- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
ثورة الشام والنظام العالمي المنهار
لم يصل النظام العالمي في التاريخ الحديث لمرحلة الهاوية والانحدار والتساقط كما هو اليوم حيث نشهد بكل وضوح مظاهر تخبطه وتهاونه ودلائل السقوط الذي يقترب منه رغم كل مساعيه للهروب من حتفه اليقيني هذا.
لا نتحدث عن الانهيار المالي العالمي الذي تنبأ به الاقتصاديون كأمثال ريكاردز الذي تنبأ بيوم أسود أشد من الخميس الأسود في 24 تشرين الأول/أكتوبر عام 1929 والذي أدى لشل أمريكا وتبعها العالم ونتج عنه انهيارات في القطاعات المالية والصناعية أدت لبطالة أكثر من 30 مليون عامل. بل نتحدث عن سقوط مدوٍ للنظام الرأسمالي الظالم الذي لم تبق أسباب لبقائه.
والجدير بالذكر أنه لو تأخر إسقاط الدولة الإسلامية في إسطنبول خمس سنوات لانتصرت على أعدائها الغربيين ولقضت على جيوشهم نتيجة الخميس الأسود هذا الذي سقطت فيه الرأسمالية وبان عوارها، ولكن لله حكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى. بل ربما نستطيع القول إن هذا الانهيار أتى نتيجة الحرب العالمية ضد الدولة الإسلامية التي أسقطها الغرب فكان غضب من الله تعالى على أولئك الذين ظنوا أنهم خرجوا منتصرين من حربهم مع الله تعالى فأسقطوا شريعته وأزالوا الدولة التي بناها الرسول عليه الصلاة والسلام.
والمتتبع لأحوال العالم إبّان إسقاط الدولة العثمانية وما كانت عليه الدول من تناحر فيما بينها واتفاق مع بعضها ضد المسلمين، لوجد تشابهاً كبيراً بين تلك الفترة وبين ما يمر على العالم هذه السنوات، حيث نجد الدول المتناحرة جَمَعها كرهُها للإسلام وللمسلمين فالتقوا رغم كرههم لبعضهم واجتمعوا على المسلمين لقتلهم والتنكيل بهم. وما دفعهم لإسقاط أقنعتهم التي تواروا خلفها منذ الحرب العالمية الأولى تحت مسميات الحرية والديمقراطية إلا ثورات العالم الإسلامي عامة وثورة الشام خاصة.
لقد أضافت ثورة الشام لأبجديات العلاقة بين الشرق والغرب حروفاً وكلمات لم تكن معروفة من قبل، بل غيّرت حتى طريقة التعاطي بين الفرقاء، فكيف لثورة ضعيفة هشّة أن تصمد سنوات قاربت على الثماني بل وتفرض أبجديتها على العالم كله ثم تصيبه بالشلل الفكري والعسكري ثم تجره لاتباع شروطها والأكل على مائدتها والنوم في أحضانها؟
كيف لشعب أصابه التعب والإنهاك من عذابات نظام بعثي ملحد أن يقف بقوة يتحدى العالم أجمع بصدر عار وبهامة مرفوعة تنظر إلى السماء وتنشد القيادة، محلقاً كالعُقاب في سماء الغدر واللاإنسانية؟
لم تكن ثورة الشام ظاهرة عابرة ولن تصبح أبداً نسياً منسياً، فمن يدقق في منطق التاريخ يرى من مظاهر التقلب بين هزيمة ونصر العجب العجاب، فكم من منتصر سقط في هزيمة منكرة كان نصره سبباً لها، وكم من مهزوم ارتقى لنصر مظفر كانت هزيمته هي الحلقة المهمة في مسيرة انتصاره؟
فلو لم يُلقَ يوسف عليه السلام في الجبّ لما أصبح زعيماً في مصر، ولو لم يُلق موسى الرضيع عليه السلام في اليمّ لما قاد قومه في وجه الطاغوت، ولو لم يحاربه قومه لما انتصر نوح عليه السلام بسفينته وصار الأب الثاني للبشرية. وهكذا هي سنن الكون لا ندركها إلا بعد أفولها ولا يستقي منها المرء فحواها إلا بعد أجيال من حدوث ما حدث.
