- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
هبّات الشعوب في البلاد الإسلامية
بمعزل عن قوى جيوشها وحزب مبدئي كماءٍ بقيعةٍ يحسَبه الظمآنُ ماءً
إن الهبات الشعبية تعطي مؤشرا حقيقيا عند الأمة وهو أنها تريد التغيير، وتثبت امتعاض الأمة وعدم رضاها عن الواقع الذي تعيش بعد أن انكشفت سوءات حكامها عبر تلك العقود الماضية، وكان لحزب التحرير بفضل الله سهمٌ في رفع هذا الإحساس جراء عمله المضني طوال عقود مضت، وتصميمه على مبدئه وإصراره على كشف هؤلاء الحكام لأمته. ففي الوقت الذي كانت الجماهير تصفق لعبد الناصر كان الحزب يكشفه ويبين واقعه بأنه الخائن العميل، وفي الوقت الذي كانت الجماهير تتهافت على حركة فتح التي كانت تخوض الكفاح المسلح كان الحزب يكشف ياسر عرفات ويصفه أنه رأس العصابة الخائن. نعم هكذا هي حركة الجماهير فهي حركة تتملكها المشاعر وتنقاد لها.
ولقد استطاع حزب التحرير بفضل الله اجتياز تلك الفتن والرياح العاتية وهو محافظ على فكرته مستمر في كشف كل خائن وعميل ويبث أفكاره في الأمة دون التفات لتبعات ذلك عليه، فتقدمت الأمة في هبّاتها وباتت مقتنعة بسوء الواقع وخيانة حكامها فتوفرت لها إرادة التغيير، لكن هذه الحركة التي ظهرت على شكل هبات وانتفاضات تبقى مجرد إرادة حقيقية تتحرك بها الأمة يمنة ويسرة في قُطر أو أقطار من بلاد المسلمين، لكن هذه الإرادة التي ولّدت هذه الحركة المباركة لا تمكنها وحدها من الوصول إلى أهدافها لأنها حركة لولبية تنتهي في وقت معين.
إن تسليط الأضواء على دور الانتفاضات الشعبية وحدها على أنها القادرة بذاتها على تغيير الواقع تغييرا انقلابيا جذريا دون أن تحمل مشروعا واضحا هو أمر غاية في الخطورة والتضليل السياسي من عدسات القنوات الفضائية المحرضة كالجزيرة وأخواتها ومن ورائها المستعمر الكافر وأذنابه. إن هذه الهبات الشعبية بمكوناتها المتنوعة وفيها الغث والسمين لا يمكن أن تتصدى لعملية التغيير وحدها وإن حاولت، لأن عملية التغيير لها طريقة شرعية حددها الوحي وهي التي يسير عليها حزب التحرير منذ نشأته.
إن هذه الهبات الشعبية وحدها لا تغير لأنها مكونة من أطياف عديدة وأوساط سياسية عميقة وأخرى جديدة تتشكل ولها أهدافها الاستعمارية ومن الميسور عليها امتطاء هبّاتهم التي غالبا ما تكون نتيجة الشعور بالظلم.
فمثلاً عندما جاءت الأوامر من المستعمر لكبراء قادة الجيوش العملاء في البلاد التي شهدت هبات شعبية قبل عدة سنوات حتى هذه اللحظة رأينا تلك الجيوش قد اصطفت إلى جانب بعض تطلعات الشعوب واتخذت موقفا حياديا على أغلبه، وجاء الأمر إليهم من الغرب بتنحية شخوص الحكام وبعض وسطه السياسي بغية تنفيس ذلك الاحتقان. وهذا ما حدث في تونس ومصر تحديدا، فشعر الناس أنهم قادرون على التغيير وشعروا بسعادة عارمة ظنا منهم أنهم حققوا التغيير المنشود، ومع مضي الأيام أدركوا أن تحركهم لم يكن كافيا لتحقيق هدفهم المنشود وهو رفع الظلم واستعادة سلطانهم.
إن لسان حال الشعوب تنتظر من يعلق لها الجرس في التغيير الشامل والكلي، وتحتاج إلى جهة سياسية موثوقة بالنسبة لها تقودها وتحقق تطلعاتها وطموحها في إحداث نقلة نوعية لها. طبعا هذا لا يكون بمجرد وجود الإرادة عند الشعوب والاعتماد عليها وحدها وإن كانت جزءاً من المعادلة، لأن الناحية العملية في الموضوع هي أن ينحاز أهل القوة والمنعة إلى تلك الجهة السياسية التي تثق بها الأمة والتي هي من جنسها لتتم عملية التغيير. وإن حزب التحرير هو الجهة المؤهلة القادرة بمعية أمته أن يقودها إلى بر الأمان.
وبما أن هذه الشعوب في عالمنا الإسلامي جلها من المسلمين، وظهر منهم حبهم للإسلام، فإنهم لا شك سيكونون في صف دولة الخلافة حال قيامها، لأنهم يطمئنون تماما لحكم ربهم فيما لو ظهر لهم بالحس أن شريعة الإسلام ستحل كافة مشاكلهم في جميع جوانب الحياة، وهذا بشكل عام أصبح ملموسا والحمد لله وكان ذلك نتيجة للجهد المضني الذي بذله الحزب في تغيير جزء لا يستهان به من القناعات والمقاييس عند الأمّة. وللحفاظ على هذه الحالة التي هي عرضة للتغيير والتبديل ولكي يكون حزب التحرير هو خيار الأمة فيما لو استجابت القوى لرد السلطان للأمة وإقامة الخلافة الراشدة، كان لا بد من المحافظة على هذا السير الملتزم بطريقة الرسول r ليكون الهدف هو أخذ قيادة الأمة وبناء دولة إسلامية تقوم على أساس العقيدة الإسلامية، ولأجل هذه الغاية ألزم حزب التحرير نفسه أثناء مرحلة التفاعل بالتثقيف الفردي والتثقيف الجماعي وكشف المؤامرات وخيانة الحكام وعمالتهم وتبني مصالح الأمة، وهذا كان ولا يزال له ضريبة يدفعها شباب الحزب من أعمارهم لتحقيق هذه الغاية. فكم عانى شباب الحزب من السجن والتعذيب والتضييق في العيش وكم منهم من استشهد وعلق على أعواد المشانق...
وكانت هذه التضحيات ثمناً لمحاولة أخذ القيادة في الأمة، وها هو الشيخ سعيد رضوان القيسي أبو عماد أحد شباب حزب التحرير في الأردن وبعد خروجه من السجن الذي قضى فيه ثلاث سنوات ظلماً يقول: "لكل شيء زكاة ولأعمارنا زكاة يجب أن نؤديها ونحن لا نستكثر على الله التضحية، نقدمها رخيصة في سبيل تحقيق وعد الله وبشرى رسوله r ".
ونذكر في هذا المقام ما قال الشاعر:
أترجو أن تسود ولا تعنّى ... وهل يسود ذو الدّعة البخيل
وإن سياسة الأقوام فاعلم ... لها صعداء مطلبها طويل
نعم إن عملية التغيير تلقي على كاهل حملة الدعوة في حزب التحرير عبئا تفاعليا حقيقيا - لا حالة انفعالية أو ردة فعل - في أوساط الأمة الإسلامية في البلاد الإسلامية كي يظهروا بالمظهر السياسي اللائق بعظم المهمة والرسالة اللتين يضطلعون بهما، ويكونوا محط أنظار الأمة الإسلامية كقوة فكرية سياسية تهز كافة العلاقات بين الأمة وبين الفئات الحاكمة وأنظمة الكفر. حتى إن الحزب وصف ما يجب أن يكون عليه هذا التفاعل من شدة في ضرب علاقة الحكام بالأمة فقال في نشرة دخول المجتمع:
"ولا بد أن يكون السير في الكفاح بشكل تتعرض معه هذه السلطة القائمة نفسها لما يحطم أضلاعها، ويزيل هيبتها، ويطمع الناس فيها، ويكثر من الأيدي والأصابع التي تأخذ بحلاقيمها وتجهز عليها إجهاز قوي مقتدر، وبشكل يثير الشوق لحكم الإسلام ولدولة الإسلام ولراية الإسلام". انتهى
هذا هو واجب الحزب السياسي المبدئي الذي أخذ على عاتقه الأخذ بيد الأمة إلى واحة النجاة وإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة. وإلا فقد يقطف ثمرة هذا التفاعل تلك الأوساط الموجودة في الأمة والتي صنعها الكافر المستعمر منذ عقود فتضيع جهود حملة الدعوة وتخسر الأمة تضحياتها لا قدر الله. فقد قال الحزب في كتاب أفكار سياسية في موضوع الوسط السياسي:
"إن المسألة اليوم، بالنسبة للمخلصين الواعين، لم تعد مسألة أن يكونوا سياسيين، بل المسألة هي أن يحاولوا إيجاد الوسط السياسي الإسلامي، فإنه مهما طال الزمن أو قصر، فإن الدولة الإسلامية قائمة بكل يقين، فيخشى إذا قامت أن يسبقهم رجال الأوساط السياسية، وغير المخلصين على إيجاد الوسط السياسي الإسلامي، مع أنه يجب أن يوجد منهم وحدهم، ويجب أن يقوموا هم بإيجاده...". انتهى
إن حزب التحرير وهو رائد الأمة الذي لا يكذبها، يلزمه على الدوام أن يأخذ زمام المبادرة ليتقدم الأمة ويكون في طليعتها ويكشف لها خطط الغرب الكافر التي تحاك ضدها في كافة البلاد الإسلامية، وإن خوض الحزب الصراع الفكري والكفاح السياسي هو ما سيؤهله إلى استلام الحكم عن طريق إعادة السلطان للأمة من خلال جيوشها التي هي قوتها، لأن الأمة ومنها الجيوش لا تعطي قيادتها لجبان أو مجهول أو جاهل. فبالقدر الذي يثبت فيه شباب حزب التحرير وجودهم في الأمة يكون الالتفاف حولهم أشد وأكثر من قبل الأمة، الأمر الذي يسهل مهمة الجيوش في إعطاء النصرة للحزب بكل اطمئنان ويعاد السلطان للأمة.
وإن من ركائز تثبيت حزب التحرير أقدامه في المجتمع على الدوام هو أن يخوض شبابه غمار التفاعل بالأعمال السياسية والكفاح السياسي دون توقف أو إبطاء ويخوضها بصفته الكيانية أي بصفته حزب التحرير وليس بأي صفة أخرى. فالكفاح السياسي الذي يقوم به حزب التحرير هو لازم في سيره على الدوام ما دام أن الغرب الكافر المستعمر حتى اللحظة يحوك المؤامرات الضخمة بشكل مباشر تارة وعن طريق عملائه تارة أخرى. وإن الاكتفاء بالصراع الفكري أو الأعمال الفكرية فقط في ظل هذه المؤامرات الكبرى على الأمة، فإن الأمة بلا شك ستنظر إليه على أنه مفكر أو فقيه لا قائداً سياسياً، وليس مؤهلا أن يضطلع بالمسؤولية السياسية نيابة عنها؛ لأن الحزب المبدئي الذي يواصل الكفاح السياسي والأعمال السياسية من المؤكد أنه سيكون محل أنظار الأمة بقواها المختلفة الكامنة فيها على أنه المستحق للقيادة والريادة وسياستها. لذلك يقول حزب التحرير في نشرة الخطاب وهي نشرة واجبة الدراسة على كل من أراد التحزب، يقول الحزب: "ثانياً: حث الناس على العمل بهذه الأفكار. وذلك أن نشر الأفكار وحده علاوة على كونه لا يؤثر في الناس، ولا يوجد نهضة، ولا حركة فكرية، فإنه لا يجعل الأمة تنقاد لمن ينشرها، وها هم الأدباء والكتاب والعلماء والمؤلفون في كل بلد ينشرون الأفكار، ولكن لا يوجد أحد انقاد لهم في هذا النشر. فحتى ينقاد الناس للحزب لا بد أن تصدر هذه الأفكار عن قصد التأثير، فيحتم هذا القصد على حامل الدعوة تمكين من يناقشهم من لمس واقعها، ووضع الإصبع على هذا الواقع، ويتحتم عليه إلى جانب ذلك حثهم على العمل لإيجادها رأياً عاماً بين الناس، ولإيجادها فعلاً في العلاقات وفي الدولة. أي أن إعطاء الأفكار يجب أن يقترن بالحث على العمل لها حثاً مؤثراً يبعث التفكير فيهم جدياً في العمل لها، حتى يجدوا أنفسهم حين يريدون العمل لها أنه لا بد من أن يقودهم الحزب. وأن يكون هذا الحث مقصوداً بشكل متتابع، لا أن يكون عفوياً أو إذا خطر بالبال".
إن أهل القوة والمنعة المتمثلة بقواها العسكرية ومن مجموع المسلمين الذين هم المدد الحقيقي لتلك القوى العسكرية، ينظرون إلى الساحة السياسية ويرتقبون القادر على ملء الفراغ في الحكم والسياسة ليكون محل ثقة لهم خاصة إذا كان المشروع هو الإسلام الذي هو أصلا من جنس عقيدة الأمة وهي العقيدة الإسلامية، وأن القائم على مهمة التغيير هو حزب سياسي عريق في المنشأ واضح الأعمال في ميدان الصراع الفكري والكفاح السياسي وهو من رحم الأمة معلوم الهوية باسمه وصفته ومعلوم الفكرة والطريقة وهو حزب التحرير بلا أدنى شك.
لذلك لا بد من أن يواصل حزب التحرير العمل في الأمة وقواها العسكرية في آن واحد لتغيير المفاهيم والمقاييس والقناعات لديهم حتى ينجح في إتمام عملية التغيير، وحتى يظهر حزب التحرير بالمظهر الذي يجب عليه بلوغه خاصة في هذه الحقبة التي تمر فيها الأمة من هزات عنيفة وما يعتري الفئات الحاكمة من هشاشة وضعف.
إن أي فكرة تسعى لإيجاد فصل بين قوى الأمة الطبيعية ومنها حركة الهبات الشعبية وبين جيوشها وقواها العسكرية هي فكرة خبيثة تدعو إلى حركة لولبية في الأمة كي تبقى تائهة تعود إلى حيث بدأت لتيأس وتحبط.
إن دور طلب النصرة من أهل القوة والمنعة في بحث واقع التغيير هو دور أساسي فضلا عن كونه حكما شرعيا نزل به الوحي، فلا تغيير بلا طلب نصرة ولا طلب نصرة بدون حزب مبدئي يمثل ثقة الأمة والالتفاف حوله كحزب التحرير.
إن جهد النبي r الذي بذله في سنوات مع المشقة في طلب النصرة لهو دلالة واضحة على أمر بدهي وهو ضرورة ووجوب انحياز الجيوش والقوى العسكرية الموجودة إلى مشروع الإسلام وإلى أمتهم سواء بسواء. وكل من يحاول تحييد دور طلب النصرة التي أقام بها النبي r دولة الإسلام الأولى، والتي يسير بها حزب التحرير في عملية التغيير لإقامة الخلافة على منهاج النبوة لا شك أنه أحد صنفين: إما أنه أداة وأجير للغرب الكافر المستعمر هدفه إبقاء جيوش الأمة رهن القرار السياسي الغربي، أو جاهل لا يحيط بطبيعة أحكام وطريقة بناء الدول وكيفية قوام المجتمعات على أساس فكرة كلية شاملة ووجهة نظر خاصة في الحياة مثل عقيدة الإسلام التي انبثق عنها نظام يعالج كافة المشاكل في جميع نواحي الحياة.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أحمد عبد الرحمن