بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب "حزب التحرير-ولاية لبنان"
جانب سعادة سفير "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" في لبنان،
ومن خلاله إلى السادة كبار الحكام في الجمهورية،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
بناء على طلب سعادتكم اللقاء بنا، نحن مسؤولي "حزب التحرير-ولاية لبنان"، قرّرنا أن نقدّم لكم خلال لقائنا الكتاب النصيحة التالي، والذي نوضح فيه موقفنا من جمهوريتكم ونظامها وسياساتها الداخلية والخارجية بإيجاز، علمًا أنّ "حزب التحرير" كان قد أرسل وفدًا إلى إيران سنة 1979م للتهنئة بإسقاط نظام الشاه، ولتقديم مذكّرة تتضمّن نصائحنا، ثمّ عاد وفد آخر في السنة نفسها يحمل مشروع دستور، وقدّمه إلى اللجان التي كانت تعمل على وضع دستور للدولة الجديدة.
معلوم لدينا أنّ نظامكم الإيراني الحالي قام على أثر نجاح الثورة في إسقاط نظام الشاه الطاغوتي سنة 1979م، وهو النظام الذي اقتفى أثر هادم دولة الخلافة الخائن مصطفى كمال، في تغريب المجتمع المسلم في إيران وإلحاقه بعجلة الحضارة الغربية الكافرة التي تقوم على أسس تناقض الإسلام جملة وتفصيلاً. وقد أحيت الثورة الإيرانية يومذاك الآمال لدى الأمّة الإسلامية بأنّها، إذا حزمت أمرها، قادرة على استعادة سلطانها المغصوب من الحكّام الطغاة الذين تسلّطوا عليها بمعاونة من الغرب المستعمر الكافر، والإمساك بالتالي بزمام أمورها.
ولسنا هنا بصدد الخوض في مراجعة تفصيلية للمحطات والأحداث والتحدّيات التي واجهتها الثورة في إيران، بما في ذلك هجوم "صدّام حسين" على إيران، ولكنّنا نريد التوقّف عند طبيعة النظام الذي قامت الثورة بتشييده في إيران، ونتوقف بخاصّة عند المسألة الأساسية والجوهرية: هل قام النظام ليطبّق الفكرة الإسلامية القائمة على العقيدة الإسلامية والمتجسّدة في أحكام الشريعة دون سواها؟
الإجابة على هذا السؤال تقتضي بعض التفصيل في سياسات الجمهورية في مجالين: في السياسة الداخلية، داخل إيران على مستوى أنظمة الحكم والاقتصاد والاجتماع وسياسة التعليم، وفي السياسة الخارجية. إذ لا يخفى أنّ إعادة صياغة المجتمع على أساس الإسلام تقتضي هدم كلّ ما بناه نظام الشاه والذي -كأقرانه في سائر البلاد الإسلامية - بُني على عين الاستعمار الغربي. ومعلوم لدى الجميع أنّ هذه السياسات تقوم على الأسس التي حدّد معالمها الدستور الإيراني ورسم إطارها العامّ والوجهة التي تسير بحسبها. والواجب الشرعي يقضي بأن تكون العقيدة الإسلامية هي الأساس الذي يقوم عليه النظام وسياسة الدولة، وأن تكون الشريعة هي المتحكّمة بكافّة جوانب السلطة والمجتمع في الدولة الاسلامية، مهما كانت الصعوبات والعقبات التي تواجهها، سواء من كيد الأعداء الخارجيين أو من جهل المجتمع في الداخل الذي تأثّر بشكل أو بآخر بسموم الثقافة الغربية عبر عقود من السياسات المتغرّبة.
