- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
بريطانيا والقضايا الدولية
الوجود بين القوة والضعف في ظل الهيمنة الأمريكية
ورد في كتاب مفاهيم سياسية لحزب التحرير: (إن الأعمال السياسية التي تقع في العالم كثيرة، وتتعلق بقضايا عدة، ولكن أهم هذه القضايا يمكن حصرها بست قضايا كبرى هي:
1- قضية أوروبا.
2- قضية الشرق الأوسط.
3- قضية آسيا الوسطى.
4- قضية شبه القارة الهندية.
5- قضية الشرق الأقصى.
6- قضية أفريقيا.
وتم حصر البحث في هذه القضايا الست للأسباب التالية:
أولها: إن الصراع القائم بين الدول الكبرى، أو التنافس فيما بينها، إنما يقع في هذه المناطق لذلك فمن الطبيعي أن تكون قضاياها هي أهم القضايا العالمية...).
ومن خلال هذه الفقرة والتي ستكون قاعدة الانطلاق في البحث والرأي السياسي في هذا المقال:
بداية مما لا شك فيه أن بريطانيا كانت هي الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. ورد في وكيبيديا عن بريطانيا (أضخم إمبراطورية في تاريخ العالم حتى الآن، وكانت لأكثر من قرن القوة العالمية الأولى. وبسطت سلطتها في سنة 1913 على تعداد سكاني يقارب 412 مليون شخص أي حوالي 23% من سكان العالم في ذلك الوقت، وغطت في سنة 1920 مساحة 35,500,000 كـم2 (13,700,000 ميل2) أي تقريبا 24% من مساحة الكرة الأرضية. ونتيجة لذلك، فإن إرثها السياسي والقانوني واللغوي والثقافي منتشر على نطاق واسع. وبسبب اتساع حجمها في أوج قوتها استخدمت عبارة "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" في كثير من الأحيان لوصف الإمبراطورية البريطانية لأن امتدادها حول العالم يعني أن الشمس كانت دائما مشرقة على أراضيها).
وبريطانيا كانت تتحكم بالعالم بشكل كبير وتتعامل بتوازن القوى في أوروبا بين فرنسا وألمانيا وكانت مستعمِرة لأغلب دول الشرق الأوسط بفارق كبير بينها وبين فرنسا ولها وجود قوي جدا في شرق آسيا ولم تشعر بالخطر على كيانها إلا مع ألمانيا النازية وإذاقتها مرارة الهزيمة مع الدولة الإسلامية في أكثر من واقعة ومعركة وإخراجها من بيت المقدس وكذلك وجودها الكبير والعريق في أفريقيا فضلا عن احتلالها لجزر كثيرة في البحار والمحيطات ومنها الفوكلاند على سواحل الأرجنتين، إضافة لقواعدها العسكرية المنتشرة في العالم، فوجودها الدولي كان كبيرا وكانت تفتخر بمقولة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وهذا بحث تاريخي لا يختلف عليه اثنان ولكن هل لبريطانيا الآن هذه المكانة الدولية والتحكم بالموقف الدولي الذي كان سابقا أم ضعفت وتراجعت عن مكانتها ودورها السياسي أم أُخرجت منه وأصبحت دولة تعاني عقدة التاريخ وأزمة الواقع المرير أم كما يحلو للبعض بوصفها تابعة للولايات المتحدة؟
والحقيقة التي يجب ألا تغيب عن البال هي أن بريطانيا دولة مستقلة وذات تاريخ استعماري ولم تواجه خطرا حقيقيا إلا من ألمانيا النازية والدولة الإسلامية وهي ليست تابعة وعميلة، بل إن الصراع بينها وبين أمريكا هو صراع حقيقي يظهر بقوة في مناطق ويضعف في مناطق ويكون خفيا في مناطق أخرى، والضعف والاختفاء للصراع لا يعني عدم وجوده نهائيا بل يظهر للمتابع السياسي صاحب النظرة الثاقبة لأن دوافع الصراع بين الدول قائمة لا تنتهي قديما وحديثا (والتنافس والتشاحن والتصارع الموجود اليوم، بين أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا، الظاهر منها والخفي، حول قضايا العراق، وأفغانستان، والشرق الأوسط، وغيرها من القضايا الدولية، إنما هو من أجل الاستعمار، ومن أجل السيطرة على المنافع والموارد؛ لذلك فإن الاستعمار هو الذي يتحكم في الصراع الدولي الآن، بما يتضمنه من نـزاع على الموارد، وصراع على النفوذ، وتنافس على السيطرة بكافة أشكالها وأنواعها.) (مفاهيم سياسية).
والصراع لا يعني الحرب بداية بل الحرب هي شكل من أشكال الصراع وهي أعنف الأشكال وتتحدد نتائجه في أرض المعركة بخلاف الأشكال الأخرى وخاصة الصراع السياسي الذي يعتبر بحق أخطر أنواع الصراع وخاصة الخفي منه "فمُصطلح الصّراع يدلّ على مواقف تتضمّن تَعارضاً مُعيّناً وصَريحاً في الأهداف والقِيم ومَصالح الأطراف المتصارعة"، كما عرّفه جوزيف فرانكل بأنّه "موقف ينتج عن اختلاف في المصالح القومية والأهداف"، وعرّفه لويس كوسر بأنّه "عبارة عن تنافس على القوّة والموارد والقيم يهدف فيه كل طرف من أطراف التنافس إلى تصفية أو تجسيد أو إيذاء الطرف الآخر".
وتتحدد أشكال الصراع تبعا لنقاط مهمة جدا أبرزها قوة الدولة سواء منها الصراع العسكري أو السياسي أو الاقتصادي. فقد يكون الصراع عسكريا تبعا لقوة الدولة، فالدولة الضعيفة مثلا لا تلجأ للصراع العسكري بل تلجأ إلى الصراع السياسي أو من خلال القانون الدولي (مجلس الأمن) أو لكون الأمر محل النزاع مصلحة استراتيجية تتخذ الدولة معها إجراء الحرب ولو تفاوتت القوة العسكرية ويكون الصراع السياسي أيضا تبعا لظروف ومتطلبات أخرى تفرضها مرحلة معينة أو ضعف عن المواجهة العسكرية أو المشكلة تتطلب صراعا سياسيا وليس غيره... فلكل شكل من أشكال الصراع ظروفه ومتطلباته وإمكانياته وأدواته، والأمر يتعلق بدراسة الواقع وطرفي الصراع ومحل الصراع وما يقتضيه.
ونعود لبحث مسألة بريطانيا، فلا شك أن دوافع الصراع قائمة بينها وبين الولايات المتحدة، وبداية لا بد من فهم واقع الدولة البريطانية:
إن بريطانيا دولة هي استعمارية تعيش على المستعمرات، وتركيبها من حيث المجتمع هو تركيب رأسمالي مبني على الطبقية. والحكم والسلطان فيها تتولاه الفئة الغنية من أصحاب الشركات والرأسماليين الكبار واللوردات، وهؤلاء يشكلون حزب المحافظين وهم الذين يتولون السلطة الفعلية منذ مئات السنين، لذا كان حزب المحافظين هو الحزب الحقيقي والقوي، إلا أن الإنجليز جرت عادتهم وصار عرفا دستوريا لديهم أن توجد هناك معارضة من أجل إبراز مسألة الحريات ومن أجل إظهار أن الشعب كله يحكم وليست فئة الرأسماليين فقط فدرجوا على إنشاء أحزاب للمعارضة، وبناء على هذه الفكرة وجد حزب العمال وغيره. والحقيقة هي أنها أحزاب شكلية وأدوات للمحافظين تأتي بهم في حالات وتخرجهم في حالات، ولأن بريطانيا الآن تشهد صراعا حقيقيا مع الولايات المتحدة والعمال غير قادرين على القيام بهذا الدور، فقد تولى المحافظون الحكم منذ فترة طويلة وكأن حزب العمال غير موجود رغم أن دوافع نجاحه موجودة وإخفاقات المحافظين واضحة لكنها حتمية المرحلة وضرورتها!
فالولايات المتحدة أخذت مكان بريطانيا ودورها الدولي لا بل عملت على إخراجها، يرى المؤرخ الفرنسي جان جاك بيكر أن الحرب العالمية الأولى "سجلت وصول الولايات المتحدة إلى الحياة الدولية التي لم تخرج منها بعد ذلك حتى إنها احتلت فيها تدريجيا المكانة الأولى على حساب أوروبا".
وكان وصف الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون بعد الحرب العالمية الأولى للصراع الأوروبي أن "بريطانيا تمتلك العالم وألمانيا تريده"، في إشارة منه لضرورة البحث عن مكانة أمريكا وسط الأطراف الأوروبية المتهالكة إثر الحرب.
ولكن بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية نزلت عن مكانتها الدولية أكثر، وأخذت الدول الجديدة تعمل لإخراجها من الموقف الدولي والقضايا الدولية والمشاورات الدولية مستغلة تراجعها ومستغلة قوة الدولة الجديدة وأدواتها وسيطرتها على المؤسسات الدولية خاصة بعد مؤتمر الوفاق الدولي بين العملاقين (أمريكا والاتحاد السوفييتي) في 1961 من أجل حصر بريطانيا بحدودها فقط وعدم إشراكها في الموقف الدولي بعد القضاء على دورها في كافة القضايا الدولية الست وإخراجها هي وفرنسا من مستعمراتها. فمثلا في سياسة الوفاق بين العملاقين خنست بريطانيا وضعف تأثير عملائها، فعملت أمريكا على أخذ بعض عملاء بريطانيا نتيجة قوة العسكرية الأمريكية وحسن التخطيط السياسي الاستراتيجي حيث تمكنت أمريكا من امتلاك أوراق سياسية كثيرة عند اشتراكها في الحرب العالمية الثانية، ودفعت بريطانيا الثمن غالياً لأمريكا لإنقاذها من الموت، فقد تم توقيع اتفاق الأطلنطي بين روزفلت وتشرتشل الذي تم بموجبه دخول أمريكا مناطق النفوذ البريطاني، وقد استفادت أمريكا كثيراً من هذا الاتفاق، وأخذت ترحِّل بريطانيا من مناطق نفوذها وتحل محلها، وقد استعملت أمريكا سلاحين اثنين في ترويض أوروبا وهما: مشروع مارشال وحلف الأطلسي.
وحتى نخرج بدارسة من شقين في تحديد دور بريطانيا في ظل الهيمنة الأمريكية لا بد من أمرين:
الأول: فكري من حيث القاعدة التي وضعت في بداية البحث وهي أن الحكم على بريطانيا يجب أن يكون من خلال القضايا الدولية الست السالف ذكرها كاملة، وليس من خلال بحث دور بريطانيا أو ضعفها في قضية دولية أو جزء من قضية دولية. فمثلا لوحظ الضعف البريطاني في العراق وتركيا والسعودية وحتى ليببا بعد أن كانت ذات شأن كبير في تلك البلاد لكنها لا زالت قوية مثلا في الجزائر والمغرب، ويظهر الصراع القوي والعسكري بينها وبين أمريكا من خلال الأدوات في اليمن وليبيا، ومنافسة واضحة وكبيرة في الأردن، وصمت تجاه دول الخليج بعدم الوقوف علنا بوجه المخططات الأمريكية وعدم السير معها كما تريد أمريكا بل سير المكرَه والمتربص للنفاذ والتعطيل والهروب، فلا يُحكم عليها من خلال جزء من قضية دولية، والأصل الحكم من خلال وجودها في القضايا الست وليس واحدة فقط أو جزء من قضية أو مسألة دولية، وبريطانيا مثلا يحسب لها حساب في القضية الأوروبية وأفريقيا وجزء من شرق آسيا ولا زالت موجودة في شبه القارة الهندية ومنطقة الشرق الأوسط بغض النظر عن قوة الوجود أو ضعفه أو خفائه لوقت ظهور ضعف عملاء أمريكا كما في السودان وإيران، فيظهر عملاء بريطانيا بقوة كما حدث في السودان ودورها بل ودخول سفيرها مباشرة على الخط، وهذه تحتاج معرفة دقيقة جدا للوجود البريطاني وقوة العملاء في الدولة أو الارتباط بالمستعمر القديم مع عدم الظهور لوقت تتأزم فيه الأنظمة التابعة لأمريكا أو يظهر فيها حراك أو بداية تحرك وثورة فيخرج عملاؤها من تحت الأرض بعدما كان يظن بانتهاء عملائها
في ذلك البلد، وهذا عادة يكون في حالة قوة السلطة التابعة لأمريكا بحيث تخشى بريطانيا على عملائها فتطلب منهم السكون أو الانحناء للعاصفة خشية التعرض لها فتجتثها من جذورها.
