- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة أجوبة العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة أمير حزب التحرير
على أسئلة رواد صفحته على الفيسبوك "فقهي"
جواب سؤال
من أصول الفقه: المسكوت عنه
إلى يحيى أبو زينة
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حفظكم الله شيخنا وأعانكم على حمل الأمانة وأيدكم بنصره القريب بإذنه تعالى.
وبداية أعتذر عن كثرة الأسئلة التي تردكم مني. ولكن تعلمنا في الحزب أن ننقب ونبحث حتى تبقى فكرتنا قوية نقية بحول الله تعالى.
سؤال في أصول الفقه عن المسكوت عنه:
جاء في الحديث كما عند الترمذي عن سلمان الفارسي أن النبي ﷺ قال: «الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ».
هل يمكن أن نفهم السكوت في الحديث بأنه سكوت عن التشريع في فترة التنزيل أي قبل اكتمال التشريع ونزول قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾؟ فمن المعلوم أنه لا شرع قبل ورود الشرع، والأصل براءة الذمة من التكليف. فقد كان المسلم في زمن التنزيل أمام أحكام قد شرعت وبين الشرع حكمها بوصفها حلالاً أو حراماً. وهذه يفعلها المسلم بناء على أنها تشريع وسيحاسب عليها. وهناك أفعال وأشياء لم ينزل بها تشريع بعد إلى حين أن يكتمل، وهذه هي التي قصدها الرسول ﷺ بقوله «وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ». أي سكت عن تشريعها. وهي عفو أي لا يحاسب عليها المسلم سواء في الفعل أو الترك. وقد نهى النبي ﷺ عن السؤال والبحث فيما لم ينزل فيه تشريع حتى لا يضيق الله فيه على المسلمين بسبب السؤال.
أما بعد اكتمال التشريع ونزول قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾، فلم يبق هناك شيء أو فعل مسكوتا عن تشريعه؛ لأن الشريعة قد حوت جميع أحكام الأشياء والأفعال، فما من شيء أو فعل إلا وله حكم أو محل حكم. ويجب على المسلم أن يسأل ويبحث عن حكم كل فعل يريد القيام به، خلاف ما كان عليه المسلمون زمن التنزيل.
شيخنا الحبيب، هل هذا الفهم يعتبر صحيحا؟ مع العلم أني أتبنى ما هو موجود في كتابنا الشخصية الإسلامية ج3، ولا أخرج البتة عنه إن شاء الله تعالى.
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
يبدو أن هناك فقرة حصل عندك التباس بالنسبة لها وهي قولك في السؤال:
(وهناك أفعال وأشياء لم ينزل بها تشريع بعد إلى حين أن يكتمل، وهذه هي التي قصدها الرسول ﷺ بقوله «وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ». أي سكت عن تشريعها. وهي عفو أي لا يحاسب عليها المسلم سواء في الفعل أو الترك. وقد نهى النبي ﷺ عن السؤال والبحث فيما لم ينزل فيه تشريع حتى لا يضيق الله فيه على المسلمين بسبب السؤال.)
فكلمة (مَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ) لا تعني أن حكمها الشرعي لم يكن نازلاً بل هي تعني أن هذا الأمر الذي سكت عنه الرسول ﷺ هو حلال أي مباح إن كان شيئاً أو فرض أو مندوب أو مباح أو مكروه إن كان فعلاً... وقد سبق أن وضحنا ذلك في جوابنا عن سؤال مماثل بتاريخ العشرين من جمادى الآخرة 1434 للهجرة الموافق لتاريخ 2013/05/05م وأذكر لك أدناه من الجواب ما يتعلق بهذه المسألة:
[1- الأحاديث ذات العلاقة هي:
أ- ما أخرجه الترمذي عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله ﷺ عن السمن، والجبن، والفراء، فقال: «الْحَلاَلُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ»... وفي رواية أبي داود عن ابن عباس «فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ، ﷺ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ، وَأَحَلَّ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ».
ب- وفي السنن الكبرى للبيهقي عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَّدَ حُدُوداً، فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ، فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رُخْصَةً لَكُمْ، لَيْسَ بِنِسْيَانٍ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا».
ج- حديث الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ، فَقَالُوا: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: «لَا وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وفي رواية أخرى للدارقطني عن أبي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ» فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: فِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: فِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «وَمَنِ الْقَائِلُ»؟ قَالُوا: فُلَانٌ، قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ مَا أَطَقْتُمُوهَا وَلَوْ لَمْ تُطِيقُوهَا لَكَفَرْتُمْ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم﴾ الْآيَةَ.
2- وقبل الخوض في معناها تحسن الإشارة إلى بعض الأمور اللازمة:
أ- إن التفريق بين "شيء وفعل" هو بحث فقهي أصولي وليس بحثاً لغويا، وإلا فلفظ شيء يشمل الفعل، وهكذا قسمة الحكم الشرعي إلى فرض، وواجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، وحرام، ومحظور، ورخصة، وعزيمة، وشرط، وسبب، ومانع، وصحيح، وفاسد، وباطل... هذه مصطلحات فقهية أصولية، فأنت لو فتحت قواميس اللغة عن معانيها فلن تجدها بالمعنى الفقهي.
وهذه المصطلحات الفقهية الأصولية أُصِّلت بعد عهد رسول الله ﷺ والخلفاء الراشدين، مثل المصطلحات النحوية، الفاعل والمفعول... فلو نظرتها في قواميس اللغة لوجدت معانيها مختلفة عن المعنى الاصطلاحي النحوي.
ب- وعليه، فإذا قرأت حديثاً للرسول ﷺ أو لصحابته رضوان الله عليهم فوجدت لفظ "شيء" أو لفظ "فاعل"، فلا يعني أن ذلك بالمعنى الاصطلاحي، بل تدرسه لترى مدلوله الصحيح أين يقع: أهو حقيقة لغوية، أم عرفية عامة، أم عرفية خاصة "اصطلاح"، أم حقيقة شرعية.
ج- إذا كان السؤال عن ألفاظ خاصة بعينها، وجاء الجواب عاماً مستقلاً بنفسه عن السؤال، فيكون العموم هو في موضوع السؤال الذي تطرق له الجواب، وليس خاصاً بالألفاظ الموجودة في السؤال، مثلاً في الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي عن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ...؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ».
فهنا قد سئل الرسول ﷺ عن بئر بضاعة، ولكن الجواب جاء مستقلاً عن بئر بضاعة فلم يذكر فيه بئر بضاعة، وإنما ذكر «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»، فيكون العموم منطبقاً على التطهر بالماء سواء أكان من بئر بضاعة أم من أي بئر، ولا يقال إن موضوع العموم هو بئر بضاعة بل يقال الجواب عام وفي موضوعه الذي هو مأخوذ من الجواب وليس من السؤال أي مأخوذ من «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» وليس من "بئر بضاعة"، أي أن موضوعه التطهير بالماء، وليس موضوعه بئر بضاعة...
3- والآن نجيبك على أسئلتك:
أ- حديث الترمذي: سئل رسول الله ﷺ عن السمن، والجبن، والفراء، فقال: «الْحَلاَلُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ»... وفي رواية أبي داود «...وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ»
فإن المعطوف "وَمَا سَكَتَ عَنْهُ..." يعود إلى أقرب معطوف عليه وهو "وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ"، أي أن ما سكت عنه هو عفو من الحرام، أي هو حلال.
والعموم هنا في موضوعه، ولكن لأن الجواب أعمّ من السؤال ومستقل عنه فالموضوع يؤخذ من الجواب وليس من السؤال، ولذلك فهو يعمّ كل ما حكمه الحلال أو الحرام سواء أكان بالنسبة للسمن والجبن والفراء أم لأي أمر يقع في الحلال أو في الحرام، وينطبق هذا على كل ما يدخل تحت لفظ "الشيء أو الفعل" حسب المعنى الاصطلاحي، فإن طُبِّق على الشيء، فالحلال هنا يعني "الإباحة"، وإن طُبِّق على الفعل فالحلال هنا غير الحرام، أي "الفرض، المندوب، الإباحة، المكروه".
ب- حديث البيهقي عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «... وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ، فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رُخْصَةً لَكُمْ، لَيْسَ بِنِسْيَانٍ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا».
في هذا الحديث ثلاثة أمور:
الأول: "سَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ"، وليس الشيء هنا بالمعنى الاصطلاحي، أي دون الفعل، بل تشمل الفعل، فمثلاً الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ وكان المسئول عنه "فعل الحج"، فقد ورد في تفسير القرطبي (6 / 330):
(حديث الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ، فَقَالُوا: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: «لَا وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وفي رواية أخرى للدارقطني عن أبي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ» فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: فِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: فِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «وَمَنِ الْقَائِلُ»؟ قَالُوا: فُلَانٌ، قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ مَا أَطَقْتُمُوهَا وَلَوْ لَمْ تُطِيقُوهَا لَكَفَرْتُمْ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم﴾ الْآيَةَ.) انتهى
وواضح من ذلك أن المسئول عنه كان الحج، وهو "فعل"، وأطلق عليه في الآية "شيء".
الثاني: "وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رُخْصَةً لَكُمْ"، وهذا المعطوف "وَسَكَتَ..." يعود لأقرب معطوف عليه "وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ، فَلَا تَنْتَهِكُوهَا" أي أن الرخصة هي من النهي الجازم "الحرام" بدلالة "تَنْتَهِكُوهَا"، أي أن الذي سكت عنه هو رخصة من الحرام، أي حلال، وهذا ينطبق على المسئول عنه إن كان "شيئاً" بالمعنى الاصطلاحي، فالحلال هنا الإباحة، وينطبق على المسئول عنه إن كان "فعلاً" بالمعنى الاصطلاحي، فالحلال هنا غير الحرام، أي "الفرض والمندوب، والإباحة، والمكروه".
الثالث: "فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا"، فهي متصلة بالمعطوف "وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ" على المعطوف عليه "وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ، فَلَا تَنْتَهِكُوهَا" أي هي حلال، فلا تبحثوا عن حرمتها، وليس لا تبحثوا عن أحكامها من حيث الفرض والمندوب... فمعنى الحديث أن المسكوت عنه هو حلال، فلا تبحثوا في تحريمه خشية أن يُحرَّم بسؤالكم كما جاء في حديث البخاري: عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ المُسْلِمِينَ جُرْماً، مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ».
... الخامس والعشرون من جمادى الآخرة 1434هـ-2013/5/5م]
وواضح مما سبق أن سكوت الرسول ﷺ لا يعني عدم التشريع بل يعني الإباحة إذا كان الأمر متعلقاً بالشيء ويعني الفرض والمندوب والمباح والمكروه إذا كان الأمر متعلقاً بالفعل، أي أن سكوت الرسول ﷺ هو تشريع كما هو مبين أعلاه. أما النهي عن السؤال فهو حالة أن يُسأل الرسول ﷺ عن شيء فيُجيب أو يسكت فإن أجاب فإنه أعطى الحكم صراحة وإن لم يُجب وسكت فهو قد أعطى الحكم بأن هذا الشيء أو الفعل حلال، والمنهي عنه هو معاودة السؤال وتكراره في حين إن الرسول ﷺ قد أجاب عنه أو سكت عنه.
وهذا لا يعني أن المسلم لا يسأل عن الشيء أو الفعل الذي لا يعلمه... جاء في كتاب الشخصية الثالث في باب (لا حكم قبل ورود الشرع) ما يلي: (ولأن الثابت في القرآن والحديث، عند عدم العلم، السؤال عن الحكم، وليس التوقف وعدم الحكم، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ وقال ﷺ في حديث التيمم، فيما رواه أبو داود عن جابر: «أَلاَ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» فدل على أنه ليس الأصل التوقف وعدم الحكم. وعليه، فإنه بعد بعثة الرسول ﷺ، صار الحكم للشرع، وأضحى لا حكم قبل ورود الشرع؛ فيتوقف الحكم على ورود الشرع، أي على وجود دليل شرعي للمسألة الواحدة؛ ولذلك لا يعطى حكم إلا عن دليل، كما لا يعطى حكم إلا بعد ورود الشرع، والأصل أن يبحث عن الحكم في الشرع، أي الأصل أن يبحث عن الدليل الشرعي للحكم من الشرع.)
ولذلك فإن المنهي عنه هو أن يسأل عن مسألة بيّن الرسول ﷺ فيها حكمها فلا يكتفي بذلك بل يتطاول في السؤال، فإذا قال إن الحج فرض فلا يسأل كم مرة وإذا سُئل عن مسألة فألحقها الرسول ﷺ بشيء آخر معروف حكمه أي أنها مباحة، فيجب أن يلتزم بذلك لا أن يعود يسأل (ألا يمكن أن تكون فرضاً؟) أو نحو ذلك من التفاصيل وخاصة في وقت التنزيل، فيكون الإنسان قد شدد على نفسه، وقد يُشدد الله عليه كما في الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيم﴾، فقد جاء في أسباب نزول الآية الكريمة:
- جاء في سنن الترمذي لَمَّا نَزَلَتْ ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: لَا وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ عَلِيٍّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
- وجاء في صحيح ابن حبان أن أبا هريرة ذكر أن رسول الله ﷺ خطب فقال «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ»، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَكُلُّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَسَكَتَّ عَنْهُ حَتَّى أَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءِ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾.
وأخرج نحوه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك والدارقطني وآخرون...
فلا يكون المسلمون كاليهود الذين عندما قيل لهم اذبحوا بقرة فصاروا يستفسرون عن صفات وأحوال البقرة فشُدِّد
عليهم بأوصافها ولو ذبحوا أية بقرة في البداية لكان يكفيهم ذلك.
جاء في تفسير الطبري: [القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ (67) وكان سبب قيل موسى لهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾، ما حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم - أو عاقر - قال: فقتله وليه، ثم احتمله فألقاه في سبط غير سبطه. قال: فوقع بينهم فيه الشر حتى أخذوا السلاح. قال: فقال أولو النهى: أتقتتلون وفيكم رسول الله؟ قال: فأتوا نبي الله، فقال: اذبحوا بقرة! فقالوا: أتتخذنا هزوا، قال: ﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ﴾، إلى قوله: ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾ قال: فضرب، فأخبرهم بقاتله. قال: ولم تؤخذ البقرة إلا بوزنها ذهبا، ولو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم. فلم يورث قاتل بعد ذلك...
قال: ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها، لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم. ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: ﴿وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾، لما هدوا إليها أبدا...]
وهكذا فإن كثرة التساؤل في غير موضعه هو أمر منهي عنه.
آمل أن يكون في هذا الكفاية، والله أعلم وأحكم.
أخوكم عطاء بن خليل أبو الرشتة
11 ربيع الأول 1443هـ
الموافق 2021/10/18م
رابط الجواب من صفحة الأمير (حفظه الله) على الفيسبوك
رابط الجواب من صفحة الأمير (حفظه الله) ويب