- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
جـواب سـؤال: واقع البدعة
السؤال: تناقشنا في إحدى جلساتنا عن البدعة اصطلاحاً، فبعضنا قال هي تطلق على كل مخالفة لأمر الشارع، وبعضنا قال إنها فقط تطلق على مخالفة أمر الشارع في العبادات... نرجو توضيح هذا الأمر، وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب:
1- أوامر الشارع نوعان:
نوع وردت فيه صيغة الأمر مع بيان كيفية أداء هذا الأمر، أي الإجراءات العملية للتنفيذ، مثلاً يقول الله سبحانه {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}، فهذه صيغة أمر، ولكنه لم يُترك للإنسان أن يصلي كما يريد، بل جاءت نصوص أخرى فبينت كيفية الأداء من إحرام وقيام وقراءة وركوع وسجود...، وكذلك قال سبحانه {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} وهذه صيغة أمر بالحج "خبر في معنى الطلب"، ثم وردت نصوص تبين كيفية أداء هذا الأمر بالحج...
ونوع ثانٍ وردت فيه صيغة الأمر عامة أو مطلقة دون بيان كيفية الأداء، أي دون بيان الإجراءات العملية للتنفيذ،
فمثلا قوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» [أخرجه البخاري]، فهنا أمر بالسلم "السلف" بصيغة الجملة الشرطية، فقد أمر أن يكون السلم في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم، ولكن لم يبين الشارع كيفية إجراءات الأداء، كأن يقف العاقدان أمام بعضهما، ويقرءا شيئاً من القرآن، ثم يتقدمان خطوة إلى الأمام، ويتعانقان ثم يتخاطبان في موضوع السلم... وبعد ذلك يتم الإيجاب والقبول...
ومثلاً قوله صلى الله عليه وسلم « الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ » [البخاري ومسلم] ، «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ مِثْلًا بِمِثْلٍ»[البخاري ومسم]. فهو أمر"خبر في معنى الطلب"، ولكنه لم يبين إجراءات عملية لهذا التبادل على نحو ما ذكرناه سابقاً
ومثلاً صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بالقيام عندما تمر الجنازة كما في حديث مسلم « إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها... »، وفعل الرسول هو في مقام الطلب، أي الأمر، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يبين كيفية الإجراءات العملية للقيام على النحو الذي بيناه في الأمثلة الأولى.
وهكذا فهناك أوامر للشارع وردت معها إجراءات عملية للأداء، وهناك أوامر للشارع وردت مطلقة أو عامة دون إجراءات عملية تفصيلية لكيفية الأداء.
2- مخالفة أمر الشارع الذي وردت له كيفية أداء تسمى اصطلاحاً بدعة لأنها ليست على الكيفية التي بينها الشارع، فالبدعة لغة كما في لسان العرب: المبتدع الّذي يأتي أمراً على شبهٍ لم يكن...، وأبدعت الشّيء: اخترعته لا على مثالٍ،
وهي في الاصطلاح كذلك، أي مخالفة كيفية شرعية بيَّنها الشرع لأداء أمر شرعي، وهذا المعنى هو مدلول الحديث. « وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ » [البخاري ومسلم]. وهكذا فإن من سجد ثلاثاً في صلاته بدل اثنتين فقد جاء ببدعة، ومن رمى ثماني حصيات بدلاً من سبع على جمرات منى فقد جاء ببدعة... وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أي أنه يأثم بفعلته تلك.
3- مخالفة أمر الشارع الذي لم ترد له كيفية أداء، فهي تقع في الأحكام الشرعية، فيقال عنها حرام، أو مكروه، أو مباح إن كان خطاب تكليف، أو يقال باطل أو فاسد... إن كان خطاب وضع، وذلك حسب القرينة المصاحبة للأمر من حيث الجزم أو الترجيح أو التخيير.
