- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
سد النهضة والمستقبل المظلم
سيناريوهات متعددة فمن يكسب الرهان؟
لا يزال سد النهضة يشكل أحد أخطر القضايا لكل من السودان ومصر، في أعتاب القرن الحادي والعشرين، فظل هذا السد حاضرا بقوة في الساحة السياسية، منذ إعلان اتفاق المبادئ في 23 آذار/مارس 2015 في الخرطوم، والذي وقع عليه رؤساء الدول الثلاث السودان ومصر وإثيوبيا، فأصبح سيسي مصر الذي وقع على إعلان المبادئ في الخرطوم منزعجا ومحاصرا أن تصيبه اللعنة إلى يوم الدين بسبب مخاطر سد النهضة، الذي سوف يلحق أضرارا لا تحصى عواقبها ولا تعد في المدى القريب والبعيد.
أما البشير فقد هلك سلطانه عندما أطيح به في نيسان/أبريل 2019 في ثورة عاتية، قضت على حكمه، فقد كان يصرح هو وإعلامه، بأن سد النهضة سوف يجلب الخير المتمثل في الكهرباء، وتقليل خطر الفيضانات، إلا أن الأمر كان تضليلا متعمدا، فإن السودان سوف يلحق به ضرر كبير، لا يقل عن مصر، إذا تم ملء السد الذي يخزن 72 مليار متر مكعب، وهي كفيلة بأن تدمر خزان الروصيرص وغيره من السدود، وسيلحق ضررا كبيرا بالخرطوم ومدني وغيرهما، وكذلك من شأنه أن يلحق ضررا بالبنية التحتية، وحتى البشر، فما هو سد النهضة؟
سد النهضة الإثيوبى الكبير، هكذا يقال له (بالأمهرية)، هو سد الألفية شيد على النيل الأزرق في إثيوبيا، وقد بدأ إنشاؤه عام 2011م، ويقع في منطقة بني شنغول على بعد 20كم من الحدود السودانية في الجزء الشمالي الشرقي على حدود ولاية النيل الأزرق.
تقول إثيوبيا إن الغرض من إنشاء السد هو توليد الطاقة الكهربائية. ومن المتوقع أن يشكل السد أكبر طاقة كهرومائية في أفريقيا بسعة 6 آلاف ميجاوات حيث يتضمن السد 15 وحدة لإنتاج الكهرباء (مونت كارلو).
لقد قام مكتب الاستصلاح الأمريكي خلال فترة حكم الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي ما بين 1956-1964 بتحديد الموقع النهائي لسد النهضة على مجرى النيل الأزرق إلا أن انقلاب 1974 أوقف العمل، وبعد يوم واحد من إعلان المشروع رسميا في 31 آذار/مارس 2011 منحت الشركة الأمريكية وي بيلد عقداً بقيمة 4.8 مليار دولار أمريكي.
ومن المفارقات العجيبة، أن يكون إعلان المبادئ الذي تم توقيعه في 23 آذار/مارس 2015 في الخرطوم، من رؤساء مصر والسودان وإثيوبيا سبقه وضع حجر الأساس وبدء التشييد في 31 آذار/مارس 2011. وكان أمر إعلان المبادئ إجراءً شكليا، أو بالأحرى أخذ الطاعة بعد إتمام العملية. وكذلك الأمر العجيب أن يكون محمد دحلان القيادي السابق في حركة فتح الفلسطينية المتهم بالفساد، هو مهندس اتفاق إعلان المبادئ. نقلت جريدة اليوم السابع المصرية الجمعة 1 أيار/مايو 2015 عن نيوزويك دور محمد دحلان في اتفاق سد النهضة فقد توسط بدعوة من رئيس وزراء إثيوبيا، هليماريم ديسالين، وكشفت مجلة نيوزويك الأمريكية، أن محمد دحلان السياسي الفلسطيني المنفي قد توسط لتوقيع اتفاق سد النهضة، وأشارت الصحيفة إلى أن الاتفاق ثمرة عام من المفاوضات والاجتماعات في أبو ظبي وأديس أبابا والقاهرة. وتقول نيوزويك إن محمد دحلان انخرط في دبلوماسية المكوك مع قوى إقليمية والتقى بمسؤولين من كيان يهود في فرنسا.
لقد أجرت مصر والسودان وإثيوبيا مفاوضات بضغط من مصر، بعدما تأكدت مصر من أن سد النهضة يشكل تحديا لمستقبلها المائي، ويجعلها عرضة للضياع والابتزاز السياسي من الدول الغربية. ومن الملاحظ اعتماد إثيوبيا في بناء السد على أمريكا والبنك الدولي، الذي كان حاضرا أثناء التوقيع على إعلان المبادئ في الخرطوم يمثل الدور المالي.
