الجمعة، 20 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/22م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

استغلال مقاصد الشريعة على غير ما تعنيه عند الفقهاء

 

من الضروري كمقدمة لهذا العنوان تذكّر مقال جورج فريدمان في موقع جيوبوليتيكال فيوتشرز عام 2017 الذي تحدث فيه عن صعود الإسلام السياسي وكيفية احتوائه..

 

ولا بدّ لنا من التعريف بأن جورج فريدمان هو محلل سياسي ومخطط وموجِّه للسياسة الأمريكية، ومديرُ أشهرِ المؤسساتِ العاملةِ في مجال المعلومات والاستخبارات وهي مؤسسة ستراتفور (توقعات استراتيجية)...

 

يقول جورج فريدمان في مقاله المعنون بـــ"دونالد ترامب ضد الإسلام السياسي امتداد للحروب الصليبية ضد الإسلام":

 

"بعد خروج الإسلام من الهيمنة الأوروبية، يخضع الإسلام لعملية ثورية موجعة. إنّه يحاول إعادة بناء نفسه وسط مجتمع مسلمٍ محبط. وعلى الولايات المتّحدة ألا تترك الطبيعة تأخذ مجراها، لأنها إذا فعلت ذلك ستتجاهل حقيقة أنّ التطرّف يميل لإزاحة الاعتدال، وليس العكس. وبالتالي عليها السماح باحتواء التطرف من قبل تركيا أو السعودية..."

 

والهدف الذي يراه فريدمان من هذا الاحتواء للتطرف ونشر الاعتدال هو: "كسر ثقة العالم الإسلامي المتنامية في ذاته وترسيخ اليأس من الإسلام السياسي لقرنٍ آخر... حيث إن جذور المشكلة في الشعوب، ويجب إقناع الشعوب أن آمالهم بعيدة التحقّق".

 

ويرى ترسيخ اليأس من الإسلام السياسي لقرنٍ آخر. لأن هذا ما فعلته القوى الأوروبية في عصرها. وكان اليأس من ذلك الوضع مشهوداً، وجاءت معه فضيلة الاعتدال. وبدون اليأس، لا توجد ميزة واضحة في أن تكون معتدلاً". انتهى

 

ولنا أن نتساءل: ما هي قنطرة الاعتدال الذي سمحت أمريكا لتركيا والسعودية بتبنّيه ونشره في البلاد الإسلامية من أجل القضاء على الإسلام السياسي؟

 

قنطرة الاعتدال هي فقه المقاصد.. فما هو فقه المقاصد؟

 

هذه المقولة التي يردّدها الكتّاب والمؤلّفون والشيوخ الجُدُد مفادها: أنّ الله تعالى جعل للأحكام التي شرعها مقاصد، لأجلها شُرعت هذه الأحكام، وأنّ هذه الأحكام تدور مع مقاصدها وجوداً وعدماً، ورأوا بالتالي أنّ الاهتمام يجب أن ينصبّ على المقاصد لا على الأحكام ذاتها. وهذه المقاصد خمسة أقسام: حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسب.

 

وبالتالي يسعى هؤلاء إلى تبني إسلام عصراني متوافق مع العصر يؤمن بقدسية المقاصد الكلية للدين وتاريخية وسائل التدين ليفتح المجال أمام تبديل تلك الوسائل على نحو يجعل من الإسلام موضات وموديلات... ففكرة المقاصد وقدسيتها والوسائل وتاريخيتها هي اسم "الدلع" لتحريف الدين الذي وقع لليهودية والنصرانية من قبل، والذين يطرحون هذا الطرح يفتحون باباً خطيراً "للتملص" من شعائر الدين على قاعدة التشهي...

 

وكمثال على ما ذكرناه من السعي إلى تبني إسلام عصراني مقاصدي هو: تصريح أردوغان خلال كلمته بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمرأة في آذار/مارس 2018: "لا يمكن اليوم تطبيق أحكام الإسلام التي وضعت قبل 15 قرناً من الزمان بل إنها تحتاج إلى التحديث".