ففي مثالنا الأول من أسلف "أي عقد عقد السلم"، بخلاف أمر الشارع أي دون كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم، فلا يقال إنه جاء ببدعة، وإنما يقال إن هذا العقد المخالف لأمر الشارع هو باطل أو فاسد وفق نوع المخالفة.
وفي المثال الثاني فإن مخالفة الأمر "الذهب بالذهب هاء بهاء مثلا بمثل"، أي لو بادل رجل الذهب بالذهب مخالفاً أمر الشارع أي ليس مثلاً بمثل ولا هاء بها، فلا يقال إنه جاء ببدعة بمخالفته الأمر، وإنما يقال ارتكب حراماً بقيامه بمعاملة ربوية.
وأيضاً فإن مخالفة القيام للجنازة والبقاء جالساً، لا يقال إنه بدعة، بل يقال إنه مباح لأن النصوص الشرعية وردت في الحالتين، فقد أخرج مسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قَالَ «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَعَدَ» [مسلم].
وهكذا بالنسبة لمخالفة أمر الشارع « فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» [البخاري]، لا يقال عنه بدعة، بل يدرس الحكم الشرعي المتعلق بزواج غير ذات الدين، وذلك لأنه لم يبين إجراءات عملية في الاختيار مثلاً أن يقف الخاطب أمامها ويقرأ أية الكرسى، ثم يتقدم خطوة ويقرأ المعوذتين، ثم يتقدم خطوة أخرى ويسمي الله، ثم يمد يده اليمنى ويتقدم بالخطبة...
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إِنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ» [أبو داود وأحمد] للتجار نتيجة إكثارهم من الحلف، فالشارع لم يبين إجراءات تفصيلية لأداء الأمر "فشوبوه"، ولهذا فلا يقال إن الذي يبيع ويستعمل الحلف إذا لم يتصدق فقد جاء ببدعة، وإنما يدرس الحكم الشرعي المتعلق بعدم تصدق التاجر الذي يحلف عند البيع.
وهكذا بالنسبة لمخالفة جميع الأوامر التي لم يأت الشارع لها بكيفية تفصيلية للأداء.
4- باستقراء النصوص الشرعية وجد أنه فقط في غالب العبادات وردت كيفيات لأداء أمر الشارع، أي إجراءات عملية لتنفيذ أمر الشارع، ولذلك فلا تقع البدعة في غير العبادات، لأنها هي التي وردت فيها إجراءات عملية لتنفيذ أمر الشارع.
ونقول غالب العبادات، لأن بعضها لم يرد فيها إجراءات عملية للتنفيذ، فمثلاً الجهاد وإن كان عبادة إلا أن أوامره وردت مطلقة أو عامة {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ}، {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}، فهذه الأوامر لم ترد نصوص لبيان كيفية أدائها، فلم يرد مثلاً كيف تقاتل كأن تقرأ آية، وتطلق طلقة، وتتقدم خطوة وتطلق أخرى ثم تتحرك إلى اليمين... وهكذا، ولذلك فمن لم يجاهد في الوقت الذي يترتب الجهاد عليه، لا يقال عنه إنه جاء ببدعة، وإنما يقال ارتكب حراماً لتخلفه عن الجهاد.
5- والخلاصة أن مخالفة أمر الشارع الذي بين الشارع له كيفية الأداء، تكون هذه المخالفة بدعة، ومخالفة أمر الشارع المطلق أو العام الذي لم يبين الشارع له كيفية أداء، تكون هذه المخالفة واقعة في الأحكام الشرعية "التكليف- حرام، مكروه، مباح" أو "الوضع، بطلان، فساد".
وحيث إنه بالاستقراء وُجد أن غالب العبادات وردت فيها كيفية الأداء، ولهذا تقع مخالفتها في باب البدعة.
وأما أدلة المعاملات أو الجهاد... فوردت مطلقة أو عامة، ولهذا تقع مخالفتها في باب الأحكام الشرعية "التكليف: حرام، مكروه، مباح" أو "الوضع: بطلان، فساد".
29 رمضان 1430 هـ
18/9/2009م