1- مراجعة لواقع النظام الإيراني وسياسته الداخلية:
من خلال مراجعة نشوء نظام الجمهورية بعد الثورة، فإنّنا نلمس وجود تناقضات عدّة في هيكل النظام، ليس أقلّها غموض فكرة "ولاية الفقيه" وعدم بلورتها سياسيًّا لتشكّل أساسًا لحكم إسلامي. وما تنحية "آية الله منتظري" عن منصب نائب الوليّ الفقيه الذي كان معيَّنًا فيه على عهد الإمام الخميني إلا شاهد صارخ على هذه المعضلة التي ما زالت تلقي بظلالها على طبيعة نظام الجمهورية إلى لحظتنا هذه. وهناك الكثير من الشواهد التي تصبّ في هذا الاتجاه، منها التخبّط الواضح في تحديد معالم النظام "الجمهوري" منذ أيّامه الأولى في تجربة "مهدي بازركان" و"بني صدر"، وتعدّد الرؤوس ما بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة البرلمان ومجلس الخبراء ومجلس تشخيص مصلحة النظام، في ظلّ الصلاحية المطلقة لولي الفقيه "الإمام الخميني" يومذاك، قبل أن يتم إجراء بعض التعديلات لاحقًا. هذا عدا عن استمرار الجدل الدائر داخل إيران وخارجها حول فكرة "ولاية الفقيه" التي شكّلت أساس نظام الحكم في إيران، بعد تطعيمها بعناصر من الفكرة الغربية القائمة على الحكم الجمهوري، ما أنتج نظامًا هجينًا ضاعت معالمه جرّاء هذا التداخل. فمن المعروف أنّ هناك فريقًا كبيرًا ومهمًّا من المراجع الشيعية في إيران والعراق ولبنان رفضوا "ولاية الفقيه" كما أسّسها الإمام الراحل الخميني، إذ يذهب هؤلاء المراجع إلى عدم ممارسة العلماء (رجال الدين كما يرون) الشأن السياسي وحصر دورهم في الإرشاد "الديني".
ثمّ إنّه من خلال مراجعة السياسات التعليمية والثقافية والإعلامية للنظام الإيراني يخرج المراقب بخلاصة واضحة: وهي أنّ هذه السياسات إنّما قامت على نزعة قومية فارسية واضحة، وأنّهالم تُراعَ الناحية الإسلامية إلا من خلال مسحة تجميلية لإضفاء الشرعية الإسلامية على الدولة والمجتمع في إيران. فلم يتمّ بناء الدولة والمجتمع على أساس الفكرة الإسلامية الصافية، بدليل أنّ النظام استمر في التصرّف بناء على النظرة القومية الفارسية لا الإسلامية، حيث يشترط أن يكون الرئيس إيرانياً ومن أبوين إيرانيين، ويجعل الدولة لإيران فقط وليس للأمة الإسلامية. ولم يجعل اللغة العربية - وهي لغة الإسلام- لغة رسمية في الجمهورية، وما زال الجدل يدور حتّى الآن في إيران حول الهوية الإيرانية والهوية الإسلامية وتداخل البعد القومي الإيراني في كلّ هذا، وما الاستمرار في الاحتفال بما يسمّى بعيد النوروز إلا مثالاً على الاحتفاظ بالنـزعة القومية. ولا يخفى ما أثارته هذه النـزعة من إثارة للعصبيات بين الفرس من جهة وسائر سكان إيران من العرب والبلوش والأكراد وغيرهم من الجهة الأخرى. وهذه النـزعة نفسها كان لها انعكاساتها على السياسة الخارجية للجمهورية. وهذا يقودنا إلى الكلام في هذه السياسة.
2- نظرة في السياسة الخارجية:
لقد كان بوسع النظام الإيراني، لو أنّه أقام سياساته على الفكرة الإسلامية الجامعة، أن يجمع الأمّة الإسلامية حول الفكرة الإسلامية، أو أن يساهم في ذلك على الأقلّ. فلا يخفى أنّ الأمّة مجمعة على عبادة ربّ واحد واتّباع نبيّ واحد والإيمان بقرآن واحد والتوجّه إلى قبلة واحدة، ولا يضير بعد ذلك تعدّد الاجتهادات الفقهية بين المجتهدين، ولا سيّما حين تعمل الدولة على إزالة هذه الفوارق، أو في الحدّ الأدنى على إبقائها ضمن إطارها العلمي الفكري دون أن تقود إلى التعصّب المذهبي وشقّ الصفّ. فالواجب الشرعي يحتّم النظر إلى المسلمين بصفتهم أمّة واحدة، لا شعوبًا وأممًا ودولاً يفصل بينها ما يسمّى بحدود وطنية تمزّق الأمّة وتشكّل سياجًا لحماية النظم التي أوجدها الكافر المستعمر لتخدم مصالحه الاستعمارية، فلا يجوز لنا ولا يصحّ أن نعترف بالواقع الذي فرضه الاستعمار، فضلاً عن أن نسعى لتكريسه وتشريعه وتطبيع الأوضاع التي أوجدها.