وشركة وي بيلد التي دفعت 4.8 مليار دولار أمريكي أثناء تدشين المشروع في 31 آذار/مارس 2011 يؤكد أن أمريكا وكيان يهود وراء هذا السد منذ زمن بعيد كسلاح خفي يستخدم عند الحاجة ليمثل أحد سيناريوهات الابتزاز السياسي ضد السودان ومصر في المستقبل.
لقد أجرت مصر والسودان لقاءات تفاوضية خلال العشر سنوات، إلا أنها باءت بالفشل، ولم تحقق أي نجاح يذكر. وكان آخر تفاوض جرى في كنشاسا حيث نقلت البي بي سي في 8 نيسان/أبريل 2021 تحذيرات الرئيس السيسي بعد انهيار المفاوضات، حيث قال: "من الخطر نشوب صراع بسبب سد النهضة الذي تبنيه إثيوبيا في مجرى النيل الأزرق".
إن مخاطر سد النهضة على دولتي مصر والسودان، واضحة، خاصة أن إثيوبيا تصر على الملء الثاني لسد النهضة في خريف هذا العام في منتصف تموز/يوليو 2021، دون الرجوع لمصر والسودان. وقال سامح شكري وزير خارجية مصر، بعد انهيار مفاوضات كنشاسا: "كل ما تم تداوله من أطروحات مختلفة بشأن سد النهضة كان دائما يجد رفضا من الجانب الإثيوبي وصل إلى درجة التنصل من الإجراءات التي نشأت على أساسها المفاوضات. وفي الفترة المقبلة مصر ستتخذ ما تراه ملائما من البداية لحماية الأمن القومي المائي".
وبالحدة نفسها جاء رد الخرطوم على ما آلت إليه المفاوضات عبر بيان لوزارة الري والموارد السودانية، "إن هذا التعنت الإثيوبي يحتم على السودان، التفكير في كل الخيارات الممكنة لحماية أمن رعاياها بما يكفله القانون الدولي". ومن المعلوم أن مصر تعتمد على مياه النيل لتوفير حوالي 97% من مياه الري والشرب.
وقال السيسي في تصريح آخر: "نحن لا نهدد أحداً ولكن لا يستطيع أحد أخذ نقطة ميه من مصر باللهجة المصرية، وإلا ستشهد المنطقة حالة من عدم الاستقرار لا يتخيلها أحد". لكنه تراجع وقال: "إن التفاوض خيارنا الذي بدأنا به".
إن كثرة التفاوض كشف لبعض الخبراء أن الإرادة السياسية غير متوفرة للمفاوض الإثيوبي، وهذا الأمر يوضح تدخل أياد أخرى، فرضت واقعا جديدا لإبعاد استراتيجية لا يعرف مداها إلا من ينظر إلى الأمور من زاوية مبدئية، ويعرف أن سد النهضة سد كارثي بعيد المدى يلحق أضرارا عاجلة أو آجلة. فالملء الثاني لسد النهضة حيث تصل سعة التخزين في الملء الثاني 18 مليار متر مكعب، رغم أن الملء الأول كانت السعة 4.9 مليار متر مكعب حيث طرأ أثر واضح لمياه النيل الأزرق الرافد الحقيقي لوادي النيل، حيث تأثر قطاع الكهرباء وقل الطمي لبعض المحاصيل في مناطق دخول النيل الأزرق إلى السودان، بالإضافة إلى الفيضانات التي جاءت بطريقة غريبة. إن واقع حكومة مصر والسودان أنهما لا تستطيعان أن تحققا أي تقدم في توقيف سد النهضة وليس لهم هكذا تفكير، بل فرضهم وطموحهم في التنسيق لملء السد، وتبادل المعلومات لتشغيل السد. وهذا الأمر رغم بساطته فإن إثيوبيا تستفز وفود التفاوض وتنظر إليهم بمنظار الذي يعطي منحة وكأنهم في بلاد لا علاقة لها بمجرى النيل العظيم، وكأنه لا يجري في بلادهم!
يعتبر الخبراء أن السودان أكثر تضررا من مصر من تداعيات الملء الثاني وهو ما ظهر بشكل واضح في العام الماضي، وتشير التقارير إلى أن الملء الثاني سيكون 13.5 مليار متر مكعب من المياه ليكون إجمالي الملء الأول والثاني 18.5 مليار متر مكعب، وتشير التقارير أيضا أن خزان الروصيرص سوف يتوقف عن العمل نتيجة لعدم وجود مياه كافية في النهر. إن تصريحات حكوماتنا والتعامل مع ملف سد النهضة يوضح مدى ضعفهم الشديد، بل يوضح بأن حكامنا هم أشد فتكا بنا وذلك من خلال مواقفهم الضعيفة تجاه القضايا المصيرية للأمة الإسلامية.
فالسيسي هو الذي وقع على إعلان المبادئ لسد النهضة، وهو الآن جاء متباكيا ومهددا أن أخذ نقطة (ميه) من مصر خط أحمر! والسودان وحكومته سوف تلجأ إلى المحاكم الدولية والقانون الدولي!
