- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة الاتجاه الانعزالي في الاستراتيجية الأمريكية
لقد تبنى ترامب سياسة العزلة البناءة، وهي مبدأ "أمريكا أولا"، والتي تمثل تحولا كبيرا في الاستراتيجية الأمريكية على نمط ما قام به الرئيس الأسبق مونرو عام 1821م مع الاختلاف في هدف الاستراتيجية ودورها وظروفها، وتقضي هذه الاستراتيجية تفعيل الموارد الكامنة. سواء أكانت طبيعية، أم بشرية، أم تكنولوجية، لإعادة بناء أمريكا كفاعل رئيسي في النظام الدولي، وعدم الانغماس في الصراعات الإقليمية والدولية على حساب مقدرات الدولة الأمريكية، ولو لحساب منفعة آخرين من القوى الأخرى، خاصة بعد تجارب أمريكا المريرة في الحروب الأخيرة من خلال حجم ما قامت به وحجم المردود والمصلحة والمنفعة حيث كانت النتيجة أن أمريكا قدمت كل شيء ولم تحصّل ما حصلته بريطانيا خلال زعامتها العالمية بل ولا زالت بريطانيا مثلا تغنم وتستفيد برغم ما هي عليه وبرغم مشاركتها القليلة نسبيا.
لقد قامت سياسة أمريكا منذ بداية عشرينات القرن التاسع عشر على ما عرف حينها بمبدأ مونرو أو الانعزال عن أوروبا القديمة، الذي بسط الهيمنة على الأمريكتين، وهو إعلان أطلقه الرئيس الأمريكي جيمس مونرو سنة 1823م الذي تم طرحه في خطاب أمام الكونجرس الأمريكي على ضرورة عدم مد الدول الأوروبية نفوذها الاستعماري نحو أمريكا في مقابل التزام الولايات المتحدة من جانبها بعدم التدخل في المشكلات أو العلاقات الأوروبية. ولقد شكل هذا المبدأ مدرسة الانعزالية في السياسة الخارجية الأمريكية المعروفة باسم Isolationism لكنه انعزال مؤقت وضروري للسيطرة على الإقليم وتأمين الجوار الإقليمي من الصراع الدولي وجعلها خارج حدود الصراع نهائيا، وهذه الاستراتيجية اقتضتها عملية الصعود المرحلي بتأمين الجوار الإقليمي، ثم تبلور تيار آخر نادى بحماية المصالح الأمريكية خارج حدودها بعد تأمين الجوار، وهو ما شكل تطويراً لمبدأ مونرو من خلال المناداة بتوسع الدور الأمريكي في العالم باستخدام كافة الوسائل الممكنة بما في ذلك القوة العسكرية في إطار المحافظة على الأمن والسلام في العالم أو بهدف نشر القيم الأمريكية من الديمقراطية والحرية والعدل، وهذه كانت زمن كون الاستعمار طريقة وليس غاية بحد ذاته.
ولكن هل هذه الاستراتيجية جديدة أم هي من التفكير القديم مع محاولة الحفاظ على القيادة العالمية بما تتطلبه المرحلة الحالية والظروف الدولية؟
بداية لا بد من معرفة أن الانعزالية بمعنى ترك العالم وانحسار أمريكا هو خرافة ومستحيل ولا يتفق مع نزعة أمريكا الإمبريالية والعالمية والاستعمارية، ولا يتفق قطعا مع حقيقة الاستراتيجية الأمريكية وهي حماية التفوق الأمريكي والاستمرار. صحيح أن العزلة كامنة في العمق الأمريكي والحنين لها كبير ولكن بعد خروج أمريكا إلى العالم بالاستعمار ذاقت طعم المنفعة فأصبحت هي المسيّر لها، والمتحكم فيها المبدأ الرأسمالي بطريقته الاستعمارية. ورد في كتاب مفاهيم سياسية لحزب التحرير:
(إلا أن الشعب الأمريكي اعتنق المبدأ الرأسمالي كسائر العالم النصراني، فصار يتجاذبه عاملان: عامل القناعة والعفة، وعامل النفعية والاستعمار. وكانت بريطانيا تستغل فيه العامل الأول فتسخره ليكون قوة لها في الحرب والاقتصاد، حين كان العامل الأول هو الذي يتحكم فيه. وما إن جاءت الحرب العالمية الثانية، وتذوَّق الشعب الأمريكي طعم الاستعمار في نفط الخليج، حتى تغلب عليه العامل الثاني، وهو عامل النفعية والاستعمار، وسيَّره المبدأ الرأسمالي؛ فخرج من عزلته لاستعمار الشعوب، وإخضاع العالم لسيطرته ونفوذه، ولن يرجع لعزلته مرة ثانية إلا بالقوة، لأن المبدأ الرأسمالي قد تحكم فيه، وصار هو المسيِّر لحياته، وصارت النفعية وحدها هي التي تتحكم في سلوكه، بالإضافة إلى العنجهية والغرور اللتين ملأتا عليه حياته.)