ولكنّ الناظر في واقع السياسات الإيرانية المتّبعة عبر العقود الثلاثة الماضية يجد أنّ شيئًا من هذا لم يحدث. والذي حدث لم يتعدّ رفع الشعارات البرّاقة في الظاهر والخاوية من أيّ محتوى عملي. وهذا بحدّ ذاته يكشف غياب النظرة الجامعة للأمّة الإسلامية من حيث هي أمّة متميّزة عن غيرها من الأمم تربطها أواصر العقيدة الإسلامية ومفاهيم الإسلام وشريعته.
ولقد جاءت السياسة الخارجية لنظام الجمهورية الإيرانية لتؤكّد النـزعة القومية في التفكير والتصرّف العملي. فهذه السياسة لم تستهدف يومًا توحيد الأمّة الإسلامية في إطار الإسلام الذي يقتضي بناء الدولة الإسلامية الجامعة، فعلاً لا تنظيراً أو أقوالاً.
فالجمهورية الإيرانية حين دخلت في منظومة "هيئة الأمم المتّحدة" اعترفت بسيادة الكيانات التي أوجدها الاستعمار بين المسلمين. وفي علاقاتها مع هذه الكيانات لم تلتفت أيّما التفات إلى مقتضيات الشرع الإسلامي، ولم تكن السيادة في هذه العلاقات للمبدأ الإسلامي، بل بنت هذه العلاقات على أسس فاسدة تكرّس ما أوجده الاستعمار من أوضاع كارثية في العالم الإسلامي، فراحت تتحالف مع نظام الطغيان البعثي العلماني في سوريا، ليس فقط في سياق مواجهتها لحرب "صدام حسين"، بل وصولاً إلى هذه اللحظة التي يرتكب فيها النظام البعثي في سوريا بحقّ شعبه من الجرائم ما ارتكبه الشاه بحقّ أهل إيران في عهده البائد.
ولطالما كانت المناورات السياسية والعسكرية الإيرانية لفرض الهيمنة والنفوذ في الخليج الإسلامي، والجدل حول فارسية هذا الخليج أو عروبته في وقت بسطت أميركا هيمنتها عليه، لطالما كان دليلاً على الخلفية القومية العنصرية للسياسة الخارجية الإيرانية.
وفي أفغانستان نجد أنّ النظام الإيراني رحّب بالاحتلال الأميركي لأفغانستان ونسّق معه. ولا يشفع له تذرّعه بأنّ حركة طالبان اعتدت على مبعوثيه في مزار شريف، وبأنّها روّجت لثقافة الكره ضد الطائفة الشيعية. فعمل حركة طالبان وخطأ ممارساتها لا يبرّران بحال الاستعانة بالكافر الأميركي - ومعه حلف الناتو بقضّه وقضيضه - ضدّ مسلمي أفغانستان ولاحتلال أرض إسلامية، بل الواجب الشرعي يقضي بنصرة أبناء الأمّة ضدّ الكافر المحتلّ والعمل على منع احتلاله أيّ أرض إسلامية.
