- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
2024-04-10
جريدة الراية: كسر حصار غزة أم كسر الأصنام الوطنية؟
تساءل كثيرون في الفترة الأخيرة: كيف لنا أن نكسر الحصار المطبق الذي فرضه كيان يهود على قطاع غزة برا وبحرا وجوا ليتفنن في أساليب إبادة أهلها أمام عالم يكتفي بالمشاهدة؟ وهو بالمناسبة السؤال نفسه الذي طرح في الحروب السابقة على غزة ولم يجد له من إجابة لدى البعض... فكيف ستهتدي الأمة إلى الحل هذه المرة وقد تجاوز عدوان كيان يهود كل حدود الإجرام؟
لقد ارتبط إنشاء كيان يهود تاريخيا بوعد بلفور سنة 1917، أي بعد عام فقط من اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت ومزقت بلاد الإسلام الشاسعة إلى سجون وأقفاص وطنية ضيقة خانقة، ووضعت عليها خرقا ومزقا ملونة نُكّست من أجلها راية رسول الله ﷺ، ودساتير وضعية مستوردة عُطّل من أجلها شرع الله، وصار المسلم أجنبيا دخيلا على أخيه المسلم بمجرد خروجه من القفص الوطني، وربما يشترط عليه تأشيرة الدخول! وهكذا صارت الأعلام الوطنية رمزا لقداسة الصنم الذي صنعه الاستعمار على عينه بعد خروج دباباته وتنصيب عملائه ووكلائه الذين ارتضاهم حكاما لبلاد الإسلام، أي بعد إزاحة سلطان الإسلام وعلمنة البلاد الإسلامية بإلغاء الخلافة العثمانية وتنصيب الأصنام الوطنية، ما مهد لعملية زرع هذا الورم السرطاني في جسد الأمة بل في قلبها النابض فلسطين، ومحاولة دمجه في المنطقة العربية والإسلامية.
أما عند الحروب والأزمات، فعادة ما يعتبر الحكام الوطنيون ما يجري في البلد المجاور شأنا خارجيا، لا سبيل لنصرته ومساندته إلا عبر الشعارات الوهمية الخادعة والأساليب الدبلوماسية الخاضعة والحلول الاستعمارية الواسعة التي يضعها ويوافق عليها المجتمع الدولي ومجلس الأمن، أداة أمريكا في تركيع الشعوب، هذا على فرضية أنهم أهل نصرة أو أهل قتال.
ولأنها تُغلّب رابطة العقيدة والدّين على رابطة التراب والطين، يعتبر الحكام العملاء أن وحدة الأمة على أساس الإسلام هي فتنة تستهدف الوحدة الوطنية والبيت الوطني وكل نواميس وقوانين هذا الوطن، مع أنهم طوع بنان الكافر المستعمر، بل هم من باعوا أوطانهم مقابل بقائهم في الحكم، حتى صار كل عاقل يدرك أنهم سبب البلية ومصدر الفتنة وأهل النفاق وأنهم لا يجتمعون إلا على شر، وكأن قول الله سبحانه في سورة (المنافقون) قد نزل في شأنهم: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾!
وحتى الجيوش التي كانت تقاتل في سبيل الله على مر التاريخ الإسلامي فتصنع لأمّتها البطولات والانتصارات اقتداء بالصحابة والقادة الفاتحين وسيرا على نهج النبي الأمين، فقد فرضوا على أبنائها أن تحيا وتموت من أجل الوطن، أي من أجل واقع التقسيم الذي فرضه الاستعمار منذ هدم دولة الخلافة، وأوجدوا مفهوما جديدا للجهاد والاستشهاد في سبيل الوطن، وجعلوا من مراسمه تكفين شهيد "صنم الوطنية" بأحد الأعلام الملونة، كل حسب التراب الوطني الذي ينتمي إليه. وهكذا نجحت الأنظمة الوظيفية الملتحفة بغطاء الوطنية في غرس عقيدة الولاء للوطن بدل الولاء لله ورسوله، ونجحت في جعلها عقيدة عسكرية يتخذ من أجلها قرار الحياة أو الموت، فيموت ضحايا هذه "الدمغجة" الفكرية العلمانية من أجل حراسة الحدود الاستعمارية والحفاظ على رموز الوطنية أعلاما وحكاما، بكل ما يعنيه ذلك من احتكار لفهم التاريخ والجغرافيا والسياسة والدين، وما يعكسه من تبعية وإفلاس وإذلال مُهين، وما يترتب عن ذلك كلّه من تخوين لأعداء هذا "الوطن المفدى العظيم".
