بِهَا ولا شأْنَ لَهُ بوجودِهَا، وهيَ قِسْمَانِ: قِسمٌ يقتضيهِ نظامُ الوجودِ، وقسمٌ تقعُ فيه الأفعالُ الَّتي ليسَتْ في مقدورِهِ والَّتي لا قِبَلَ لَهُ بِدَفْعِهَا ولا يقتضيها نظامُ الوجودِ.. فهذهِ الأفعالُ كلُّها الَّتي حصلتْ في الدائرةِ الَّتي تسيطرُ على الإنسانِ هيَ الَّتي تُسَمَّى قَضَاءً، لأنَّ اللهَ وحدَهُ هوَ الَّذي قَضاهُ.
أمَّا القَدَرُ فهوَ أَنَّ الأفعالَ الَّتي تحصُلُ سواءٌ أكانَتْ في الدائرةِ الَّتي تسيطِرُ على الإنسانِ، أم في الدائرةِ الَّتي يسيطِرُ عليْهَا تقعُ منَ أشياءَ وعلى أشياءَ منْ مادَّةِ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، وقدْ خلقَ اللهُ لهذِهِ الأشياءِ خَواصَّ مُعَيَّنَةً، فخلَقَ في النارِ خاصيَّةَ الإحراقِ، وفي الخشبِ خاصيَّةَ الاحتراقِ، وفي السكِّينِ خاصيَّةَ القطعِ، وجعلهَا لازمةً حَسَبَ نظامِ الوجودِ لا تتخلَّفُ. وحينَ يظهرُ أنَّهَا تخلَّفَتْ يكونُ اللهُ قدْ سَلَبَهَا تِلكَ الخاصيَّةَ، وكانَ ذلكَ أمْراً خارِقاً لِلْعادَةِ. وهوَ يحصُلُ للأنبياءِ ويكونُ مُعْجِزَةً لهمْ. وكَمَا خلقَ في الأشياءِ خاصيَّاتٍ كذلكَ خلقَ في الإنسانِ الغرائِزَ والحاجاتِ العُضويَّةَ، وجعلَ فيهَا خاصيَّاتٍ معيَّنةً كَخَوَاصِّ الأشياءِ، فخلقَ في غريزةِ النَوْعِ خاصيَّةَ الميلِ الجنسيِّ، وفي الحاجاتِ العضويَّةِ خاصيَّاتٍ كالجوعِ والعطشِ وَنَحْوِهِما، وجعلها لازمةً لها حَسَبَ سنّةِ الوجودِ". انتهى
أما معنى القدر الوارد في آيات عدة من القرآن الكريم وبعض الأحاديث ومنها حديث جبريل الصحيح والمشهور الذي ورد فيه السؤال عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقد جاء القدر فيها بمعنى علم الله الأزلي الذي كتبه الله في اللوح المحفوظ وطُلب منا الإيمان به.
ومن المعلوم أن الفكر هو حكم على واقع، وعندما كانت كثير من أفكار تلك المذاهب الفكرية التاريخية في المسائل المتعلقة بالعقيدة منفصلة عن دراسة الواقع ومبنية على أخطاء مركبة تتخللها أولاً: طريقة المتكلمين الخاطئة في التفكير وهي الطريقة المنطقية التي تبني أفكارا على أفكار فتصل إلى أبحاث نظرية، ثانيا: اعتماد الظن في الاستدلال من النصوص في مسائل العقيدة، وثالثا: عدم مطابقة تلك الأفكار للواقع. حيث كل هذه الثلاثة مجتمعة أو بعضها يجعل من الفكر محلا للخطأ وتأرجح القناعة ومدعاة للارتياب.
وهذا يجعل منها أفكارا وآراء نظرية لا تتصل بالواقع ولا تستند إلى أدلة قطعية، فتصبح مجرد أبحاث لمعاني الألفاظ وملابساتها فضلا عن أنها أبحاث منطقية، فظلت أفكارا نظرية حبيسةً في الأذهان كنظريات ليس لها معانٍ مرتبطة بالسلوك، لأن بحث مسألتي القضاء القدر هو بحث مرتبط بالواقع وبحث أدلة قطعية لا ظنية، لأن أفكار الإسلام لها معان مرتبطة بالواقع ارتباطا وثيقا أصبحت مفاهيم، وهذه المفاهيم مرتبطة بالسلوك ارتباطا مباشرا لا مجرد أبحاث نظرية أو معلومات. لذلك فقد اهتم حزب التحرير بدراسة واقع معاني الأفكار ومعاني الألفاظ وفرق بينهما فقال في كتاب الشخصية ج1: "المفـاهيم هي معـاني الأفكار لا معـاني الألفـاظ. فاللفظ كلام دل على معانٍ قد تكون موجودة في الواقع وقد لا تكون موجودة...، أما معنى الفكر فهو أنه إذا كان لهذا المعنى الذي تضمنه اللفظ واقع يقع عليه الحس أو يتصوره الذهن كشيء محسوس ويصدقه، كان هذا المعنى مفهوماً عند من يحسه أو يتصوره ويصدقه...". انتهى
فميز بذلك بين معاني الألفاظ ودلالاتها وبين المفاهيم التي هي معاني الأفكار المرتبطة بالسلوك ارتباطا حتميا، فتعالج الواقع على أساسها. فعندما كانت الأفكار في الإسلام هي مفاهيم أي معلومات مرتبطة بالواقع أو واقع مرتبط بمعلومات حسب قاعدة أو قواعد يجري عليها قياس المعلومات والواقع حين الربط، وجدنا أن أبحاث المتكلمين النظرية واختلافاتهم في تعريف الأفكار على أساس المنطق ومعاني الألفاظ قد تلاشت عند ممارسة وتطبيق أحكام الإسلام على أرض الواقع. حيث وجدناهم مختفلين في تعريف بعض الأفكار نظريا ومنطقيا إلا أنهم التقوا على أرض الواقع في الأحكام العملية والمفاهيم المرتبطة بالسلوك وهي التي تمثل معاني أفكار العقيدة والأحكام الشرعية؛ لأن الناحية العملية التطبيقية لأحكام الإسلام قد جعلت جميع هؤلاء المختلفين في تعريف مسألة القضاء والقدر وغيرها يقفون عمليا منفصلين عن آرائهم القائلة بالجبر أو حرية الاختيار أو غيرها، وأصبحت كما لو لم تكن محل خلاف أصلا.
فمثلا عندما يقول الجبريون إن الإنسان وأفعاله كلها كالريشة في مهب الريح وأن أعماله خلقها الله له وهو مسير بها دون إرادة منه، فإنهم يتفقون في الناحية العملية مع المعتزلة الذين يقولون إن الإنسان يخلق أفعاله مع كونه حر الإرادة والاختيار، في حالة إيقاع عقوبة السرقة على الجاني في كسب المال الحرام أو إيقاع عقوبة الزنا على الجاني في العلاقات المحرمة. وكذلك يتفق معهما الأشاعرة وغيرهم ممن لهم رأي يختلف عنهما في تعريف القضاء والقدر في كل النواحي العملية. كما أن تحديد مفهوم المعصية عند المعتزلة هي نفسها عند الأشاعرة أو الجبرية وغيرهم.
وهذا ما أشار إليه الإمام ابن تيمية رحمه الله في اختلافهم في تعريف الإيمان، حيث عزا اختلاف من يُدخل العمل في تعريف الإيمان ومن يخرجه منه كالمرجئة، أنه خلاف لفظي لأن كلا الطرفين متفقان على فسق مرتكب الكبيرة لا كفره، وأن العقوبة الدنيوية أو الأخروية لازمة في حقه وأنه لا يخلد في النار. واستثنى الإمام ابن تيمية من هذا الخلاف اللفظي غلاة الخوارج وغلاة المرجئة، كما فصل ذلك في مجموع الفتاوى الجزء السابع في بحث الإيمان.
ومن باب المثال أيضا لا الحصر فإننا نضرب صورة أخرى في الخلاف بين من يقول بحرية الإرادة والاختيار ومن يقول بالجبر والتسيير وغيرهم في قضية طلب الرزق والكسب، فإننا نجد أن كل هؤلاء على اختلاف نظرتهم في تعريف القضاء يذمون من يقعد في بيته تاركا السعي في طلب الرزق ويعتبرونه مقصرا آثما لتضييعه من يعول بناء على النصوص ومنها قول النبي r : «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُوْلُ».
إننا بذلك لا نقلل أبدا من أهمية الوقوف على معنى كل من الأفكار والمفاهيم وتحديد معانيها بشكل دقيق على أساس إفادة الأدلة الشرعية، فالأصل أن يكون التعريف الشرعي جامعا مانعا مأخوذا من الأدلة التفصيلية لأنه في واقعه هو حكم شرعي ينطبق على وقائع كثيرة وهو ما يعرف غالبا بالقاعدة الكلية.
وإن أي خطأ في بلورة أي فكر إسلامي لا بد وأنه سيفضي إلى تشويش في الفهم وخطأ في التفكير والحكم، الأمر الذي يحدث بلبلة في الفكر من الناحية النظرية وقد ينتقل أحيانا الخلل إلى الأعمال. إلا أنه لما كان الإسلام عقيدة سياسية تنبثق عنها كافة المعالجات من حيث تنظيم شؤون حياة الناس في كل جوانبها، كان ذلك سببا في اختفاء هذا الاختلاف في الناحية العملية فيما إذا طبق الإسلام من خلال دولة لها أجهزتها في الحكم والإدارة.
فمثلا القاضي في الدولة الإسلامية سواء جبري المذهب أو غير ذلك فإنه قولا واحدا سينزل الأحكام الشرعية على وقائعها ويعالج القضايا والمشاكل بناء على خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، فيحكم بين الناس ويفض الخصومة والتنازع بينهم في كافة أمور الحياة.
إن هذا الاتفاق العملي بين المختلفين نظريا في الآراء ما كان ليوجد إلا بفضل الإسلام الذي هو عقيدة سياسية، انبثقت عنها أحكام عملية ومفاهيم تعالج الواقع وتعطي الحلول الدائمة لكل ما يواجهه الإنسان بوصفه إنسانا حتى قيام الساعة عن طريق تطبيق نظام ينظم علاقة الناس والمجتمع في كافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن الإسلام بهذه العقيدة الربانية ونظامها العملي المتمثل بالدولة الإسلامية جعل المسلمين أمة واحدة يجمعهم بوحدة متينة على اختلاف ألوانهم وألسنتهم واختلاف آرائهم ومذاهبهم، يقول الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: 103] ويقول تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92]
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
عبد العزيز محمد