وكذلك في العراق نجد أنّ إيران عمدت إلى تطبيع الأوضاع في ظلّ الاحتلال الأميركي من خلال الجماعات التي تدين لها بالولاء في هذا البلد، حيث أوعزت إليها التنسيق معه والعمل تحت وصايته، بل وصل الأمر إلى درجة مشاركة إيران رسمياً في اجتماعات التنسيق الأمني المباشر التي يشرف عليها الاحتلال الأميركي، ومن ثمّ زيارة الرئيس الإيراني للعراق في ظلّ الاحتلال ولقاء أركان الحكم العملاء لهذا الاحتلال داخل المنطقة الخضراء التي يسيطر عليها جيش الاحتلال سيطرة كاملة. ولا يشفع لإيران القول إنّها تدعم المقاومة العراقية من وراء ستار، فالواجب الشرعي يفرض عدم السماح لأمريكا باحتلال العراق، وإذا ما حصل هذا الاحتلال رغمًا عن المسلمين فالواجب الشرعي يفرض رفع راية الجهاد صراحة وعلانية لتحرير الأرض الإسلامية، لا للضغط على المحتلّ من أجل مقاسمته مكاسب الاحتلال. وليس مقاتلو فيتنام الذين مرّغوا أنف أميركا في التراب بأكثر رجولة من مجاهدي المسلمين الذين يتوقون إلى الجنّة والشهادة في سبيل الله. والمسلمون الذين أذلّوا السوفيات في أفغانستان ويكبّدون الاحتلال الغربي اليوم أفدح الخسائر، وكذلك المجاهدون الذين مرّغوا أنوف اليهود في لبنان قادرون على دحر الأميركيين وحلفهم الصليبـي من العراق وأفغانستان. ولكن أنّى لإيران أن تدحر الأميركيين بينما يصرّح قادتها أنّه لولا تعاون إيران لما تمكّنت أميركا من احتلال أفغانستان؟! فقد نقلت صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية في 9/2/2002 عن الرئيس الإيراني السابق "علي أكبر هاشمي رفسنجاني" قوله: "إنّ القوات الإيرانية قاتلت طالبان وساهمت في دحرها، وإنّه لو لم تساعد قوّاتهم في قتال طالبان لغرق الأميركيون في المستنقع الأفغاني"، وأضاف: "يجب على أميركا أن تعلم أنّه لولا الجيش الإيراني الشعبي لما استطاعت أميركا أن تُسْقط طالبان". وفي 15/1/2004 وقف "محمّد على أبطحي" نائب الرئيس الإيراني للشؤون القانونية والبرلمانية بفخر في ختام أعمال مؤتمر الخليج وتحديات المستقبل في إمارة أبو ظبي ليعلن أنّ بلاده "قدّمت الكثير من العون للأميركيين في حربيهم ضدّ أفغانستان والعراق"، ومؤكّدًا أنّه "لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابل وبغداد بهذه السهولة". كما أنّ إيران صرّحت أنّها جاهزة لمدّ يد المساعدة لنظام كرزاي (الأميركي) في كابل بضخّ ملايين الدولارات له؟! ويصرّح المتحدّث باسم الخارجية الإيرانية "رامين مهمانبرست" في 26-10-2010 أنّ إيران "قدّمت مساعدة كبيرة لتسهيل استقرار أفغانستان"، بعد أن أقرّ الرئيس الأفغاني بتلقّي أموال من إيران! وتستقبل إيران النائب الأوّل للرئيس الأفغاني الجنرال "محمّد فهيم" 26-12-2010! فضلاً عن الاجتماعات المتعدّدة مع عملاء أميركا في أفغانستان! أليس في هذا كلّه تطبيع مع الاحتلال الأميركي؟! قد يقدّم السياسيون الإيرانيون وأنصارهم أعذارًا شتّى، ولكنّها أوهى من بيت العنكبوت في تبرير هيمنة ملّة الكفر على شبر من بلاد المسلمين. وها نحن نرى الأميركيين يقيمون المنشآت والقواعد العسكرية الضخمة التي تضمن هيمنتهم وتحكّمهم بالبلاد في كلّ من العراق وأفغانستان. ونرى الآن أن إيران تغض الطرْف عن موافقة أتباعها من عملاء أميركا في العراق على بقاء القوات الأميركية في العراق بعد نهاية سنة 2011، خلافاً للاتفاق المعقود.
ونحن من جهتنا نقول: إن خلافنا المبدئي الشرعي مع الأنظمة المتسلّطة في سوريا وليبيا واليمن والسعودية لا يبرّر بحال الاستعانة بالكافر أيًّا كان للتخلّص من ظلم الظالمين وبطشهم وجبروتهم. ألم يقل ربّنا عزّ وجلّ في كتابه الكريم: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}. وإنّنا في هذا السياق نرفض رفضًا قاطعًا ما حصل في ليبيا من استعانة بحلف الناتو في العمل على إسقاط نظام الطاغية القذافي، ولكنّنا لا ننسى أيضًا أنّ الذي يتحمّل المسؤولية الأولى عن ذلك هو هذا الطاغية الذي أبى إلا أن يسفك دماء الآلاف من أهل ليبيا عضًّا على السلطة في ذلك البلد، ثمّ حكّام دول الجوار وقادة جيوشها الذين بقوا يرقبون المجزرة ثمّ تدخُّل حلف الناتو دون أن يحرّكوا ساكنًا لإنقاذ أهل ليبيا وقطع الطريق على تدخّل الأجنبي.
أمّا عن قضية فلسطين، فإنّ الواجب الشرعي القاضي بوجوب تحرير كلّ شبر فيها، لا يتمّ عبر دعم تنظيمات مسلّحة لا تملك من أمرها شيئًا، أو عبر إعلان يوم سنوي للقدس في رمضان من كلّ عام، أو عبر التحالف مع النظام السوري الحريص على عدم تكدير صفو اليهود ولو بخرمشة على جبهة الجولان؟! وقد أثبت الزمن خلال ثلاثين عامًا أنّ عقد مهرجانات ومؤتمرات باسم القدس والأقصى لا يسمن ولا يغني من جوع، بل يعطي دولة يهود الفرصة الزمنية لتكريس يهودية القدس، بل ويهودية فلسطين كلّها، بينما خطباء المسلمين يتبارون في عرض عضلاتهم الخطابية التي تضرّ ولا تنفع، إذ تدغدغ مشاعر الأمّة أن اطمئنّي فقد تحرّرت القدس والأقصى الشريف. ولو كان النظام الإيراني جادًّا فيما يرفعه من شعار تحرير الأقصى والقدس لاتّبع السبل والوسائل التي توصله إلى ذلك فعلاً لا قولاً. وهو حين يندرج في منظومة "هيئة الأمم المتّحدة" فإنّه يقرّ بميثاقها الذي يفرض الاعتراف بسيادة الدول الأعضاء فيها ويحرّم التدخل في شؤونها الداخلية فضلاً عن الاعتداء على حدودها...
وأمّا عن الموقف الإيراني من النظام البعثي الحاكم في سوريا، فلقد شكّل وقوف إيران بجانب النظام الطاغوتي المجرم في سوريا القشّة التي قصمت ظهر البعير, ولا ندري إن كان هناك متّسع من الوقت لتخلّص إيران نفسها من هذه الورطة التي جنتها على نفسها ولطّخت بها تاريخها الثوري كلّه، إذ استدعت السؤال المشروع التالي: إذا كانت الثورة الإيرانية قد انتفضت ضدّ ظلم الشاه وإجرامه واستحقّت بذلك تأييد الأمّة العارم يومذاك، فكيف تبرّر اليوم وقوفها إلى جانب النظام البعثي في سوريا الذي ضاهى في جرائمه ما ارتكبه شاه إيران سيّء الذكر من قتل لعباد الله وسفك لدمائهم وتكسير لعظامهم وقلع لأظفار أطفالهم وتهجير لعائلاتهم بعد قطع الماء والكهرباء عن دورهم، دون مراعاة لحرمة شهر رمضان الكريم أو أيّ حرمة أخرى... وهذا كلّه بعد عقود من الممارسات العلمانية التي انتهكت من مقدّسات الإسلام وحرماته ما انتهكت ونشرت من الموبقات والرذائل ما نشرت! لا شكّ أنّ هذا الموقف ينقض كلّ تاريخها وشعاراتها في نصرة الشعوب المستضعفة في كفاحها لنيل حقوقها والتخلّص من الظلم الواقع عليها؟! فالجمهورية الإيرانية بوقوفها اليوم إلى جانب الطاغية الابن أعادت إلى الذاكرة وقوفها بالأمس إلى جانب الطاغية الأب، مستعدية بذلك أهل بلاد الشام، بل سائر الأمّة المتألمّة لألمهم. إذ كيف للنظام الإيراني أن يدعم النظام البعثي الكافر في حربه على أهل سوريا في الوقت الذي يرفع فيه عقيرته بالاحتجاج على ممارسات شيخ البحرين ضدّ ثوّار البحرين؟! أليس في هذا من التناقض ما لا يخفى على أولي الألباب؟!
إن التذرّع والتعذّر بالقول إنّ التحالف الإستراتيجي مع سوريا له مبرّراته، وهي وقوف النظام السوري إلى جانب إيران ضدّ "صدام حسين" في الأيّام الصعبة وأنّ إيران لا يمكنها أن تتخلّى عن حلفائها، والقول إنّ النظام السوري هو نظام ممانع وإنّه دعم المقاومة الإسلامية التي مرّغت أنف يهود في لبنان، وبالتالي فإنّ الضرورات تبيح المحظورات، وإنّ التحالف مع سوريا يقوّي من موقف إيران في مفاوضاتها مع دول الغرب في حماية مشروعها النووي... كلّ هذه تبريرات انتهازية لا ترقى إلى مستوى التفكير المبدئي ولا تمتّ بصلة إلى واجب الولاء لله ولرسوله والمؤمنين والبراء ممّن عاداهم. فلا شيء من ذلك كلّه يبرّر الوقوف إلى جانب النظام الظالم ضدّ الشعب المظلوم، فضلاً عن أنّ الواقع يثبت أنّ شعار الممانعة الذي يرفعه نظام آل الأسد ليس سوى شعار مخادعة يتوسّله لتكريس هيمنته وتسلّطه على سوريا وأهلها. فلقد أعلن رأس هذا النظام بوضوح أنّ هدفه الإستراتيجي هو السلام مع كيان يهود، وأنّ دعم المقاومة ما هو إلا مرحلة مؤقتة ريثما تنجح المفاوضات في التوصّل إلى هذا السلام. والآن ترى إيران أن حكم بيت الأسد إلى أفول سريع والشعب السوري هو الباقي، فمصلحة إيران الحقيقية هي مع سوريا الباقية وليس مع شخص بدأ سقوطه.
سعادة السفير:
لطالما أعلنت دولتكم أنّها حريصة على درء الفتنة الطائفية بين السنّة والشيعة. ولكنّ سياستها في أفغانستان وفي العراق وفي الخليج وفي لبنان وفي سوريا... قد تخدم الفتنة الطائفية بدلاً من أن تئدها، أدركت ذلك الجمهورية الإيرانية أم لم تدركه. ذلك أنّ درء الفتنة والحفاظ على وحدة الصفّ المسلم يقتضيان أن تقوم سياسات الدولة على أساس الإسلام لا غير، وتبنّي خطاب جامع للأمّة تواكبه ممارسة عملية. أمّا عقد المؤتمرات مع رفع الشعارات التي تتصادم مع الممارسات العملية فيضرّ ولا ينفع.
وفي هذا السياق، فإنّنا نحذّركم من كيد الغرب المتواصل الذي أدرك أنّ نور الإسلام في طريقه إلى أن يبدّد ظلام حضارته الفاسدة، فراح يعمل، درءًا لهذا الخطر عنه، على بثّ الفرقة بين صفوف المسلمين وإثارة الفتنة الطائفية، بين السنّة والشيعة تارة، وبين القوميات تارة أخرى، فالغرب يجد أن سياسة "فرّق تسد" قد آتت أكلها من قبل، وأنّها خير منقذ له اليوم للحيلولة دون وحدة الأمّة الإسلامية. وإنّنا نلفت نظركم إلى الفخّ الذي تنصبه دول الكفر كلّها لإيقاع المسلمين فيه. ومن أبرز مظاهر هذا الفخّ الفضائيات المتضادّة التي تنبش التاريخ لإبراز الخلافات من عَقَدية وفقهية وخصومات سياسية ماضية، لإثارة نزاعات وحروب جديدة بين السنة والشيعة. وإنّ وقوفكم اليوم بجانب النظام البعثي في سوريا من شأنه أن يفاقم خطر الوقوع في هذا الفخّ.
إنّ الذي يحمي إيران وسواها من الأقطار الإسلامية، هو أن تقيم كيانها ونظامها على أساس الإسلام وحده، وليس التحالف مع أعداء الله وأعداء الأمّة من أمثال النظام السوري والنظام الأفغاني وغيرهما، وأن تسعى للأخذ بأسباب القوّة، وفي مقدّمتها وحدة المسلمين تحت راية (لا إله إلا الله محمّد رسول الله)، وليس تحت راية قُطرية أو قومية أو فارسية، وليس تحت مظلّة منظومة دولية على شاكلة هيئة الأمم المتّحدة وغيرها من الأدوات التي أوجدها الغرب لخدمة مصالحه تحت عنوان "المجتمع الدولي". وإنّ إقامة السياسة الخارجية على أساس الإسلام تقتضي التمسّك بالفكرة الإسلامية التي توجب وحدة الأمّة الإسلامية. وإذا كان هناك من أمل في تحرير الأمّة من براثن الاستعمار الغربي وهيمنته الحضارية والسياسية والعسكرية والاقتصادية فإنّ الوحدة الإسلامية المادّية على الأرض، لا المشاعرية فحسب، هي السبيل إلى ذلك. وإنّنا نرى أنّ الأمّة أمام فرصة تاريخية لتوحّد صفّها وتجمع شملها تحت كيان دولة الإسلام القائمة على العقيدة الاسلامية والمنتظمة بالشريعة الربّانية. وهذا ما نعمل له حين نعلن العمل لإقامة دولة الخلافة.
فدولة الخلافة التي أمر الشرع بإقامتها هي رئاسة عامّة للمسلمين في الدنيا لرعاية شؤونهم بالشرع وحمل الإسلام رسالة إلى العالم. وفي هذه الدولة تكون السيادة للشرع، بحيث تكون الأنظمة والقوانين مستمدّة فقط من الكتاب والسنّة وما أرشدا إليه، ويكون السلطان للأمّة، بحيث تتولّى الأمّة أو نوّابها اختيار رئيس الدولة (الخليفة) ومحاسبته باعتباره وكيلاً عنها في تطبيق الشرع ورعاية الشؤون. فالخلافة التي نسعى لإقامتها وترنو إليها الأمّة من شرق الأرض إلى غربها هي خلافة على منهاج النبوّة، وليست تلك التي عضّت فيها العائلات على الحكم في العهود الأموية والعبّاسية والعثمانية. وإن التأمّل في هذه المعاني لدولة الخلافة ليقود إلى الجزم بأنّ القضية المصيرية للأمّة هي إقامة تلك الدولة، إذ هي السبيل الوحيد لخروج الأمّة من المآسي التي تعانيها منذ عشرات السنين. وهي التي تخشاها دول الغرب وتحارب عودتها من خلال إغراء العداوة بين المسلمين سنّة وشيعة وعربًا وعجمًا. وبالتالي فإنّ إصرار إيران على اعتماد السياسة القومية الفارسية والتمييز بين ثورة البحرين وثورة سوريا فتدعم هذه وتحارب تلك، من شأنه أن يؤجّج هذه العداوة، وإنّها لخطيئة من الخطايا التي لا يغفرها التاريخ. مع التنبيه إلى أنّ كلامنا هذا لا يبرّئ ساحة سائر أنظمة العالم الإسلامي من هذه الخطيئة. ولكنّ الخطيئة لا تبرّر الخطيئة المقابلة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
هذه جملة من القضايا نحسب أنّها أساسية للتباحث بشأنها. ولا نحتاج إلى التذكير بأن "حزب التحرير" إنّما يبني نظرته إلى ذلك كلّه على أساس الإسلام، نظرة صافية نقيّة لا تشوبها شائبة، لا قومية ولا وطنية ولا مذهبية ولا طائفية، مبتغيًا مرضاة الله عزّ وجلّ والاعتصام بحبله والتمسّك بهدي نبيّه عليه وآله الصلاة والسلام، ونصيحةً صادقة خالصة للمسلمين ومن يعيش معهم من أهل الأديان. ومن فضل الله على الحزب أنّه يعمل مع الأمّة ومع المسلمين حيثما وُجدوا، دون أيّ اعتبار مخالف لعقيدة الإسلام وشريعته، فالحزب يوجّه دعوته لكلّ مسلم أينما وجد، يدعوه إلى العمل معه لنصرة هذا الدين وإعلاء كلمة الله وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد.
فإن كان لدى الإخوة في إيران النيّة الصادقة لبحث هذه الأمور بصدق وشفافية فحيهلا، وسيجدون أنّ قلوبنا وعقولنا مرحّبة بالنقاش الجادّ الهادف إلى نصرة هذا الدين وإعلاء كلمة الله. أمّا التوقّف عند المعالجات السطحية والمجاملات الشكليّة مع البعد عن السياسة الإسلامية الصافية، فلن يزيد النظام الإيراني إلا بُعدًا عنّا وعن سائر الأمّة. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
د. محمّد جابر
رئيس الهيئة الإدارية لحزب التحرير- ولاية لبنان
التاريخ الهجري :20 من رمــضان المبارك 1432هـ
التاريخ الميلادي : السبت, 20 آب/أغسطس 2011م
حزب التحرير