 

وكمثال آخر أيضا هو انتخاب الشيخ أحمد الريسوني رئيسا لاتحاد رابطة العلماء المسلمين بنسبة 93% من 1000 عالم يرعاهم الإخوان المسلمون... وهذا الانتخاب حصل في مؤتمر عقدته تركيا وتحت رعاية أردوغان شخصياً... وهذا الريسوني يهاجم الخلافة ومن يدعو لها ويترحم على المقبور علي عبد الرازق وله مؤلفات عدة كلها تتحدث عن المقاصد ويرفض الثورات ويرفض الخروج على الحكام وينادي بفصل الدعوي عن السياسي وينادي بالدعوة إلى العلمانية المحايدة... وكان من مقررات المؤتمر الذي انتخبه رئيساً: "ضرورة التعايش السلمي والتعدد الحضاري والتواصل الحضاري ونفى التصادم الحضاري ودعا إلى الحرية المنضبطة ودعا إلى حرية الشعوب في تقرير مصيرها...".

هذه أمثلة على المقاصدية وهذا هو بالضبط ما أراده الداعون إليه من حرف للمسلمين عن إسلامهم بإلباس العلمانية الكافرة لبوس الإسلام ليخرجوا من إسلامهم إلى العلمانية ومن ثمّ إلى الإلحاد والعياذ بالله...

 

وللرد على هؤلاء المتذرّعين بالإمام الشاطبي في موضوع المقاصد، نذكر بالضرورة ما أراده الشاطبي من المقاصد:

 

يقول الشاطبي: (إن تحقيق الغاية الشرعية لا يصح إلا بالطريقة الشرعية التي وضعها الشارع طريقةً لها. وكذلك إذا جاء الشرع بطريقة معينةٍ لتحقيق غاية معينةٍ، فلا يصح السعي لتحقيق تلك الغاية إلا بهذه الطريقة). ويضيف الشاطبي أنه (لا يصح أن تُتَّخذ تلك الطريقة أو أن يُتوسَّل بها لتحقيق غاية أخرى ولو كانت تلك الغاية مقصودةً شرعاً؛ وذلك لأن تلك الطريقة إنما شُرعت لأجل تلك الغاية أو المقصد، ولم تشرع لكل مقصد. فالشارع وضع حكم قطع اليد لمنع السرقة، فلا يصح أن يُتخذ غير قطع اليد لهذه الغاية، كما أنه لا يجوز أن يُتخذ قطع اليد لأي مقصد آخر كمنع الردة مثلاً أو منع الزنى. حتى وإن كانت الطريقة أو الوسيلة الأخرى أبلغ في الزجر، كأن يوضع القتل أو مصادرة الأملاك كلها أو الأمران معاً بدلاً من القطع أو معه. وكذلك يُقال في الخلافة فهي طريقة لتطبيق الإسلام كله، فلا يجوز اتخاذ طريقةٍ أخرى لأجل ذلك - على فرض وجودها - كما لا يجوز اتخاذ الخلافة لأي أمر آخر غير تطبيق الإسلام. ولذلك فلا يعد الإسلام مطبقاً ما لم تكن الخلافة هي التي تطبقه).

 

هذا ما ينص عليه نهج المقاصد والوسائل، وهو قبل ذلك ما ينص عليه الشرع لجهة حرمة تحريف أو تبديل أي حكم شرعي، سواء وُضع في خانة مقاصد أو وسائل أو غير ذلك، ومهما اصطُلح عليه من أسماء. ولم نكن أصلاً بحاجة لولوج هذا المنهج من أساسه، لولا أن بعض المحرِّفة تذرعوا به واتخذوه وسيلةً لمقاصدهم.

 

وثمة مداخل أخرى - وعلى نهج الشاطبي نفسه - للرد على هذه الشرذمة أو الشراذم من الذين يتذرعون بالمقاصد والوسائل لمواجهة صحوة الأمة على دينها، وليضلُّوها عن التوجه الصحيح نحو العمل الشرعي المنتج لإقامة دولة الخلافة بعد إذ لمسته، وليحرِّفوا أحكام الإسلام ويقدموا أفكار الكفر من ديمقراطية وغيرها بلبوس إسلامي مخادع، ومن هذه المداخل أحد أهم المقاصد عند الشاطبي وأوسعها بحثاً عنده، وهو ما سماه قصد التعبد والامتثال أو قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة. ومفاده باختصار: أن قصد التعبد والامتثال لأمر الشارع موجود في كل أحكام الشريعة، أي في المقاصد وفي الوسائل، إذ كلها أحكام شرعية نتعبد الله بها، والأحكام التي جعلها الشارع طريقاً إلى المقاصد لا يجوز إلغاؤها بحجة أن المهم تحقيق القصد أو المعنى. فقصد الشارع في أن يعبده المكلف موجود في كل الأحكام، سواء أكانت من العبادات أم من العادات، قال الشاطبي: (إن كل حكم شرعي ليس بخالٍ عن حق الله تعالى وهو جهة التعبد)، ويقول بخصوص ما جعله الشرع سبباً لمسبَّب أي ما أريد لغيره أو ما كان وسيلة لمقصد: إن هذا ثابت لا يتغير ولا يرتفع ولو تغير الزمان أو تقدمت الاكتشافات، فيقول إن من خصائص الشريعة: (الثبوت من غير زوال؛ فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخاً، ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقييداً لإطلاقها، ولا رفعاً لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال، بل ما أثبتَ سبباً فهو سببٌ أبداً لا يرتفع، وما كان شرطاً فهو أبداً شرط، وما كان واجباً فهو واجب أبداً، أو مندوباً فمندوب، وهكذا جميع الأحكام، فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فُرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك).