لذا نرى أن العلاقة الأمريكية البريطانية تكون أحيانا متوافقة تبعا لمصالح بريطانيا وليس ارتباطا كما في قضية فلسطين، فحل الدولتين هو ما تحمله بريطانيا بعد موت مشروع الدولة الواحدة ولا يوجد حل آخر دولي حاليا.
وهناك مثلا اختلاف في النظرة في التعامل مع روسيا سواء في الشرق الأوسط أو في عقر دارها أو محيطها الإقليمي، أو تكون العلاقة بين بريطانيا وأمريكا في حالة منافسة نتيجة كون البلد محل البحث ليس أولوية في جدول الاهتمام للقوى الدولية أو تعمل فيها بنفس الصبر الاستراتيجي وطول النفس وبناء الوسط السياسي، أو تكون العلاقة صراعا بنوعيه الظاهر والخفي تبعا لقوة بريطانيا أو ضعفها أو انشغالها بقضايا أكثر حساسية واستراتيجية، أو لأمور تتعلق بالميحط الإقليمي وضعف الأدوات لأن قوة بريطانيا لا تكمن بقوة المركز بل بقوة العملاء والأدوات مع قوة الدهاء والخبث الإنجليزي.
والبحث الثاني هو دراسة واقعية عملية لمناطق النفوذ والتأثير البريطاني في القضايا الست، وهذا بحث طويل يحتاج إلى دراسة حقيقة الوجود البريطاني في القضايا الست والدول العميلة لها وأثر هذه الدول في القضية التي تتبع لها بين القوة والضعف.
والخلاصة من البحث كله هي أن بريطانيا نزلت عما كانت عليه بلا شك وأُخرجت من أماكن وضعفت في أماكن لكنها لا زالت موجودة في أماكن وقوية في أخرى ومتحوصلة في بلاد تنتظر المناخ الملائم لها فلم تنته بوجودها في القضايا الست حتى يحكم عليها بالموت أو الاندثار أو التبعية وإنما وجود مع مرض اشتدت أوجاعها فيه مع ما آلت إليه من ضعف واضح في مناطق جعل البعض يقول بموتها أو تبعيتها مع الإقرار التام بعدم قدرة بريطانيا لأن تعود لاعبا قويا كما كانت سابقا، فعقارب الساعة لا تعود للوراء، فضلا عما استجد لبريطانيا من معضلات ومشاكل استراتيجية سواء في تمدد أمريكا في أوروبا أو دخولها أفريقيا واستخدام أو إدخال أمريكا لروسيا والصين في الشرق الأوسط وأفريقيا لمنافسة الاستعمار القديم ومحاولة أمريكا على توسيع الرقعة أكثر بين أوروبا وروسيا من خلال الانسحاب من معاهدة الصواريخ والثورات التي تجتاح المنطقة الإسلامية ودخول الأمة كلاعب حقيقي والنمو السريع للمد الإسلامي والرأي العام للخلافة والإسلام والحنين لتاريخ العظمة والعمل لها وضمور الشخصيات السياسية الإنجليزية التي كانت أكثر الدول العربية إنتاجا للسياسيين... ولعل هذه النقاط تكون في مقال آخر إن شاء الله.
قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140]
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
حسن حمدان