- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
2015-11-25
جريدة الراية: البعد الفكري والسياسي لأحداث باريس ونتائجها
إن أول ما يلتفت إليه المرء عندما ينظر إلى أحداث باريس هو فشل فرنسا في فكرها وسياستها وحضارتها الغربية. وإلا فكيف لشباب ولدوا وترعرعوا في ظل نظامها وحضارتها ثم يرفضونها ويقومون بمثل هذه الأعمال؟! مما يدل على فشل فرنسا في سياسة الاندماج القسري التي تفرضها على المسلمين حيث لم تستطع إقناعهم بصحة أفكارها وحضارتها التي لم تنتج إلا الفساد الخلقي والخواء الروحي والضياع والتشرد، بالإضافة إلى التهميش والإهمال لأبناء المسلمين خاصة، فظهر زيفها وظلمها، ولذلك رجعوا إلى دينهم وتمسكوا به وكل منهم يريد أن يفعل شيئا من أجله. وقد جاءت ردود فعل على ذلك في أحداث سابقة مثل حرق السيارات والمباني عام 2005 والتي استمرت لمدة 19 يوما، ولم يكن هناك تنظيم دولة ولا موضوع إرهاب في فرنسا. وقد قام بعض هؤلاء الشباب قبل أقل من سنة بالهجوم على مجلة شارلي إيبدو عندما كانت ترسم رسومات تستهزئ برسولهم الكريم ﷺ.
فوجب على فرنسا مراجعة نفسها قبل أن تتهم الآخرين وتلقي باللائمة عليهم وتظهر نفسها كأنها بريئة ولم ترتكب إثما ولا ذنبا حتى تلاقي ما لاقت! فهي تشن الحروب بدون توقف ضد المسلمين في كل مكان، وقد أعلنت قبل شهرين مشاركتها في ضرب أهل سوريا بذريعة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية حيث استهدفت الرقة يوم 2015/9/24، ولكنها لم تتحرك ضد النظام السوري الذي قتل مئات الآلاف ودمر البلد وهجر الملايين وقتل عشرات الآلاف تحت التعذيب وهي تدّعي أنها ضد هذا النظام، ولكنها لم تمسه بسوء. وهذا يدل على أن أحداث باريس لم يكن لفرنسا مصلحة في ترتيبها حتى تجد ذريعة للتدخل، فقد تدخلت من قبل وأيدها شعبها، فالرأي العام معها فلا داعي لأن تبحث عن مبررات وذرائع.
وكانت هذه الأحداث ضربة موجعة لفرنسا جعلتها تدوس على الحرية التي تتشدق بها معلنة الأحكام العرفية والتضييق على الحريات حتى على شعبها مما يجعلهم يعيشون في قلق لا يستطيعون ممارسة حريتهم، وهذا خطر يهدد المبدأ الرأسمالي على المدى البعيد، ويجعل الناس يفكرون في البحث عن البديل، فانحدرت إلى مستوى نظام السيسي والأنظمة القمعية التابعة لها في أفريقيا، مما يفقدها مصداقيتها ويضرب فكرها ونموذجها، فلا تستطيع أن تدّعي أنها تحمل مشعل الحرية. فلم تستطع أن تعالج الأمور وهي تحافظ على منظومتها الفكرية مما يدل على فشل هذه المنظومة. فالدولة التي تدّعي أن لديها أفكارا إنسانية للعالم تلتزم بها ولا تنتهكها بذرائع مختلفة ولا تتناقض معها كما فعلت الآن، وكما في الأزمة المالية المستمرة حيث طبقت الدول الرأسمالية وعلى رأسها أمريكا أحكاما تتناقض مع مبدئها، مما يدل على خطأ وفشل المبدأ الرأسمالي. بل يجب أن يكون المبدأ محتويا أحكاما تعالج كل طارئ بسبب شموليته كالمبدأ الإسلامي الصحيح الذي تقوم دولته بتطبيقه والالتزام بأحكامه من دون أن تحيد عنه ولا تتناقض معه.
إن الأحداث تزامنت مع مؤتمر فينّا المتعلق بسوريا يوم 2015/11/14.. ومع أنه من المستبعد أن يكون التزامن بين الأمرين مقصودا، إلا أن أمريكا استغلت أحداث باريس لتحويل أنظار الناس عن موضوع عميلها بشار الأسد والتركيز على محاربة الإرهاب وتنظيم الدولة حتى تتمكن من إيجاد البديل عن عميلها وجعل أهل سوريا يتقبلونه وهي عاجزة حتى الآن، فتريد تسخير فرنسا كما تسخّر روسيا وإيران وحزبها في لبنان وتوابعها وتركيا والسعودية وغيرها لتحافظ على نفوذها في سوريا. فقام وزير خارجيتها كيري بزيارة فرنسا يوم 2015/11/17 وقال: "نحن على مسافة أسابيع نظريا، من احتمال انتقال كبير في سوريا، وسنواصل الضغط في هذه العملية.. نحن لا نتحدث عن أشهر وإنما أسابيع، كما نأمل". وذلك بعدما اجتمع مع الرئيس الفرنسي أولاند عقب تلك الأحداث، وأضاف: "إن التعاون في أعلى مستوياته. اتفقنا على تبادل المزيد من المعلومات وأنا على قناعة بأنه على مدى الأسابيع المقبلة سيشعر تنظيم الدولة بضغط أكبر. إنهم يشعرون به اليوم. وشعروا به أمس. وشعروا به في الأسابيع المنصرمة. كسبنا مزيدا من الأرض. وأصبحت أراض أقل بيد التنظيم". وأكد كيري أن أولاند سيزور واشنطن الأسبوع المقبل للاجتماع مع الرئيس الأمريكي أوباما. فأرادت أمريكا أن تستغل الأحداث وتوظفها لكسب فرنسا بجانبها لتنسق معها وتجعلها تكف عن التشويش عليها. وإن كان في ذلك مخاطرة من قبل أمريكا، حيث إن فرنسا ستعمل على إيجاد تأثير لها، فتصبح أمريكا مضطرة لمراضاتها وإشراكها في الحل، مما يدل على أن أمريكا في مأزق تواجهه في سوريا حتى تضطر إلى ذلك. وقد اتخذ مجلس الأمن يوم 2015/11/20 قرارا يتعلق بسوريا طرحته فرنسا لتظهر عظمتها ودورها، فأيدته أمريكا، وقد ركز على الإرهاب ومحاربة تنظيم الدولة وتغاضى عن جرائم بشار أسد ومصيره.
إن أمريكا تعمل على تحويل ثورة الشام من ثورة ضد عميلها بشار وضد نفوذها في المنطقة إلى حرب على هذه الثورة وشعبها تحت مسمى محاربة الإرهاب وتنظيم الدولة حتى تتمكن من إجهاضها وجعل الناس والثائرين يقبلون بالبديل الذي ستطرحه، فهي تقوم بثورة مضادة، ولكن على شكل حرب كأنها عالمية.
وأرادت أمريكا استغلال الأحداث داخليا حيث تتعرض إدارة أوباما لهجوم قاس بسبب سياستها في سوريا وأنها متهاونة وتتبع سياسة خاطئة ولم تحزم أمر بشار أسد ولم تستطع معالجة موضوع الإرهاب. وبذلك تعزز إدارة أوباما وحزبها الديمقراطي مواقعها الانتخابية.
وأرادت فرنسا تعزيز موقعها في الاتحاد الأوروبي وفي مستعمراتها فطلبت منه يوم 2015/11/17 تفعيل بند المساعدة المشتركة في معاهدة الاتحاد للمرة الأولى، فقال وزير دفاعها جان إيف لو دريان أثناء اجتماع وزراء الدفاع للاتحاد في بروكسل: "إن الدول قبلت طلب فرنسا الرسمي تقديم المعونة والمساعدة بموجب معاهدة الاتحاد الأوروبي، وتوقع الجميع المساعدة بسرعة في مناطق مختلفة.. إن هذا يعني تخفيف بعض العبء عن فرنسا التي تقوم بأكبر نشاط عسكري بين الدول الأوروبية". وقال "إن فرنسا لا يمكنها أن تقوم بكل شيء.. في الساحل وفي جمهورية أفريقيا الوسطى وفي الشام وبعد كل هذا تؤمن أراضيها". فكانت ألمانيا أول من تجاوب معها، وهي تستعد لتولي مهمة التدريب التي ينفذها الاتحاد الأوروبي في مالي، فقالت وزيرة دفاعها أوريولا فون دير لين: "سنفعل كل ما بوسعنا لتقديم الدعم والمساعدة لفرنسا". ففرنسا تعلن أنها تقوم بحرب ضد المسلمين في الساحل الغربي من أفريقيا، حيث هناك بلاد إسلامية تهيمن عليها وتنهب ثرواتها، وهناك حركات إسلامية تريد تحرير المنطقة من ربقة استعمارها كما حصل في مالي، وقد تدخلت فرنسا في أفريقيا الوسطى وأسقطت حكومة تشكلت من مسلمين ونزعت سلاحهم وأطلقت يد العصابات النصرانية الحاقدة لتقوم بقتل وحرق المسلمين وبيوتهم والاستيلاء على ممتلكاتهم وتهجيرهم وأكل لحومهم أحياء وأمواتا. وقد تدخلت الآن في سوريا لمنع عودة حكم الإسلام. وألمانيا تتوق لأن تصبح دولة كبرى لتعيد أمجادها الاستعمارية التي فقدتها، تتجاوب معها على الفور، لتكسب خبرة في أعمال التدخل وعملاء عن طريق تدريب عناصر في تلك البلاد.
ويعيد هذا المشهد ما حصل في الحروب الصليبية عندما تداعت الدول الأوروبية على رأسها فرنسا وألمانيا وبريطانيا وهم يشنون الحملات تلو الحملات وتتنافس على قيادتها. ولكن هذه المرة خرجت أمريكا لتأخذ قيادة الحملات الصليبية منذ أن أعلنها بوش الابن عندما سيّر حملتين صليبيتين في أفغانستان والعراق، وتبعه خلفه أوباما ليسيّر حملة في سوريا. وستتواصل هذه الحملات الصليبية ضد المسلمين وستتواصل مقاومة المسلمين لها حتى يتمكنوا من استلام الحكم وإقامة الخلافة على منهاج النبوة، كما فعل صلاح الدين الأيوبي عندما أسقط إمارة الفاطميين في مصر الذين تعاونوا مع الصليبيين وغيرها من إمارات في الشام وربط هذه البلاد بدولة الخلافة التي كان مركزها في بغداد وحارب الصليبيين في ظل راية الخلافة فدحرهم وطردهم وطهر البلاد من دنسهم ودنس المتعاونين معهم.
بقلم: أسعد منصور
المصدر: جريدة الراية