 

هذا ما أراده الشاطبي بالضبط من موضوع المقاصد بعيداً عن تحريف الغالين...

 

وللردّ على المقاصديين أيضاً نذكر مما جاء في كتاب (مقدمة الدستور المادة 12: مصادر التشريع المعتبرة) الآتي:

 

(إن مقاصد الشريعة ليست نصاً يُفْهَمْ حتى يعتبر ما يفهم منها دليلاً، فلا قيمة لما يفهم منها في الاستدلال على الحكم الشرعي. ثم إن ما يسمى بمقاصد الشريعة، إن أريد به ما دلت عليه النصوص مثل تحريم الزنا وتحريم السرقة وتحريم قتل النفس وتحريم الخمر وتحريم الارتداد عن الإسلام، فإنه ليس مقصداً للشريعة وإنما هو حكم لأفعال العباد، فيوقف فيه عند مدلول النص، فلا محل لاعتبار هذا الحكم الذي فهم من النص دليلاً شرعياً بل هو حكم شرعي، ومن باب أولى أنه لا اعتبار لما يتخيله الذهن منه بأنه مقصد الشريعة من هذا الحكم بأنه من الأدلة الشرعية. فكيف الحال باعتبار ما يفهم من هذا الذي تخيله الذهن بأنه مقصد الشريعة دليلاً شرعياً؟!! وعليه فإن اعتبار ما يفهم من مقاصد الشريعة دليلاً شرعياً باطل كل البطلان. وأما إن أريد به ما يفهم من حكمة الشريعة كلها، أي حكمة إرسال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من كونه رحمة للعباد، فإنه حكمة وليس علة، والحكمة قد تحصل وقد لا تحصل، فلا تتخذ أصلاً يستدل به لإمكانية تخلفها، فمن باب أولى أن لا يتخذ ما يفهم منها أصلاً يستدل به. ولهذا لا يصلح ما يسمى بمقاصد الشريعة لأن يكون ما يفهم منها من الأدلة الشرعية. فيكون من هذه الناحية أيضاً اعتبار ما يفهم من مقاصد الشريعة دليلاً شرعياً باطلاً كل البطلان)... انتهى

 

وأخيرا نقول: المقاصديون يريدون جعل الواقع ومتغيراته حَكَماً على الأحكام الشرعية لا أن يجُعل الواقع خاضعاً للأحكام الشرعية فيغير الواقع ليطبق حكم الله بل يريدون تغيير حكم الله لينطبق وفق أهوائهم على الواقع!

 

هذا جزء من كل وغيض مما فاض به المقاصديون الذي لا يجد فيه المرء سوى المغالطات واللوثات الفكرية التي يحاولون وصمها بالإسلامية بطرحها بسبب مناصبهم كقادة للحركات الإسلامية التي تدعّي نهضة المسلمين أو مناصبهم كقادة للرأي في العالم الإسلامي.

 

لقد كان الأجدر بهؤلاء لو كانوا حريصين على نهضة الأمة الإسلامية ورفعتها وتخلصها من استبداد الأنظمة الطاغوتية وقهرها، كان الأجدر أن يكاتفوا جهودهم مع العاملين المخلصين الساعين لنهضة هذه الأمة وإقامة مشروعها الحضاري الذي سيمثل بديلاً حضارياً للرأسمالية التي اكتوى العالم بلظاها، لا أن يعمدوا إلى بث مغالطاتهم ولوثاتهم الفكرية لتكون عائقاً ومضلِّلاً للمسلمين عن تلك الغاية السامية فتبقيهم رهن الواقع الذليل الذي يعيشون ورهن الإرادة الدولية الاستعمارية ورهن أفكار الحضارة الغربية النتنة.

 

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

إسلام الصعصاع

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع