- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
المسلمون وحرب المصطلحات
أصبح السؤال مشروعا، لماذا سميت الجزائر أو تونس أو المغرب مستعمرة فرنسية، ولماذا قدم المسلمون مئات الآلاف من الشهداء لتحرير بلادهم؟! ولماذا تعتبر ليبيا مستعمرة إيطالية ولا يعتبر عمر المختار خارجاً عن الشرعة الدولية يجب على الدولة الليبية أن تحاسبه على تمرده؟! أليس كان يجب على الدولة أن تحاكمه لضربه العلاقة مع دولة حليفة؟! أليس من الممكن تحرير المصطلحات وتغيير المعاني لتكون الجزائر وتونس والمغرب ترتبط بفرنسا باستراتيجية طويلة الأمد قوامها (محاربة الإرهاب) وحماية البلاد من أي اعتداء خارجي والتكامل الاقتصادي بين البلدين؟ فالقواعد العسكرية لو تمددت في طول البلاد وعرضها فإنما هي لحماية البلاد من أي اعتداء خارجي، والشركات التي تستخرج النفط والذهب والخيرات التي في باطن الأرض وظاهرها فإنما هي لتمكين الدولة المستعمرة عفوا (الحليفة) من الاستفادة من خيراتها، وتدريب الجيش وقوى الأمن الداخلي إنما هو لحفظ الأمن من المخربين الذين لا يريدون لهذا الحلف أن يستمر، فالمسألة ليست استعمارا وإنما هو تحالف يحفظ سيادة البلد وأمنه وخيراته، ويحفظها من أي اعتداء داخلي أو خارجي، وتصبح النتيجة أن الاستعمار أو بتحوير المصطلح هذا التعاون هو نوع من التحالف الذي تعمل فيه الدول، وربما إذا أردنا استخدام بعض المساحيق لتجميله وتزويقه فيجوز لنا أن نسميه تعاونا مشتركا، أو تحالفا مشتركا، لنوحي للقارئ أو المتابع أن كلا الدولتين على قدم المساواة مع بعضهما البعض؛ فوزير الدفاع الأمريكي نظيره في الاتفاقية وزير الدفاع البحريني مثلا أو اللبناني أو الأردني، والبنك الفيدرالي الألماني أو الياباني نظيره البنك المركزي الكويتي أو السوداني وهكذا... فإذا جرى التلاعب بالمصطلحات فإن الاستعمار يكون تحالفا، وأوسلو تصبح صلح الحديبية، ووادي عربة تغدو صلح الرملة.
لقد جرى عند العلماء قديما تحرير وضبط المصطلحات، فوضعوا علم المنطق وأفاد منه المسلمون بعد أن أصّل له أفلاطون وأرسطو؛ فكانت إفادتهم ضبط المصطلحات وتحرير المعاني، كل ذلك من أجل أن لا تتداخل المصطلحات والتعاريف بعضها ببعض.
إن تعويم الأفكار والمصطلحات والتعاريف يشتغل عليها الإعلام بشكل كبير، فإذا أراد أن يصور الهزيمة نصرا والاستخذاء والجبن سياسة، والاستعمار تعاونا وتحالفا، فإنه يضخ بآلاته الإعلامية ويبقي على هذا الضخ، حتى يبدل المفاهيم والمعاني عند الناس. فمثلا عندما انفرد السادات أو سبق للصلح مع يهود فإن المعنى الذي كان معمولا به حينذاك هو أن الصلح مع كيان يهود هو خروج عن الإجماع العربي، والذي كان حينها مصدرا من مصادر التشريع في السياسة، حيث جرت شيطنة السادات ومصر، وبدأت الدول تبيعه شرفا ومقاومة، بل صار الإجماع في الجامعة العربية ينعقد دون مصر، وكثر الحديث عن خيانة السادات وبأنه باع القضية الفلسطينية ما كان سببا في قتله، وتغنى الجميع بقتل هذا (الخائن العميل للصهيونية العالمية). ولما فعلت منظمة التحرير وفتح صنيعه في أوسلو كان الإعلام منقسما حول هل هذا الأمر؛ سياسة أم خيانة؟ وهل هذا طريق مشروع لأخذ حقوق الشعب الفلسطيني أم أنها بيع لقضيته؟! وكان للإعلام قدم السبق في الترويج لما يريد وكل يدلو رأيه، ثم بدا للأنظمة أن تلحق بعرابي أوسلو، فبدأت الآلة الإعلامية تحدد للأمر مصطلحات جديدة وتسرق من الناس ثوابتهم، فقيل حينها بأن الجلوس مع يهود ليس خيانة بذاته، بالذات إذا استعدوا بأن يعيدوا للشعب الفلسطيني حقوقه المسلوبة، فليس الجلوس بحد ذاته خيانة وإنما الخيانة هي التفريط بالثوابت، ثم تداعوا لوضع معنى الثوابت... وهكذا حتى وصلوا إلى ما يسمى الاتفاق الذي تبنته الجامعة العربية وتحت رعاية السعودية سنة 2000 وحصل الإجماع بين الحكام عليه، وبالتالي أصبح الجلوس مع كيان يهود لا يستدعي القتل أو حتى التخوين، وإنما لا بأس أن يفعل كل شيء تحت مصطلح السياسة. فالإمارات والبحرين والسودان والمغرب وقبلها مصر والأردن والسلطة بعد تغيير المصطلحات، لا تقاس على السادات ومصر، وإنما السادات كان خائنا وعميلا وقتها لأنه ترك الحظيرة وغادر منفردا وكان يجب عليه أن يأخذ الإجماع على خيانته ولا يجوز أن يغير في المصطلحات منفردا.
فلم يعد منكرا أن يتم التنسيق بين أردوغان وروسيا وإيران في التآمر على الشام وثورتها، ولم يعد الطلب من القوات الأمريكية من الحكومة الأفغانية أن تبقي قواتها وجيشها في أفغانستان خيانة، بل هو من السياسة التي يتمتع بها رئيس الدولة الأفغانية، فالقواعد الأمريكية في قطر وتركيا هي من التنسيق الأمني والتعاون الاستراتيجي، ولو ناقشت هذا الموضوع مع من يمتهن السياسة، إلا من رحم الله، لاتّهمك بالجهل لأنها تخالف قطعيا عنده!
فإذا لم يجر التواطؤ على الألفاظ والمباني لا يجري التوافق على المصطلحات والمعاني، فالتفاوض والتطبيع والرضا بأرباع الحلول وأنصافها خيانة وليست كما يسميها الإعلام خطوة بالاتجاه الصحيح، والأحلاف العسكرية والتعاون مع أمريكا وروسيا انتحار سياسي فوق كونه مخالفا للشرع، وتزويق المصطلحات لا يغير من الواقع شيئا، والعقد الاجتماعي هو نبذ للإسلام وأحكامه، وليس توافقا على دستور.
إن العناية بالألفاظ والمعاني والتي هي قوالب الألفاظ، قد اعتنى الإسلام بها أيما عناية. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وحدد ذلك في آية أخرى مبينا حال الكفار في التلاعب بالالفاظ ليصرفوا المعنى على هواهم ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾، ولم تكن عناية الإسلام بذلك إلا لما لذلك من أثر في تشكيل العقول وتغيير الأحكام، وقد كان المسلمون رواد تحرير المصطلحات وضبطها، حتى لا يلتبس اللفظ بغيره فيكون المعنى مختلفا عما أراده صاحبه، ولذلك تعلموا المنطق ليضبطوا به التعاريف والمصطلحات، وتركوا المشترك من الألفاظ حتى لا يلبسوا المصطلحات بعضها ببعض، وعندما كانوا يتناظرون في مسألة علمية، كانوا يحررون المصطلحات أولا، فالمفرد عند المناطقة هو غيره عند النحويين، والمركب عند النحويين هو غيره عند المناطقة، والإدراك والتصديق عند المناطقة هو غيره عند الأصوليين... وهكذا فكل علم له مصطلحاته وألفاظه.
فالسياسة عند المسلمين هي رعاية الشئون بأحكام الإسلام وليست الانبطاح والخنوع، والسياسي هو من يبدع في إيجاد الحلول حسب وجهة النظر ومن زاوية شرعية عند المسلمين، وليس السياسي الذي يدير شئون بلده بالتحالفات ويلعب على الحبال، وإنما هذه وظيفة البهلوان في السيرك أو من يعمل بعقلية الفراش الذي أكبر همه إرضاء المدير وكل الموظفين، ولو أتى ذلك على أخلاقه ودينه! فوضع المعايير الثابتة والمصطلحات الراسخة هي التي تصلح تسميتها خطوطا حمراء، أما أن توضع الخطوط حمراء أو صفراء أو زرقاء وبألوان الطيف السبعة فإن هذا ليس من السياسة في شيء بل هو أقرب إلى تلون الحرباء، ولم يعرف المسلمون هذا التلاعب بالألفاظ إلا في زمن الرويبضات من الحكام ووسطهم السياسي، ومن لحق بهم من البلهاء وعلماء السلاطين، حتى أضحى المعروف منكرا والمنكر معروفا، والخيانة سياسة والسياسة خيانة، وأضحت الثوابت والوقوف عند حدودها جمودا وتخلفا وقلة دراية بالسياسة، وكان المطلوب من العالم أو الشيخ أن يضع للحاكم الحكم الشرعي على فعله الذي سبق أن فعله فإذا وقع الحاكم اتفاق خنوع وذل استدل له ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ وإن شرع باسم الديمقراطية زينوا له مجالسه بآية ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ وإن عقد الأحلاف مع الكافر وفتح أرضه باطنا وظاهرا ورهن سماء بلده لطائراته وصواريخه استدل له بآية ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾، وهكذا فبدلا من الاستدلال عليه بالأحكام الشرعية أصبح الاستدلال له، حتى ليخيل إلى البسيط من الناس أن فعل الحاكم قاضٍ على القرآن والسنة ولو كان قطعيا!!
وأختم بفهم لقوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ ولو كان هذا مفهوما ليهود الذين صنعوا ذلك على الحقيقة فوضعوا كلاما نسبوه للخالق، فغيروا في الألفاظ وبدلوا وحذفوا، فكيف يفهم هذا عند من تصدر من العلماء الذين طلبوا القرآن للدنيا؟! فهم لم يكتبوا على الحقيقة كما صنعت يهود ويقولوا هذا من عند الله، وإنما وضعوا الآية في غير موضعها واستدلوا بها على غير ما تحتمل، ليشتروا به ثمنا قليلا، أو أنهم كتموا حقا علموه أو فهموه، وكل هذا من التبديل والتحريف. نسأل الله العصمة من الزيغ والضلال وأن ينفعنا وينفع بنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
خالد الأشقر (أبو المعتز بالله)