بسم الله الرحمن الرحيم
نهوض بالبلد أم رهنه للأجنبي! وقضاء على الفقر أم على الفقراء!
قدمت وزارة المال مشروع الموازنة للعام 2012 إلى مجلس الوزراء لمناقشتها وإقرارها في أجواء صاخبة من الحديث عن الأزمات المعاشية والفقر والغلاء، وهي موازنة تعكس -كما في كل عام- الفشل والإهمال في رعاية شؤون الناس، وفي معالجة مشكلات الفقر والبطالة وضعف الإنتاج وتراجعه.
إن أَولى واجبات الحاكم والمسؤول هو رعاية شؤون الناس في كراماتهم وعيشهم وأمنهم... كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، فهل يرعى الحكام والمسؤولون في لبنان شؤون الناس؟! وماذا عن الدَين الذي رُكِّب على البلد، ويرزح تحته الفقراء، ويتم سداد مليارات الدولارات منه كل عام، وبدلاً من أن ينتهي ويزول إذا به يكبر ويكبر، فما أصل هذا الدين؟! كيف حصل؟! من المسؤول؟! وأين المحاسبة؟! وكيف تجاوز الخمسين مليار دولار؟! علماً أن الاعتماد الأكبر في الموازنة هو لسداد الدين!
أين الحكمة، وأين العقل في أن ترصد الموازنة ,58 ترليون ليرة لهذا الدين ولفوائده ولتسجل مع ذلك استدانة تتجاوز 6,2 ترليون ليرة؟! ويطلع علينا رعاة هذا الشأن وكأن هذا الأمر إنجاز، بينما يُتوقع أن يبلغ الدين 65 مليار دولار خلال ثلاث سنوات إلى خمس، فهل هذه سياسة نهوض وقضاء على الفقر أو هي سياسة القضاء على الفقراء؟!
لا يجد رعاة شؤون الناس في هذا البلد لتمويل هذه المشاريع إلا جيوب الفقراء الفارغة، ولا إبداع لهم إلا في زيادة الضرائب والرسوم، وبدل أن يتمكن الفرد من دخل يعيش به ومن مسكن يؤويه، ترتفع نسبة البطالة، ومن لديه بيت يؤويه يضطر إلى بيعه، وأكثر الناس عجزاً عن العيش الكريم هم الذين من شأنهم أن ينتجوا ما يرتقي بالاقتصاد وما يفيد، كالمزارع والصناعي والمعلم... حتى صار امتلاك بيت للسكن حلماً بعيد المنال عن كل الناس ما عدا فئة الواحد بالمائة وأزلامها!
إن السياسة الاقتصادية في لبنان خاضعة وتابعة لمصالح المؤسسات الدولية الرأسمالية التي تغرز مخالبها في أعناق الشعوب وشرايينها وتمتص دماءها، وما ضريبة القيمة المضافة إلا من هذا القبيل، وهذه الموازنة ستكون نتائجها كارثية على الناس بسبب ما آل إليه مستوى العيش من هبوط، وقد رأينا البنك الدولي وصندوق النقد سعيدَين بهذه الموازنة كما قال وزير المال: "لبنان حصل على تهنئة على هذه الموازنة ولمس دعماً مطلقاً لها من البنك الدولي وصندوق النقد"، ولا شك أن هذه المؤسسات الاستعمارية تشجع الحكومة على فرض ضرائب أكثر وأعلى، وعلى مشاريع وقوانين أكثر جرأة وأسرع لنهب البلد ورهنه لهم.
أيها الناس، لماذا ندفع 6 تريليونات ليرة رباً محرماً لحيتان المال، والأمر سنوي، والدين يزداد؟! لماذا يولد الطفل عندنا وعليه دين يتجاوز عشرين مليون ليرة، عليه أن يدفع رباها المحرم سنوياً؟! لماذا ندفع أغلى فواتير كهرباء واتصالات، وخدمات هذه القطاعات وغيرها أسوأ من سيئة؟ لماذا ندفع ضرائب ورسوماً باهظة والخدمات سيئة وتزداد سوءاً؟! لماذا معلم المدرسة والجامعة لا يحصل على كفايته رغم تفانيه الدائم؟! لماذا لا يجد المزارع ما يسقي به زرعه؟! بل ويضطر أحياناً إلى إهماله وإتلافه لأن سعر بيعه لا يغطى سعر "توضيبه" ونقله إلى السوق؟! لماذا ولماذا ولماذا...؟! أين مسؤولية الحكام ومصداقيتهم أمام الناس، أم بات منتهى مسؤوليتهم وغاية مبتغاهم وجوهر سياساتهم هو تأمين الالتزامات المدمِّرة لنا تجاه جشع الحيتان العالميين، في حين لا تُلحظ الالتزامات المفترضة تجاه الناس التي يزعمها وزير المال بقوله: "المشروع يلحظ جميع التزامات الدولة اللبنانية العالمية والمحلية"، فما هي يا ترى هذه الالتزامات وكيف لَحظَها؟!
أيها الناس: إن المشكلة إضافة إلى كونها مشكلة حكام تابعين يسيرون بكم إلى التهلكة، هي في أساسها أزمة نظام، هو النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يتقلب الناس على أشواكه، والعالم اليوم أحوج ما يكون إلى النظام الإسلامي ومنه النظام الاقتصادي القادر وحده على انتشال البشرية من مستنقع الرأسمالية العفن، وقد بدأ الغرب نفسه يتنبه إلى عظمة الاقتصاد الإسلامي، بل راح يتسابق إلى تدريسه في جامعاته كما في جامعة "هارفرد" الأمريكية وغيرها، قال تعالى: ﴿ إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ﴾ وقال: ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ﴾.
لقد جعل نظام الإسلام الدولة دولة رعاية لا دولة جباية، وجعل حفظ الكرامة الانسانية من مسؤوليات الدولة وحقاً لكل فرد من رعاياها، وكذلك حق العيش، كما جعل التمكين من الاكتفاء في المطعم والملبس والمسكن حقاً على الدولة لكل فرد بعينه. وجعل كل ذلك من الضروريات الفردية. كما جعل توفير الأمن والتعليم والطبابة واجباً على الدولة ومن ضروريات الجماعة بحيث يتمكن كل من يحتاجها من أفراد الجماعة من الحصول عليها، فكان تأمين هذه الضروريات الست أمراً ثابتاً ودائمياً في السياسة الاقتصادية الإسلامية، ولم يفرِّق في ذلك بين مسلم وغير مسلم من رعايا الدولة.
وقد حرم الإسلام أخذ ضرائب على أموال الناس وإنتاجهم وتجاراتهم، سواء أكانت عُشراً أم غيره، ولا يُستثنى من ذلك إلا عند بعض الحاجات التي بينها الشرع وجعل استيفاءها في عنق مجموع الأمة، وحينئذٍ فقط يجوز فرضها مؤقتاً بقدر الحاجة وعلى الأغنياء فقط، وتؤخذ مما زاد على إشباع الحاجات الأساسية والكمالية بالمعروف ويُراعى فيها العدل بين الناس، روى الدارمي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة صاحب مكس"، والمكس هو ضريبة الجمرك على تجَّارنا. كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الله بن عوف القاري: "أن اركب إلى البيت الذي برفح الذي يقال له بيت المكس فاهدمه ثم احمله إلى البحر فانسفه فيه نسفاً" (الأموال لأبي عبيد).
إن هذا النظام الرأسمالي الشنيع والمترنح قد فشل فشلاً ذريعاً وصار مكشوفاً، وهو الآن قاب قوسين أو أدنى من الانفجار والانهيار، وها هم أهله يكفرون به وتثور مئات المدن ضده داعية إلى احتلال "وول ستريت" بعد أن اكتووا بنارها، ألا وإنه لا خلاص للبشرية من لظى الرأسمالية وسعير نظامها، ولا كرامة لها في عيش، أوكفاية في حاجات، أو طمأنينة في حياة، إلا بنظام الإسلام ومنه النظام الاقتصادي الإسلامي. قال تعالى: ﴿ ولو أنّ أهلَ القرى آمنوا واتقَوْا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض ولكنْ كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسِبون ﴾. فإلى العمل لإقامة دولة الإسلام، دولة الخلافة الراشدة، التي تطبق هذا النظام الرباني الكريم ندعوكم أيها المؤمنون.
﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنـَّه إليه تُحشرون ﴾
التاريخ الهجري :22 من ذي القعدة 1432هـ
التاريخ الميلادي : الخميس, 20 تشرين الأول/أكتوبر 2011م
حزب التحرير
ولاية لبنان