بسم الله الرحمن الرحيم
فريضة بدء شهر رمضان حال رؤية الهلال في أي قُطر
(مترجم)
ينتظر المسلمون بفارغ الصبر قدوم شهر رمضان الكريم، كي يبحثوا عن نعمه ويتقربوا فيه إلى الله سبحانه وتعالى، إلا أنه قد يكون عام آخر ندخل فيه شهر رمضان ونخرج منه ونحن منقسمون. إن الأمة الإسلامية تشعر باستمرار بألم الانقسامات القومية والحدود السياسية المصطنعة، التي فرضتها القوى الاستعمارية بعد هدم الخلافة. إلا أن هناك ألماً آخر يُضاف إلى آلامها يأتي كل عام وهو الاختلاف الذي ينشأ حول تحديد بداية شهر رمضان ونهايته.
لقد مضى زمن طويل على المسلمين عندما كانوا يبدأون شهر رمضان وينهونه في جميع أصقاع الأرض بناء على الإعلان الذي يأتي من خليفتهم. إلا أنه وللأسف الشديد قد وصل بنا الحال اليوم إلى أن نبدأ الشهر الفضيل مع مسجد ما أو بلد ما، إن هذا الاختلاف الذي يُمزق أبناء البلدة الواحدة ليذكرنا بأثر غياب دولة الخلافة.
وجوب بدء الصوم ونهايته إنما يكون برؤية الهلال
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ» رواه مسلم. وبالرغم من أن الحسابات الفلكية والعلمية قد تحدد مولد ومكان الهلال، كما هو الحال في تحديد أماكن الشمس لمعرفة أوقات الصلاة، إلا أن الشرع قد حدد بداية شهر رمضان ونهايته برؤية الهلال. ولقد وردت أحاديث كثيرة صحيحة واضحة بالإضافة للحديث السابق، تبين أن الرسول ﷺ قد أمر بأن يكون تحديد بدء الصوم ونهايته بناء على رؤية الهلال، ومخالفة هذه الأوامر إثم شأنها شأن أي مخالفة شرعية.
استخدام الحسابات الفلكية لتحديد بداية الصوم ونهايته
البعض يتبنى الحسابات الفلكية، والتي لا يمكن استخدامها بدل الرؤية، التي وردت صريحة في الأحاديث النبوية الشريفة، فهذه الأحاديث استخدمت كلمة "رؤيته" المشتقة من الفعل "رأى". إن الذين يدعمون الحسابات الفلكية لتحديد ميلاد الهلال قد أساؤوا فهم كلمة "رأى" والتي تعني في بعض الأحيان "المعرفة"، فإنه من الخطأ استخدام هذا المعنى في قضية تحديد الصيام للأسباب التالية:
1- إن كلمة "رأى" عند الإشارة إلى شيء واحد تعني تخيل ذلك الشيء من خلال العين، أي أنه رأى القمر، وإذا كانت كلمة "رأى" تشير إلى شيئين، فقد تعني المعرفة أو الرأي، أي أنه يعرف الرأي الصحيح.
2- أما اذا استخدمت كلمة "رأى" للإشارة لشيء ملموس فإنها تعني تصور ذلك الشيء بالعين، واذا استخدمت لطرح فكرة معينة فإنها تعني المعرفة. ولأن الأحاديث هنا تتحدث عن الهلال وهو شيء محسوس فإن المقصود من كلمة "رأى" هو الرؤية بالعين.
فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ» رواه البخاري.
فالذين يتبنون فكرة الحسابات الفلكية دعموا رأيهم "بِعِلّة" أن هذه الأمة "أميّة" لا تحسب ولا تكتب ولذلك استخدموا الرؤية لتحديد بداية الصوم ونهايته، وكون الأمة اليوم تغير حالها وأصبحت تحسب وتكتب فإن العلة قد انعدمت وبناء عليه فإننا نستطيع اليوم استخدام الحسابات الفلكية لتحديد بداية الصوم ونهايته. إلا أن هذا الرأي خاطئ للأسباب التالية:
1- كلمة "أمية" في الحديث لا تدل على العلة (أي السبب الباعث للحكم الشرعي). فقد تستخدم كلمة "أمية" للإشارة إلى "العرب" كما جاء في سورة الجمعة ﴿... هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾. وعبارة «لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ» التي جاءت في الحديث قد تحمل معاني مختلفة منها: لا نستخدم الحسابات الفلكية لتحديد بداية الشهر ونهايته؛ ولا نمارس التنجيم. وكلمة "نحسب" لا تعني الحسابات العامة لأن المسلمين أمروا بتطبيق أحكام الزكاة والميراث والتي تعتمد على حسابات مختلفة.
2- ولو افترضنا أن كلمة "أمية" علة للحكم، فإن القياس في هذه الحالة ليس صحيحا، لأنه أولا لا قياس في العبادات، وثانيا فإن هذا الافتراض يخالف النصوص الصريحة في الأحاديث والتي تنص على أن سبب بدء الصوم هو رؤية الهلال كما أن غروب الشمس هو سبب دخول وقت صلاة المغرب.
وبناء عليه فإن استخدام الحسابات الفلكية لتحديد بداية الصيام ونهايته لا تجوز، وتحديد بداية شهر رمضان إنما يكون برؤية الهلال.
وحدة المطالع واختلافها
قال ﷺ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» رواه النسائي. يحتوي نص الحديث على صيغة الجمع "صُومُوا". لذلك لا اعتبار للجغرافيا أو المسافة - لأن أي جزء من العالم يشترك في نفس النهار والليل، وإن كان ذلك في أوقات مختلفة. لذلك، فإن الأمر بالصوم والفطر عند رؤية الهلال هو أمر يُخاطب به جميع المسلمين في جميع أنحاء العالم.
وقد روي عن مجموعة من الأنصار رضي الله عنهم أنهم قالوا: «غُمَّ عَلَيْنَا هِلَالُ شَوَّالٍ فَأَصْبَحْنَا صِيَاماً، فَجَاءَ رَكْبٌ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ فَشَهِدُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ بِالْأَمْسِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُفْطِرُوا مِنْ يَوْمِهِمْ، وَأَنْ يَخْرُجُوا لِعِيدِهِمْ مِنْ الْغَدِ» رواه أحمد.
وأما رأي ابن عباس رضي الله عنه والذي لم يأخذ برؤية أهل الشام التي نقلها إليه كُريب عندما عاد من الشام، فإن جمهرة العلماء قالوا بأن هذا اجتهاد صحابي، وكما هو معلوم فإن اجتهاد الصحابي لا يعتبر دليلا ولا حجة. علاوة على أن هذا الاجتهاد يخالف الأدلة الصريحة التي ذكرناها سابقا، بالإضافة إلى أن الرسول ﷺ قد أخذ برؤية الركب الذي جاء من خارج المدينة. وأما ما ذهب إليه بعض العلماء بقولهم إن ابن عباس رضي الله عنه لم يقبل برؤية أهل الشام لأنها شهادة رجل واحد وأن ثبوت هلال شهر شوال يحتاج إلى شاهدين، فإن ابن عباس نفسه قد روى أحاديث عن رسول الله ﷺ تستخدم ألفاظ العموم في موضوع الرؤية. وعليه فيجب على المسلمين في كل مكان بدء رمضان في يوم واحد والاحتفال بالعيد في يوم واحد، وإن رؤية الهلال من أي مكان في العالم ملزمة وعلى المسلمين أينما وجدوا التقيد بها.
أما العلماء الذين اعتبروا رواية كُريب كشبهة دليل على اختلاف المطالع فإنهم اختلفوا في طول المسافة التى تعتبر نهاية مطلع وبداية آخر، فبعضهم قال هي المسافة التي تُجيز القصر في الصلاة (72 ميلاً في بعض الآراء) إلا أن آخرين قالوا إن مسيرة شهر (500 - 600 ميل) تعتبر الحد الفاصل بين مطلع وآخر. فإن هذه المسافات تمنع أن تكون الحدود السياسية المصطنعة مطالع مختلفة. والخلاصة فإن الرأي القائل باختلاف المطالع رأي ضعيف، والأهم من ذلك فإن تطبيقه في هذه الأيام ليس له أي سند شرعي، بل على العكس فإن اختلاف المطالع اليوم وللأسف الشديد، يستند إلى الانقسامات القومية والحدود السياسية المصطنعة التي فرضتها على الأمة الإسلامية القوى الاستعمارية الغربية. مما يُعمق الاختلاف السياسي والقومي بين أبناء الأمة الواحدة.
يقول الرسول ﷺ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» (سنن أبي داوود).
وهنالك قائمة طويلة من العلماء المعاصرين والقدامى الذين تبنوا رأي وحدة المطالع منهم: أبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وكثير من تلامذة الشافعي وابن العربي وابن تيمية والنووي والشوكاني والكسائي ورشيد أحمد الكنكوهي مؤسس دار العلوم في ديوبند وأحمد رضا خان البرليفي والمفتي كفاية الله ومحمد زكريا الكاندهلوي وغيرهم الكثير. وهناك الكثير من كتب الفقه المشهورة والتي قالت برأي وحدة المطالع منها: فتاوى المغيري وفتوى دار العلوم - ديوبند وبحر الشريعة ودرر المختار وغيرها الكثير.
أيها المسلمون:
إذا ثبتت الرؤية الشرعية لهلال شهر رمضان المبارك في أي قطر مهما كان بُعده عنكم وجب عليكم الصيام ولا يجوز انتظار إعلان الحكام ومفتيهم في بلدكم، وإذا ثبتت الرؤية الشرعية لهلال شهر شوال وجب عليكم الإفطار. إنكم تصومون وتفطرون امتثالا لأوامر الله سبحانه وتعالى وأوامر نبيكم ﷺ وليس امتثالا لأوامر الحكام الفسقة ومفتيهم الذي يلهثون لإرضاء هؤلاء الحكام الخونة. قال معاذ رضي الله عنه: يا رسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك ولا يأخذون بأمرك فما تأمر في أمرهم؟ فقال رسول الله ﷺ: «لَا طَاعَةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» رواه أحمد. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ يَوْمِ الْأَضْحَى وَيَوْمِ الْفِطْرِ» متفق عليه.
لقد ربط الإسلام رؤية هلال رمضان بالقيادة السياسية للمسلمين كمثال عملي لوحدة المسلمين في شهر رمضان وباقي الأيام. هذه القيادة السياسية هي الخلافة الإسلامية وليست الأنظمة الفاسدة التي انتشرت في جميع بلاد المسلمين.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الشهر الفضيل شهر طاعة وعبادة وثواب لنا جميعا.
أيها المسلمون، تتوق الأمة إلى الوحدة، وينبغي أن يكون رمضان تجسيداً عملياً لهذه الوحدة. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا تحت ظل الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
التاريخ الهجري :26 من شـعبان 1442هـ
التاريخ الميلادي : الخميس, 08 نيسان/ابريل 2021م
حزب التحرير
أمريكا