لقد خان إخوة يوسف أباهم وغدروا بيوسف لكنه انتصر عليهم وكان سيداً للجميع، وقد خان بنو إسرائيل موسى وغدروا به فعبدوا الطاغوت ونسوا الله، فنصره الله عليهم. وقد عادى إبراهيم أباه وقومه فوضعوه في النار ليحرقوه فنصره تعالى عليهم وهو فرد ضعيف فكان أبا المسلمين، وكذلك كان إخراج رسول الله وصحبه عليه الصلاة والسلام من مكة إيذاناً بنصره رغم ضعفه وقلة عدد أتباعه. وهذا ما نراه اليوم من خيانات وغدر في ثورة أدارت ظهرها للنظام العالمي فرماها أهل الكفر كلهم عن قوس واحد، فهل أسقطوها؟
انتقلت ثورة الشام من مرحلة إلى أخرى خلال سنواتها المتتابعة ولم تقف عند حال واحد مما يؤكد حيويتها وقوتها الخفية، فلو ثبتت على حال كما ثورة تونس وثورة مصر لتم القضاء عليها بسرعة، لكنها كانت بقوة إلهية عجيبة تتبدل وتتحول من حال إلى حال ومن ضعف إلى قوة كالذي يغذي عدوه من خلال ضربه بطاقة متحولة يتلقفها ويبتلعها ثم يقوى بها ضد عدوه.
لقد سُقط في يد الواقعيين - الذين اتخذوا الواقع مصدراً لتفكيرهم ولحياتهم - حين رأوا ترنح ثورات العالم الإسلامي وسقوط بعضها وتراجع بعضها الآخر فكفروا بها قبل أن تكفر بهم، فكانوا والثورات تلك ككير المدينة ينفثهم كما ينفث خبثه خارجها. لكنهم لو علموا أن الإسلام يفرض عليهم أن يجعلوا الواقع الذي هم فيه موضع تفكيرهم لا مصدره لتمكنوا من الوصول للنصر بسرعة تشبه سرعة الفتوحات الإسلامية التي أدهشت العالم كله.
لقد تعاقب على وأد ثورة الشام قوى كثيرة لا عدّ لها، لم يكن أولها تنظيم الدولة الذي زيّف اسم الخلافة وشوّه عظمتها، ولن تكون حوران وخيانات ضفادعها آخرها، ولكنها لم تتمكن منها رغم قضها وقضيضها، فأضافت ثورة الشام للتاريخ علوماً احتار فيها أهل الكفر وتاهت قراراتهم، فما بال هذه الثورة لا تتوقف ولا يُقضى عليها ولا تموت رغم إعلان فصائل منها موتها السريري؟ ومن القاتل ومن المقتول هنا؟ فالنعوش التي يحملها الروس والإيرانيون والأمريكان وحلفاؤهم في الظلام لجنودهم المغدور بهم لا تعطي صورة النصر الذي يزعمون! بل والمنتصر عادة هو من يوقف القتال ويستولي على الأرض التي انتصر عليها ويعود أدراجه إلى قواعده، لكننا نرى في الشام جيوشاً منتصرة تنهزم بيأسها وتتعثر في عودتها فيزداد صراخها وعويلها مما ينم عن هزيمة نكراء قد لا تتضح لنا إلا بعد انقشاع غيوم الخوف والحيرة بشمس الإيمان بالله والتوكل عليه حق توكله.
ازدادت ثورة الشام صموداً فازدادت الحالة الاقتصادية في العالم سوءاً، أشهرت أمريكا سيفها التجاري في وجه أوروبا فزحف المارد الصيني ليأخذ مكاناً له حيث يغيظ أصدقاءه الألد في أمريكا. تخبط ترامب في أموال دول الخليج فهبطت أسهمه وضعف اقتصاده، وبدل أن يعالج المشكلة من الجذور أتى للبثور يضمد جراحها فضيّق على البنوك وعلى رؤوس الأموال بدعوة محاربة (الإرهاب) فانتكس الوضع الاقتصادي العالمي وصار الرأسماليون يبحثون عن ملاذات آمنة لأموالهم فلا يجدونها إلا في أحضان العم سام الذي هو سارقهم وناهبهم والمنكل بهم.
وضعٌ عالمي يسير من سيئ إلى أسوأ؛ فلا المال آمن ولا أصحابه موثوق بهم، ولا بنوك تحمي الاستثمارات ولا حكومات لها من أمر بلادها شيء! هو استعمار عالمي غير مباشر لحكومات قزمة في دولٍ صارت معظمها دول موزٍ لا تهش ولا تنش! مما دفع حكومات ومتنفذين من الذين يملكون أكثر مما تملك دولهم للعمل على إسقاط النظام الاقتصادي العالمي حتى لا يزداد فجوراً فوق فجوره فيحرق نفسه ويحرقهم معه.
وفي نهاية المطاف، يبحث العالم عن بدائل فلا يجد! ويبحث العقلاء عن نظام عالمي أفضل فيعلمون أنه الحق من ربهم، وينظرون إلى البلاد فلا يرون قلوباً نابضة رغم أساها إلا في الشام، فتبقى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تهز أسماع العالم: اللهم بارك في شامنا.. الملائكة باسطة أجنحتها فوق الشام...
أما الاقتصاد العالمي الساقط لا محالة فتقول له ثورة الشام ما قاله سبحانه وتعالى: ﴿فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ﴾. صدق الله العظيم.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
المهندس هشام البابا