فالواقع أنه لا السيسي ولا حكومة السودان الانتقالية يستطيعان أن يمسا مشروع سد النهضة بأي ضرر، حيث إن الأمر بيد أمريكا، فهي التي وضعت اللبنات الأولى، وهي الراعي الفعلي لهذا المشروع الكارثي الذي من خلاله تريد أن تضعف السودان الشمالي وأن تزيد من عقده التي يرزح تحتها، بعدما فصلت جزءا منه لتتمكن من تفتيت المفتت. وهذا هو الأرجح بصناعة الأزمات.
ومن المعروف أن المياه مصدر قوة اقتصادية تتقوى بها الدول في مشاريعها الزراعية والكهربائية وغيرها، لقد ذكرنا هؤلاء الحكام وهم يمارسون دور الطالب الفاشل والغبي وهم يعرفون مدى خطورة خطواتهم. إلا أنهم لا يرقبون في الأمة إلا ولا ذمة، فهم الخط المتقدم للمستعمر ينفذون أجنداته ولو أدى ذلك إلى هلاك الأمة. فكيف تصرف السيسي بالتوقيع على اتفاق إعلان المبادى، وهو يعلم أن حصة مصر من المياه سوف تنقص، ويعلم بأن الاتفاق يخالف اتفاق مياه النيل 1959؟ وكيف وقع عمر البشير على الاتفاق نفسه وهو يعلم مدى الأضرار التي تقع؟ إلا أن كرسيهم المعوجة قوائمه هو الخط الأحمر وليست هي القضايا المصيرية للأمة كما يدعون.
هناك أمثلة توضح مدى خدمة هؤلاء الحكام للغرب عبر تضليل الأمة؛ فكيف حافظ حسن نصر الله على أمن كيان يهود عندما انسحب من جنوب لبنان عبر اتفاقية جاءت بأربعة آلاف جندي من أوروبا يتبعون للأمم المتحدة التي تسمى باليونفيل ليتحول حسن نصر الله إلى قناص يقتل الأطفال في سوريا عندما طلبت منه أمريكا! وكيف صنع جمال عبد الناصر عندما قاربت الجيوش العربية من القضاء على جيش يهود ودخول تل أبيب في حرب 67، فجاء إعلان جمال أن أوقفوا الحرب! فأصبح بطلا مزيفا يخدم مشروع أمريكا في كنانة الله (مصر)! وكيف وقف عمر البشير بقوة لضرب الحركات المسلحة المدعومة من أوروبا عبر قوات الدعم السريع ورسم سيناريو لبقاء الحركة الشعبية جناح الحلو، أن تظل باقية عندما خاضت قوات الدعم السريع معارك صورية في منطقة تروجيه ومنطقة العتمور في جنوب كردوفان، ثم انسحبت ليصبح الحلو بطلا صاحب القدح المعلى لكل الحركات محتفظا بقواته وعتاده ليخطف زمام المبادرة في الوقت المناسب! فكيف لهؤلاء بعدما وقعوا على إعلان المبادئ يريدون من إثيوبيا أن تتنازل لهم عن مشروع السد النهضة؟!
إن سيناريو الحرب التي ينفخ السيسي كيرها لا يجرؤ عليه، والسودان معه، فالسيسي يريد أن يغطي سوءاته ويصور نفسه بطلا، بالتهديدات التي يطلقها ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئا. فتعدد السيناريوهات إما بالضرب فهذا لا يمكن أن يجرؤ على فعله السيسي والسودان كذلك. أما سيناريو التفاوض فقد انتهى وذلك بعزم إثيوبيا على الملء الثاني، وأما السيناريو الأخير فهو مواجهة مشروع سد النهضة وتعطيله والقضاء عليه، وهذا لا يتم إلا بدولة مبدئية تعرف خطورة المشروع باعتباره مخططا لإضعاف مصر والسودان وأن أمريكا تريد أن تخلع شرفهم وتتركهم بلا شرف، لتمرر أمريكا مشاريعها ومن ضمن ذلك الضغط على مصر لحفظ أمن كيان يهود ومن أجل مزيد من التنازلات الأخرى المتعلقة بتفتيت السودان.
إن سد النهضة عبارة عن سلاح استراتيجي تريده أمريكا وهي تستغله في الوقت المناسب. لذلك رصدت لهذا المشروع دراسة من ستينات القرن الماضي ليرى الحياة في هذه السنين.
إن دولة الخلافة القائمة قريبا بإذن الله هي التي ستواجه سيناريو سد النهضة لتكسب الرهان وزمام المبادرة من أمريكا ومن التف حولها، وذلك بتوضيح الحقائق وكشفها للأمة فتكون المواقف الحاسمة ليست كواقع هكذا حكام همهم البقاء على الكرسي على حساب قضايا الأمة المصيرية في دينها ومياهها وصحتها وزراعتها وأمنها وغيرها من الأمور العظيمة. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى امْرِهِ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الشيخ محمد السماني - ولاية السودان