إن وصف ترامب بأنه من دعاة الانعزالية غير دقيق نهائيا بل هو نوع من الاستراتيجية القديمة من أجل إعادة بناء أمريكا ثانية في ظل الصعود المحتمل لقوى جديدة والمخاطر الدولية وتلبد الغيوم في سماء الموقف الدولي وخشية أمريكا على مكانتها، متزامنا هذا مع أزمات مالية واقتصادية وسياسية، والحديث عن صعود قوى أخرى جعلت من أمريكا تعجل من الذهاب إلى استراتيجية إعادة التوازن وربط المحيط الهادي بالهندي.
قال وورو عن ترامب "إنه يرفض كل الهيكليات التي بنيت لتمكيننا من قيادة العالم"، ويسعى إلى إقامة اتفاقيات ثنائية. وبحسب وورو فإن ترامب يعتبر أن أمريكا قادرة على "فرض شروطها الخاصة" بدلا من شروط مكرّسة تاريخيا يصفها بأنها اتفاقيات سيئة.
فلقد كانت هذه المنظمات والاتفاقيات جيدة في وقتها وزمانها واقتضتها ظروف سياسية، ولكنها الآن لا تصلح أن تبقى في ظل الظروف الحالية، فقد أعطت الآخرين حيزا كبيرا ودورا بالرغم من عدم مشاركتهم الفاعلة سياسيا وعسكريا واقتصاديا برغم ضعف دورهم مقارنة بأمريكا التي تقوم بمركز شرطي العالم وتحظى بما لا يناسب دورها وحجمها وقوتها في الوقت الذي يأخذ الآخرون بما لا يناسب حجمهم ودورهم، فخرجت استراتيجيات مثل القيادة من الخلف وتوازن القوى لعدو مهيمن محتمل والراكب بالمجان الذي يشارك بالغنيمة دون أن يتحمل بمقدار نصيبه! فترامب لا يتحدث عن عزلة بمعناها الحقيقي أو التاريخي نهائيا حتى يبحث عن معناها اللغوي أو السياسي أو القراءة التاريخية لها، وإنما يتحدث عن خروج معين لإعادة صياغة هيكلة النظام العالمي من جديد والمحافظة على القيادة العالمية، وأمريكا تدرك أن بقية القوى لا يستطيع ملء فراغها ومكانتها نهائيا، فالتهديد بالانسحاب من أماكن النزاع هو تهديد فعال لتلك القوى مع إثارة مكامن الخوف والقلق والفوضى والنزاع في محيط تلك القوى وإعادة إحياء النزعات الوطنية والعسكرية والاقتصادية ورفض مهيمن جديد بديلا عنها، وعقد الاتفاقيات بين بعض تلك الدول منفردة أو مجتمعة ضد القوى الصاعدة ليكون التهديد فعالا. وتكتمل فصول هذه الاستراتيجية بعقلية الصفقة التي تميز ترامب عن غيره بحيث لن تكون الصفقة جيدة لأمريكا في حال كان الخصم مرتاحا ولا يشعر بالخطر، وعقلية الصفقة هذه تقوم على التعامل مع قضايا السياسة الخارجية طبعا وليس الحديث عن الداخل الأمريكي، بحيث يرتكز حجم انخراط أمريكا في قضايا العالم حسب المنفعة لها ومقدار المنفعة للآخرين حسب دورهم ومشاركتهم الذي مهما بلغ لن يكون إلا ضمن نسبة معينة وقليلة، ولا تناسب أيضا حجم مشاركتهم، بمعنى أن أمريكا تريد منهم الكثير مقابل القليل وإلا وقعت تحت رحمة الحروب التجارية والحرمان وزيادة المخاطر، أي يرتبط بمقدار ما تحققه مشاركة أمريكا من منافع اقتصادية لأمريكا، وهذا نابع من عقلية رجل الأعمال الذي يتعامل بمنطق المكاسب والخسائر، والذي برز في تصريحاته في مراجعة التعاون مع حلف الناتو، والدفاع عن الدول الصديقة، وصفقة البرنامج النووي الإيراني، والانفتاح على كوبا، والشراكة مع المحيط الهادي، وموقفه الرافض للعولمة، حيث رأى ترامب أنها كانت عبئا على أمريكا ولم تحقق لها المزايا المرجوة طوال تلك العقود وسمحت بصعود قوى أخرى...
إن هذه العقلية هي عقلية خطيرة على العالم أجمع وهي لا ترى أحدا حتى من حلفائها، ومن شأن هذه العقلية إثارة العالم ضدها ولكن الوقوف بوجهها لا يكون من خلال الحديث عن رفضها والتذمر منها ومن شخص ترامب وإدارته أو الانتظار لمرحلة ما بعد ترامب لأنها سياسة دولة وليست سياسة شخص، استراتيجية كيان وليست استراتيجية فرد، وإنما بالوقوف الحقيقي بوجهها وليس الدخول معها بمفاوضات لأنها حقيقة ما تريده أمريكا لأن المفاوضات تعني تقديم التنازلات، ولن توقف أمريكا عن عنجهيتها إلا دولة مبدئية لا تسيرها مصلحة مادية وإنما فكرة ومبدأ صحيح، ولن يكون إلا الإسلام ودولته بإذن الله.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
حسن حمدان