- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
2025-06-04
جريدة الراية: التصريحات السياسية والتحليل السياسي
التصريحات السياسية هي مادة السياسيين الجوهرية في التحليل السياسي، وهي جزء رئيسي من الأخبار اللازمة للتحليل، والأخبار عموماً هي الأساس في عملية التفكير السياسي، بل هي الخبز اليومي للسياسيين، ومن دونها لا تفهم السياسة، ولا يوجد التحليل السياسي، ولا تميز الأحداث، ولا تعرف غاياتها.
ولقد عانت الأمة الإسلامية كثيراً من المغالطات في التصريحات السياسية، بل إنّها خسرت أقاليم كبيرة بسبب سوء فهم مثل تلك التصريحات، والخلافة العثمانية على سبيل المثال قد خسرت منطقة البلقان ليس بسبب ضعفها العسكري بل بسبب التصريحات السياسية الخبيثة والمضللة، فبريطانيا وحليفاتها من الدول الأوروبية خلقت مشكلة البلقان من لا شيء، وفقط بالتصريحات، فأوهم الأوروبيون الخلافة العثمانية بوجود ثورات شعبية كاسحة في دول البلقان تطالب بالاستقلال والانفصال عنها، مع أنّه لم يكن لتلك التصريحات أي واقع حقيقي على الأرض، ولم تكن هناك ثورات ولا حتى مجرد مطالبات بالانفصال، لكنّ كثرة تكرار تلك التصريحات أوهم العثمانيين بأنّ هناك حركات انفصالية قوية في البلقان، فابتلعت الدولة الطعم، وأصبحت تتصرف على هذا الأساس، وهو ما أدّى فيما بعد إلى إرهاقها وإنهاكها، ثم تفشت الحركات القومية بالفعل وملأت الأرجاء، إلى أنْ لاحقت تلك الحركات الدولة حتى في عقر دارها، وهو ما أدّى في النهاية إلى انفصال البلقان نهائياً عنها، ثمّ أدّى بعد ذلك إلى سقوط الخلافة العثمانية نفسها.
وبداية وحتى ندرك أهمية التصريحات السياسية في التحليل السياسي لا بد من معرفة مقومّات التحليل السياسي والتي هي خمسة مقومات:
1- على المحلل السياسي أن يقوم أولاً بتتبع الوقائع والحوادث التي تقع في جميع دول العالم، وجمع الأخبار عنها، وفرزها من حيث الأهمية وعدم الأهمية، ومن حيث الصدفة والقصد، ومع تكرار المتابعة، والتمرس، ومرور الزمن، يصبح التتبع تخصصيا عند المحلل، فينتقي منه ما هو أهم، وما هو مقصود ومطلوب.
2- يحتاج المحلل إلى معلومات أولية مسبقة عن ماهية الوقائع والحوادث والأماكن والأشخاص والتصريحات، كالمعلومات الجغرافية والتاريخية والسياسية والفكرية، وذلك للوقوف بدقة وفهم عميق على تلك الوقائع والحوادث والأخبار.
3- يحرص المحلل وهو يسعى لإصدار الأحكام السياسية أن يلتزم بأمرين متلازمين لا ينفصلان عن بعضهما، وهما:
أ- عدم تجريد الوقائع عن ظروفها ومحيطها ومتعلقاتها، لأنّ فصل الوقائع عما يتعلق بها يفقدها قيمتها، ويفصلها عن الواقع.
ب- عدم التعميم والقياس الشمولي، لأنّ التعميم والقياس لا يدخلان في السياسة، بل هما آفة السياسيين، وهما من أهم معايير الفشل في التحليل السياسي.
4- تمحيص الأخبار والحوادث، وتمييزها أولاً من خلال معرفة مصادرها الموثوقة، وثانياً بربطها بزمن وقوعها، وثالثاً بالنظر إليها في إطار الوضع الذي وقعت فيه، ورابعاً بمعرفة القصد من وقوعها في ذلك التوقيت، وخامساً بمُلاحظة ردة الفعل المباشرة تجاهها من سائر الأطراف الفاعلة.
5- ربط الحدث أو الخبر بالمعلومات السابقة المتوفرة عنه، ثم ربطه بقواعد الربط الخاصة المتعلقة بمثله وبغيره من الأخبار، وأخيراً إصدار الحكم الذي يُظن أنه الأقرب للصواب، والأكثر انطباقاً على الواقع.
إنّ عدم التزام هذه المقومات في التحليل السياسي، والتعامل الخاطئ مع كم التصريحات والأخبار الهائلة التي تتدفق هذه الأيام في وسائل الإعلام، وعبر مواقع التواصل الإلكتروني، مع ما يرافقها من خبث وسائل توجيهها، يؤدي بالضرورة إلى وجود متاهة معلوماتية سياسية خطيرة تشتت الأذهان، وتضلل العقول، وتبعد المدارك عن التسديد، وتحرف الفكر عن الإصابة في الرأي، وتكون النتيجة المنطقية لذلك هي الوقوع في أخطاء سياسية قاتلة، تضلّل المحللين في التوصل إلى نتائج صحيحة، فيقعون في شباك الدوائر الاستخباراتية الدولية، وهو ما يعكس أثراً سلبياً مدمراً على الأمّة، وعلى العاملين لنهضتها.
لذلك كان لا بد من الأخذ بتلك المقومات، ومن أهمّها تتبع فيض المعلومات المتعلّقة بالأحداث، والحذر في التعامل مع التصريحات السياسية التي تصدر عن السياسيين في الدول الكبرى والدول المؤثّرة، ومحاولة إدراك القصد من إطلاقها قبل الشروع في تحليلها، وقبل ربطها بقواعد الربط السياسية المعروفة لدينا.
فمثلاً صدرت عن السياسيين الأمريكيين تصريحات توحي بأن الحرب مع إيران على الأبواب، وصاحبها إرسال حاملات طائرات أمريكية إلى منطقة الشرق الأوسط، وشحنات من الصواريخ والأسلحة متعدّدة المهام، وفي الوقت نفسه تم تسليط الضوء على قاعدة دييغيو غارسيا الأمريكية البريطانية في المحيط الهندي، وأنّها لا تصلها مديات الصواريخ الإيرانية، وأنّها ستلعب دوراً رئيسياً في الحرب القادمة، فأشعرتنا هذه الأخبار وتلك الوقائع بأجواء الحرب وقرب وقوعها، ثم فجأة تأتي أخبار معاكسة عن انعقاد المفاوضات المباشرة في عُمان بين المبعوثين الأمريكيين للشرق الأوسط وبين المسؤولين الإيرانيين، ويتم الإعلان عن انتهاء الجولة الأولى من المفاوضات والخروج بانطباعات جيدة منها، وكأنّ المعلومات عن الحرب كانت مجرد مقدمة طبيعية لبدء جولات طويلة من المفاوضات بين الدولتين.
وكذلك تتدفق المعلومات عن استمرار حرب يهود على قطاع غزة، وعدم وجود خيارات لأهله إلا التهجير أو الموت، ووجوب تسليم سلاح المقاومة وخروج قادتها، ثمّ تأتي الأخبار بقرب نجاح المفاوضات التي ترعاها أمريكا. وأنّ أمريكا التي تطالب بتحويل غزة إلى مشاريع عقارية، هي نفسها التي ستضمن لحماس التزام كيان يهود بالانتقال إلى المرحلة الثانية من المفاوضات، بما تشمل إنهاء الحرب والانسحاب من غزة.
فلو أنّ المحللين السياسيين أخذوا بتصريحات السياسيين من المرة الأولى وبنوا تحليلاتهم عليها لخرجت التحليلات مناقضة تماماً للواقع، ولوقعوا ضحية التضليل في التعامل مع تلك الموجات من التصريحات المُتناقضة.
لذلك كان لا بد قبل البدء بالتحليل من الانتظار والصبر في تلقي التصريحات، ثمّ بعد ذلك ننتقل إلى التمحيص والربط وعدم التجريد وعدم التعميم.
بقلم: الأستاذ أحمد الخطواني
المصدر: جريدة الراية