صنم الوطنية إذن، هو صناعة غربية استعمارية بامتياز، طالما حاولوا تغليفها بوهم الاستقلال وبطقوس من الشعوذة والدجل الوطني المطبّل لأنظمة الخيانة، ومن أجل هذا الصنم مُنعت جيوش الأمة من نصرة غزة بإرادة غربية، فالتزمت ثكناتها بأمر من القادة والحكام رغم كل المجازر الفظيعة والجرائم الشنيعة والمشاهد المريعة، بل رغم استغاثة النساء وتلاحق ركب الشهداء وتكالب الأعداء، وكأن الأمر لا يعني هذه الجيوش ما دام المستهدف ليس الوطن، وما دام من مُزّق ودُفن في التراب ليس العلم، إنما هي بلاد أجنبية مات فيها عدد من الأجانب، أو هكذا أرادوا تصوير الجيوش المكبلة التي تنتظر من يحررها من قبضة أعدائها! ولذلك كاد ينحصر دور الأنظمة الوطنية في تقديم الأكفان وبعض الفتات باسم المساعدات، وكاد ينحصر دور الحكام في إحصاء الأموات واقتراح "الدولة الوطنيّة" كحل لإنهاء المأساة، فيما خيرت النخبة الوطنية في المنابر والشاشات خيار التطبيع أو السُّكوت!
طبعا بعض الأنظمة، سقط عنها القناع في أحداث غزة وانكشفت عوراتها، حيث كسرت صنم الوطنية بأيديها حين طالت الاعتداءات أراضيها واستباحت مقدساتها وانتهكت كل خطوطها الحمراء، ومع ذلك لم تُجيّش جيشا ولم تواجه عدوا، وإنما وضعت رأسها كالنعامة في التراب الوطني، وفي مقدمتها محور المقاومة وأدعياء وحدة الساحات، الذين باعوا لأتباعهم أوهام الصبر الاستراتيجي والحكمة الوطنية، إذا ما استثنينا بعض المناوشات وبعض الصواريخ الكلامية التي تحاول حفظ ماء تلك الوجوه الكالحة.
وأمثلهم طريقة قادة عسكريون يحكمون دول الطوق، لم يتجرؤوا على إطلاق طلقة واحدة ضد المحتل، بل لا تتجاوز بطولاتهم المزعومة بعض العمليات البيضاء والاستعراضات العسكرية، هي أشبه بطقوس عبادة لصنم الوطنية. وهكذا انخرطت جميع الأنظمة الوطنية بتواطؤها وتخاذلها في إعادة نسج خيوط اللعبة ومحاولة إنتاج سردية "الجيش الذي لا يُقهر" من جديد بشكل مخز ومفضوح، بعد أن اهتزت صورته وسقطت هيبته أمام العالم صبيحة 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 سقوطا استراتيجيا مدويّا.
وعليه، لم يكن كيان يهود مجرد قاعدة عسكرية متقدمة للغرب في بلاد الإسلام، ولا خنجرا مسموما زرع في خاصرة الأمة فحسب، بل كان بما يحصل عليه من أسلحة متطورة ومن دعم غربي سخي وتواطؤ عربي وطني من أخطر وأنجع الأدوات التي تحول دون وحدة المسلمين، خاصة بعد أن ثبّت الحكام العملاء تلك السرديّة الكاذبة الخاطئة في المخيال الجماعي لشعوب الأمة حول الجيش الذي لا يقهر، ليؤكد الواقع المحسوس اليوم مقولة الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله مؤسس حزب التحرير: (إسرائيل) هي ظل الأنظمة العربية فإذا زال الشيء زال ظله.
هذه الشعوب التي عاشت مع الوطنية الكذبة الكبرى وتخلت عن واجب الجهاد، استفاقت مع طوفان الأقصى على الصدمة الكبرى وعلى مجزرة فكرية حين اكتشفت أن المستأمن على أمنها وأمن أبنائها ويتقاسم معها أرض "الوطن" وهواءه وسماءه هم أشد الناس خيانة لأوطانهم، وأن من يرعى الأغنام هم ذئاب الغاب! فكيف تستصرخ من يتربص بها وبإخوانها في العقيدة ويتواطأ مع عدوها باسم الوطنية؟ ألم يعلن كيان يهود ومن ورائه دول التحالف الصليبي أنها معركة وجود لا معركة حدود وأنها ليست ضد فصيل بعينه؟ ألم تسارع الحكومات الغربية إلى مراجعة قوائم (الإرهاب) وإعادة تعريف التطرف وإعلان الحرب المفتوحة ضد الإسلام كبديل حضاري بكل ما يعنيه ذلك من استعداء للمسلمين أفرادا وجماعات؟
نعم، لم يكن من السهل أن تتجاوز شعوب الأمة فكرة الوطنية التي حُقنت بها لعقود وخدرت إلى درجة الاستكانة والاستسلام وتشبعت بها إلى حد التخمة والغثيان، فغاب عنها لفترة أنها رابطة منحطة لا تصلح للنهوض بعد سُبات، وأنها سبب الفرقة والضعف والشتات بل هي مصدر التخذيل والتكبيل والتعطيل للطاقات. لم يكن من السهل أن تعيش لزمن تحت سقوف المعابد الوطنية وتقدس رموزها وأركانها وتحرس أبوابها وجدرانها حتى تؤلّه حكامها وصاروا أربابا من دون الله، ثم تستفيق فجأة على جنات تجري من تحتها أنهار من دماء الأبرياء في غزة لتشكل لها وعيا جديدا بحقيقة أصنام الجاهلية المعاصرة، من كونها سبب كل مصيبة حلت بالمسلمين منذ هدم الخلافة، وحقيقة رعاتها وحماتها من الحكام، من كونهم سطراً مخجلاً في تاريخ الأمة الموعودة بالنصر والتمكين، ولا يزال الوعي يتشكل ويتبلور بأثمان باهظة ويكتب بأحرف من دم إلى أن يبايَع في المسلمين إمامٌ يتقى به ويقاتل من ورائه.
ولذلك، حري بهذا الصنم أن يُكسر ويحطم في أذهان الناس، كما تحطمت أصنام الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل على صخرة الوعي بأحداث غزة وبطبيعة المعركة الحضارية بين الإسلام والكفر، فيتعرى الوجه القبيح لمن أوجد هذه الأصنام الاستعمارية في بلاد الإسلام واغتصب أرض الإسراء والمعراج من أمة الإسلام.
قريبا بإذن الله، ستجمع الأمة شتاتها وتلملم جراحها وتستعيد ذاكرتها وتستحضر تاريخ أمجادها وتدرك أن كسر الحصار عن غزة وعن كل فلسطين يبدأ بتحطيم الأصنام الوطنية التي تضر ولا تنفع وتفرق ولا تجمع، فتكسر الحدود وتحرك الجيوش الأبية نصرة للأقصى. عندها تسترد الأمة عافيتها وتنهض من كبوتها لأداء رسالتها واستئناف حياتها الإسلامية في دولة جامعة مانعة تُكبر قويّها وتُنجد ضعيفها وتقهر عدوها ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ﴾.
بقلم: المهندس وسام الأطرش – ولاية تونس
المصدر: جريدة الراية