الجمعة، 25 جمادى الثانية 1446هـ| 2024/12/27م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الهجمة الليبيرالية على الأسرة المسلمة: تطوراتها وتداعياتها

 

 

اقتضت رحمة الله تبارك وتعالى أن تكون نواة هذه البشرية وأصل هذه الجماعة الإنسانية التي تعد اليوم بالمليارات (من ذكر وأنثى) هي ما ذكره الله سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾.

 

فالأسرة هي الدرع الحصين كما ورد في معاجم اللغة، بها تتحقق حماية الإنسان مما يهدد كيانه وبها يتقوى الفرد ويشتد عوده ولها الفضل في تعلم الإنسان أصول الاجتماع وقواعد الآداب والأخلاق لهذا اعتنت الشريعة الإسلامية بتنظيم الأسرة في أدق تفصيلاتها من اختيار الزوج إلى تربية الأبناء.

 

فبضياع الأسرة يضيع المجتمع وتضيع معه الأمة حتى إن بعض المفكرين الغربيين على مدى بعيد أيقنوا ذلك؛ فالمؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي الذي كتب عما يقارب من عشرين حضارة مندثرة أو باقية آثارها فذكر "أن من الظواهر المشتركة في انهيار جميع الحضارات أنها تنهار عندما ينتشر الترف وتخرج المرأة من البيت وتنشغل عن تربية الأبناء"، وكذلك المؤرخ الألماني شبنجلر الذي كتب "إن كل حضارة من الحضارات تنهار وتتدمر إذا خرجت المرأة واهتمت بشهواتها ونزواتها وتركت الأسرة فضاعت الأسرة وضاعت الفضيلة من المجتمع".

 

وبما أن الصراع الحضاري قائم على أشده اليوم بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب الرأسمالية رغم مضي حوالي قرن على إسقاط الخلافة العثمانية وتفكيك عالمها الإسلامي بتركيع الحكومات فإن الحقد على الإسلام بعقيدته ونظامه وحضارته قد تعمق وصار اقتحام الأسرة المسلمة أمرا ضروريا متبنين سياسة تفكيك المجتمعات (جعلها شيعا وأحزابا) كشكل من السياسات الفرعونية التي تعبر عن الطاغوتية، ولكي تتسدد هجمتهم هذه وتثبت هيمنتهم اتخذوا من الليبيرالية سلاحا فتاكا فهي المحطة المتقدمة من محطات التوحش والتجبر تعزز أنانية الإنسان وتفرغه من روح التضامن والتكافل حتى تجعله ينقضّ على الآخر بدل الرأفة به، فالليبيرالية هي من سبل المجرمين ظاهرها الخير والنقاء لما تقدسه من حريات حقوق الإنسان وضمان حريته الشخصية وباطنها الشر والوباء لما تسببه من الفوضى الاجتماعية...

 

إذ يعترف أحد الليبيراليين أنه ينبغي لكل أمر يدعو إلى العنف أن يداس بالنعال ولو كان آية، ويقصد الآيات التي فيها رجم الزاني وقطع يد السارق، فالليبيرالية العلمانية تهاجم الدين وتصف كل القائمين عليه بالمتحجرين والمتشنجين والأوصياء، وفي المقابل ارتبطت أطروحاتهم بالمسألة النسوية كواقع المرأة وحقوقها ومساواتها بالرجل كالسعي الحثيث إلى تخليص المرأة من كل قيد من شأنه إعاقة المسار التغريبي الحداثي فأجازوا الاختلاط والشذوذ والسفور بغية أن تتحول قضيتها إلى قضية صراع ضد الفضيلة.

 

وهنا تجدر الإشارة إلى أن تركيز الفكر الليبيرالي على المرأة هو ناتج لإدراكهم أنها عصب الحياة في المجتمع المسلم على عكس المرأة الغربية التي ارتضت لنفسها أن تكون مشاعا فبإغواء المرأة وحرفها عن دينها بجعلها تلهث وراء سراب الحريات والمساواة تنهدم الأسرة ويخترق المجتمع.

 

إلا أن هذه الهجمة الليبيرالية العلمانية على الأسرة المسلمة ليست بحديثة العهد فقد انطلقت حتى قبيل الإطاحة بالخلافة العثمانية مع بداية الغزو الفكري فظهرت المطالبة بمنع تعدد الزوجات وتعديل أحكام الطلاق مع المحافظة على جزء مهم من الموروث الاجتماعي الإسلامي.

 

لكن الهجوم اليوم تخطى هذه القضايا التقليدية في (نظرهم) وتبلور بعد سلسلة من المؤتمرات التي عقدتها دول الكفر برعاية الأمم المتحدة تحت مسمى السكان بطرح قضايا تمس صميم الأسرة المتصلة بأوضاع الأحوال الشخصية وتمحور مشروعها حول "إعادة الهندسة الاجتماعية للأسرة والاجتماع الإنساني والبشري".

 

ومن هذه المؤتمرات "مؤتمر السكان والتنمية" الذي عقد في القاهرة سنة 1994 ثم "مؤتمر المرأة" الذي عقد ببكين في 1995، وقد سعت إلى فرض عولمة الاجتماع الإنساني وفق منظومة القيم الغربية ومستظهرة بدعاوى حقوق الإنسان والمرأة والطفل حيث اعتبرت أن مسألة تنظيم الأسرة هي كونية عالمية تفرض التدخل الغربي بصفة إنسانية. وهنا نتساءل منذ متى شكلت القيم الإنسانية أولوية وهدفاً يراد تحقيقه في صلب منظومة رأسمالية نفعية تتغذى من كل منتجات العولمة؟

 

وهل يستقيم مفهوم الأسرة في مجتمعات لا تعترف بالقيم الأخلاقية والروحية والإنسانية كي يبرروا تدخلهم لتنظيم الأسرة داخل مجتمعاتنا؟!

 

فالأسرة الغربية إن صح وجودها أصلا تعاني من التمزق وتردي العلاقة بين الآباء والأبناء ومن الشذوذ الجنسي والأمراض النفسية... أليس هذا من باب العبث الفكري أن يسلطوا علينا برامجهم العقيمة ثم ينتظروا ساعة مخاضها؟!

 

لذا فإن جوهر الهجمة على الأسرة المسلمة هو محاربة عقيدتها من الناشئة بزرع ما يناقض الدين في نفس الطفل ونشر الفاحشة عن طريق البرامج التعليمية ووسائل الإعلام وحتى الأفلام الكرتونية منها لطمس الأخلاق الإسلامية وإحلال الأخلاق النفعية محلها.

 

وكلمحة عن محتوى وثيقة بكين التي ألزمت الحكومات على تنفيذها بل وإخضاعها للمساءلة والرقابة فقد تحدثت عن النوع أي حرية الإنسان في اختيار نوعه ذكرا أو أنثى دون اعتبار الاختلافات البيولوجية، والاعتراف بالكيان الأسري المترتب عن الشذوذ، والأطفال الذين يضمون إليها عن طريق التبني أو التلقيح الاصطناعي للسحاقيات، أو تنظيم تأجير البطون، كما استهجنت الوثيقة الزواج المبكر لكونه يعيق المرأة مقابل منح المراهقات حق المعاشرة الجنسية والحمل بالسفاح إلى جانب المساواة التامة بين الجنسين دون أي نوع من أشكال التمييز.

 

فمن خلال بعض هذه المقتطفات لا يمكن الجزم إلا بمسألة واحدة وهي محاربة حضارة الإسلام وفرض الحضارة الغربية بواسطة تصويب السهام نحو تحطيم الأسرة المسلمة وتخريب المجتمع مع العلم أن هذه الوثيقة صيغت منها اتفاقية سيداو والتي صادقت عليها تونس زمن هؤلاء الساسة المتآمرين، ولا شك أن القوانين التي يقع تمريرها من حين إلى آخر ما هي إلا آليات لتنفيذ مخططاتهم بعد مضي عقود على إعدادها عن طريق أذرع فكرية من أبناء جلدتنا حملوا لواء الاختراق باسم الحداثة فشكلوا حفنة من الليبراليين المتربصين والمجندين لخدمة الغرب الكافر حتى وصل الأمر لحد التعسف على النصوص الدينية بالتحريف والتأويل... فأي ليبرالية يزعمونها وهم يتحججون بالنص الشرعي؟ وأي صنف من النفاق بلغته هذه الليبرالية المتربصة داخل قلاع الكفر؟ وهل تحققت لهم غاية من خلال جرائمهم؟ إذ يقول تعالى عن هؤلاء: ﴿كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ ويقول: ﴿وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾.

 

صحيح إن هذه الهجمة وضعت الأسرة المسلمة على شفا جرف هار؛ فالناظر إلى واقع مجتمعاتنا اليوم يلمس حجم التحديات والمخاطر التي تعانيها أسرها على مختلف الأصعدة في ظل غياب النظام الكفيل بحمايتها ورعايتها حق الرعاية ألا وهو النظام الرباني بأحكامه الشاملة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والتعليم والصحة... فلسان حالنا يتلخص في الآية الكريمة: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾.

 

ولو تأخر التمكين لهذه الأمة فإن السعي لقلع هذه الأنظمة الجاثمة على قلوبنا وفضح سياساتها وكل من التف حولهم من أحزاب ومنظمات لتقاسم الفتات الذي ينفثه سيدهم المستعمر هو واجب شرعي على كل مسلم ومسلمة أبَوا إلا الولاء لله والذود عن أحكامه.

 

 

كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

إيمان بوظافري

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع