بسم الله الرحمن الرحيم
الركود الوشيك ونور الإسلام
أدى ارتفاع الأسعار، وزيادة تكاليف المعيشة، وانخفاض المدخرات، وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء إلى وجود اعتقاد على نطاق واسع بين الناس أن الاقتصاد العالمي يتجه نحو الركود، وأن الوضع الاقتصادي لملايين الناس سوف يزداد سوءاً، مع أنه من الصعب التنبؤ بتوقيت حدوث ذلك الركود إلا أن هناك العديد من العوامل التي تشير إلى حدوث تراجع يلوح في الأفق.
أحد المؤشرات الرئيسية هو الوضع الحالي لسوق العمل، والذي أظهر بوادر ضعف في الأشهر الأخيرة، حتى إن عمالقة التكنولوجيا مثل جوجل وأمازون سرحوا ما يقارب الـ30 ألف موظف بدعوى أن الاقتصاد غير مستقر، بالإضافة إلى ذلك فإن التباطؤ في سوق العقارات وتراجع مدخرات المستهلكين هو أيضاً علامات مبكرة على الركود الاقتصادي القادم. إن زيادة ديون بطاقات الائتمان بنسبة 15٪ خلال العام الماضي - وهي أكبر زيادة منذ أكثر من عقدين - تشير إلى فقدان مدخرات الناس وزيادة الاعتماد على الديون لتغطية الزيادة في تكاليف المعيشة، والعامل الآخر هو الوضع الحالي لسوق الأسهم، حيث شهد مؤشر S&P 500 تعديلا كبيراً في الأشهر الأخيرة مع توقع العديد من المحللين أن السوق قد يستمر في الانخفاض في الأشهر المقبلة، بالإضافة إلى ذلك فإن سوق السندات أيضاً تظهر عليه علامات ضعف مع انخفاض عائدات السندات طويلة الأجل إلى أدنى مستوياتها.
كذلك يتوقع العديد من الخبراء أن الركود القادم سيكون مختلفاً عما سبقه، ففي تقرير بعنوان "التوقعات العالمية لعام 2023" حذرت شركة بلاك روك - أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم - من ركود وشيك، وذكرت أن صناع القرار السياسي لن يكونوا قادرين على دعم الأسواق كما فعلوا خلال فترات الركود السابقة وذلك سيؤدي إلى اضطرابات في السوق أكثر من أي وقت مضى. حتى شركة بلاك روك نفسها قامت مؤخراً بتسريح 3٪ من قوتها العاملة بحجة أن "بيئة السوق غير مسبوقة". كما حذر بنك مورغان ستانلي وبنك أوف أمريكا ودويتش بنك من أن الأسهم الأمريكية يمكن أن تنخفض لأكثر من 20٪ هذا العام بسبب الانكماش الاقتصادي ومخاطر السيولة الناتجة عن زيادة الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة الربوية، حتى البنك الدولي قال إن "النمو العالمي قد تباطأ لدرجة أن الاقتصاد العالمي يقترب بشكل خطير من الدخول في مرحلة ركود".
إن النظام الرأسمالي يسمح للحكومة بطباعة العملة حسب حاجتها، الأمر الذي يؤدي إلى التضخم إذا زاد المعروض النقدي بسرعة كبيرة، فعلى سبيل المثال؛ ضخت الولايات المتحدة ما يقارب 16 تريليون دولار لدعم الاقتصاد بعد انهيار السوق بسبب أزمة كوفيد-19، وضخت مليارات الدولارات كذلك في عام 2008 بعد انهيار سوق العقارات، وخفضت أسعار الفائدة الربوية حينها إلى ما يقارب الصفر لتشجيع النمو الاقتصادي، أما اليوم فمع ارتفاع نسبة التضخم قام الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة لإدارة التضخم والسيطرة على المعروض النقدي.
إن حدوث الكساد والطفرات الاقتصادية طبيعة متأصلة في النظام الرأسمالي، وقد زادت حدة هذه التقلبات في العقود القليلة الماضية، والسبب الرئيسي في ذلك هو العملات الورقية وأسعار الفائدة الربوية، وعلاوة على ذلك فإن تقلب القطاع المالي والديون التي تتطلب زيادة في الإنتاج التي لا تأخذ بعين الاعتبار توزيع الثروة بين الناس، فمع ارتفاع التضخم إلى أعلى مستوى له منذ 40 عاماً، وارتفاع تكاليف المعيشة والغذاء، تتراجع المدخرات والأجور ولا يستطيع الأشخاص العاديون تغطية نفقاتهم، ويزداد تركز الثروة في أيدي الأغنياء ويزداد شقاء الغالبية العظمى في المجتمع. هذه البيانات وغيرها توضح أن المشكلة ليست مجرد "سياسات سيئة" بل هي فشل في أصل النظام الرأسمالي نفسه.
إن الإسلام لديه نظام اقتصادي متميز، وهو الحل الوحيد للبشرية جمعاء، ذلك أن نظرة الإسلام إلى المشكلة الاقتصادية وحلها مبنية على نموذج فريد يختلف عن الرأسمالية، فعلى سبيل المثال؛ يقوم النظام النقدي في الإسلام على معيار الذهب والفضة، وقد ربط الإسلام الذهب والفضة بأحكام شرعية ثابتة مثل الزكاة والدية والسرقة وصرف العملة وما إلى ذلك، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «وَأَنَّ فِي النَّفْسِ المُؤْمِنَةِ مِاْئَةٍ مِنَ الإِبِلِ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَلْفُ دِينَارٍ».
إن قاعدة الذهب والفضة لها قيمة عظيمة بحيث تحد من طباعة العملات بلا سند، وتمنع حدوث التضخم لأن النقد المعروض في السوق مرتبط بشكل مباشر بكمية الذهب والفضة الموجودة في احتياطيات بيت المال، وإذا ما حدث ارتفاع في الأسعار يكون بسبب آليات العرض والطلب وليس بسبب السياسات النقدية كما نرى اليوم. بالإضافة إلى ذلك فإنها توفر سعر صرف ثابت بين العملات وتمنع التقلبات المفاجئة لأن قيمة العملة مرتبطة بالذهب والفضة، بل إن معيار الذهب والفضة يحافظ على الاستقرار الاقتصادي والنمو الدائم دون حدوث حالات الكساد.
إن النظام الاقتصادي الإسلامي قائم على عدالة توزيع الثروة وليس مجرد زيادة الإنتاج. صحيح أن التمويل (زيادة رأس المال) يلعب دوراً في الاقتصاد، ولكن ذلك يتم من خلال شراكات تجارية تهدف إلى تحقيق الربح وتقاسم الخسائر، لذلك فإن منع الربا يقضي على المؤسسات المالية الحالية المبنية على استثمار الدين وزيادة أرباحها ما يؤدي إلى نتائج كارثية، لذلك فإن منع الربا يضع حداً لتركز الثروة في أيدي حفنة من الأغنياء. كذلك فإن نظام الزكاة ومنع كنز المال ومنع الاحتكار يعمل على إعادة توزيع رأس المال وبالتالي تشجيع النمو الاقتصادي، لذلك وضع الإسلام ضوابط وأحكاماً لمنع تداول الثروة بين الأغنياء. قال الله سبحانه وتعالى: ﴿مَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾ (الحشر: ٧)
هذه كانت نظرة سريعة على النظام الاقتصادي في الإسلام الذي يفتقر حالياً إلى التطبيق العملي، وهذا النظام لا يمكن تطبيقه بشكل منفصل عن النظام الإسلامي المتكامل المتمثل في نظام الخلافة.
فالنظام الاقتصادي في الإسلام يسير جنباً إلى جنب مع النظام الاجتماعي والقضائي والسياسي... لذلك فإن تطبيق بعض السياسات الاقتصادية الإسلامية داخل النظام الرأسمالي الحالي لا يصلح، بل ويظهر كأن نظام الإسلام غير صالح للتطبيق، مع أن نظام الإسلام صالح للتطبيق في كل زمان ومكان وأحكامه الإلهية هي الحل لجميع القضايا العالمية.
لقد كرس حزب التحرير جهوده لاستئناف الحياة الإسلامية، وعمل جاهدا لفهم النظام الاقتصادي العالمي وقدم حلولا لكيفية الانتقال من النظام الاقتصادي الحالي إلى النظام الإسلامي وقدم دستورا متكاملا وشرح نظام الحكم في الإسلام. إن أدبيات الحزب التفصيلية تضع رؤية جديدة للأمة الإسلامية والعالم أجمع ليعيش في ظل أحكام الله سبحانه فتقود العالم إلى السلام والرخاء والنجاة في الآخرة. رؤية جديدة تسعى لإخراج العالم من ظلمات الرأسمالية إلى نور الإسلام. ولهذا فإننا ندعو الأمة أن تجعل إيمانها بالله وخوفها منه هو وحده دليلها في الحياة لترى مستقبلا مشرقا بإذن الله.
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا۟ يَكْسِبُونَ﴾
التاريخ الهجري :12 من رجب 1444هـ
التاريخ الميلادي : الجمعة, 03 شباط/فبراير 2023م
حزب التحرير
أمريكا