- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة أجوبة العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة أمير حزب التحرير
على أسئلة رواد صفحته على الفيسبوك "فقهي"
جواب سؤال
مسألة في القراءات المتواترة للقرآن الكريم
إلى Ashraf Bader
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أميرنا الجليل، أسأل الله العلي القدير أن تكونوا بصحة وعافية وأسأل الله أن يعينكم ويثبتكم. أود أن أطرح موضوعا أسأل الله أن يوفقني فيه ويا حبذا لو أنكم تطلعون عليه وتقررون حوله.
لقد ورد في كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الأول في فصل "حاجة الأمة اليوم إلى مفسرين" عندما تكلمنا عن استغناء العرب ببعض الألفاظ عما يرادفها أو يقاربها ما دام المعنى المقصود على استقامته. وفي موضوع القراءات أوردنا مثالا في الصفحة ٣٠٩ وأتوقع أننا جانبنا فيه الصواب، وهو قوله جل وعلا "لنبوئنهم من الجنة غرفا" عندما قرناه بقراءة أبي جعفر من روايتيه "لنبوينهم من الجنة غرفا" وهذا من بابين:
الأول: صحيح أن أبا جعفر يقرؤها بإبدال الهمزة ياء، إلا أنه يقرأ بصلة ميم الجمع قولا واحدا "لنُبَوِّيَنَّهُمُ من" وهكذا ينتفي إدغام ميم نبوينهم بميم من كما هو ممثل في الكتاب صفحة ٣٠٩، والقراءة بالإبدال مع إدغام الميم لم ترد في أي من القراءات المتواترة. والأمر الآخر أن حكم الإبدال لا يؤثر في معنى الكلمة وهو من أحكام الأصول. وما دام الموضوع عن استغناء العرب بالألفاظ عما يرادفها أو يقاربها فهذا لا يصلح مثالا، لأن معنى بوأ وبوا لا يختلف لأن الكلمة هي نفسها ولكن بحكم الإبدال.
الثاني: أن المثال يصح إذا أبدلنا قراءة حمزة أو الكسائي أو خلف العاشر بقراءة أبي جعفر. وهذا لأنهم يقرؤونها "لَنُثْوِيَنَّهُمْ من الجنة غرفا". والثواء يختلف عن التبوئة من حيث الأصل، وهذا ما يتطلبه السياق. والله أعلم. اللهم إن أصبت فمنك وإن أخطأت فمن نفسي. وأسأل الله أن يجعلنا مع الذين يساهمون في حفظ هذه الثقافة نقية. وجزاكم الله خيرا وأعانكم وثبتكم.
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبارك الله فيك على دعائك الطيب لنا...
إن سؤالك أو لنقل تعليقك هو على الموضع التالي من كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الأول:
[... أمّا من حيث التصرف في المفردات وهي في تراكيبها، أو التصرف في التراكيب، فإن القرآن سائر فيها على معهود العرب الذين نزل القرآن بلسانهم. ومع إعجاز القرآن للعرب، فإنه لم يحصل فيه العدول عن العرف المستمر لهم في التصرف بالقول، وواقعه من هذه الجهة هو عينه واقع معهود العرب في ذلك...
وقد حصل ذلك في القرآن في الاستغناء ببعض الألفاظ عما يرادفها أو يقاربها مثل القراءات في القرآن: ﴿مَٰـلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ﴾، ﴿مَلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ﴾، ﴿وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ﴾، ﴿وَمَا يُخۡادِعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ﴾، ﴿لَنُبَوِّئَـنَّهُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ غُرَفاً﴾، ﴿لَنُبَوِّيَـنَّهُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ غُرَفاً﴾ وغير ذلك من الآيات بحسب القراءات] انتهى.
وأنت ترى أن في كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الأول خطأً في موضعين:
الأول: جعل ميم (لنبوينهم) في الكتاب ساكنة مما ينبني عليه إدغامها في الميم التي تليها في الحرف (من)، وهكذا ظهرت الميم في حرف (مّن) مشددة في الكتاب وهي بذلك تدل على الإدغام، وهذا غير صحيح حسب رأيك لأن (لنبوينهم) وهي لأبي جعفر هي بصلة ميم الجمع فلا إدغام للميم فيها.
الثاني: أن التمثيل بقراءة (لنبوينهم) غير صالح لأن لفظ (لنبوئنهم) هو كلفظ (لنبوينهم) في المعنى وكل ما في الأمر أنه حصل إبدال الهمزة فجاء مكانها ياء، وهذا لا يتناسب حسب رأيك مع الأمر المراد التمثيل له.
والجواب على ذلك كما يلي:
1- بالنسبة لملاحظتك الأولى أي ظهور شدة على الميم في الحرف (مّن)، وهو يعني إدغام ميم (لنبوينهم) في ميم (من)، وهذا بخلاف القراءة المذكورة لأبي جعفر لأنه يقرأ بصلة ميم الجمع أي يقرأ (لنُبَوِّيَنَّهُمُ مِن)، فلا يدغم الميم الأولى في الثانية... هذه الملاحظة صحيحة، فقد جاء عن قراءة أبي جعفر:**
(- النشر في القراءات العشر (1/ 273)
وَاخْتَلَفُوا فِي صِلَةِ مِيمِ الْجَمْعِ بِوَاوٍ وَإِسْكَانِهَا، وَإِذَا وَقَعَتْ قَبْلَ مُحَرَّكٍ نَحْوُ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ فَضَمَّ الْمِيمَ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَوَصَلَهَا بِوَاوٍ فِي اللَّفْظِ وَصْلاً ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ
- فريدة الدهر في تأصيل وجمع القراءات (4/ 73)**
القراءة
(2)... أبو جعفر بقراءة لنبوينهم بإبدال الهمزة ياء مفتوحة وصلة الميم.)
وعليه فإن الموجود في الكتاب هو خطأ مطبعي، ولم يكن موجوداً في الطبعات السابقة لكتاب الشخصية الإسلامية الجزء الأول، فمثلاً الطبعة الثالثة لم تكن فيها حركات على الحروف وكان نص الآية فيها وفق قراءة أبي جعفر: (لنبوينهم من الجنة غرفا) دون شدة أي دون إدغام، لكن فيما بعد وضعت الآيات القرآنية في الكتاب بالرسم العثماني وبالتشكيل، فجاءت القراءة الأولى على نحو صحيح وفق ما هي مثبتة في المصاحف ﴿لَنُبَوِّئَـنَّهُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ غُرَفاً﴾، ولما حصل التمثيل بالقراءة الأخرى قراءة أبي جعفر فيبدو أن المنسق قام بتغيير الهمزة في نص القراءة الأولى ووضع مكانها الياء وفق قراءة أبي جعفر دون التنبه إلى موضوع صلة ميم الجمع فأبقى التشكيل كما هو:
(﴿لَنُبَوِّيَـنَّهُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ غُرَفاً﴾، وهكذا ظهرت شدة على حرف الميم في كلمة (مّن)، وهذا خطأ مطبعي...
2- أما بالنسبة لملاحظتك الثانية بأن التمثيل بقراءة أبي جعفر (لنبوينهم) هو تمثيل لا يصلح لأن (معنى بوأ وبوا لا يختلف لأن الكلمة هي نفسها ولكن بحكم الإبدال)، فهي ملاحظة غير دقيقة، لأن التمثيل في هذا الموضع من كتاب الشخصية الإسلامية هو لاستعمال لفظين يدلان على معنى واحد، فعدم اختلاف المعنى لا يؤثر في صحة التمثيل بل على العكس فإن المعنى ينبغي أن يكون واحداً أو متقارباً ليصح التمثيل، فهو يقول: (وقد حصل ذلك في القرآن في الاستغناء ببعض الألفاظ عما يرادفها أو يقاربها مثل القراءات في القرآن)، أي أن المطلوب هو اتحاد المعنى أو تقاربه مع اختلاف اللفظ... والتمثيل بقراءتين مختلفتين بسبب الإبدال هو تمثيل بلفظين مختلفين حتى لو اتحد المعنى تماماً، لأن الألفاظ التي يدخلها الإبدال هي ألفاظ مختلفة وليست لفظاً واحداً... وقد أشار السيوطي إلى هذا الأمر في كتابه (المزهر) عند حديثه عن الإبدال فقال:
[النوع الثاني والثلاثون معرفة الإبدال:
قال ابنُ فارس في فقه اللغة: من سُنَن العرب إبدالُ الحروف، وإقامةُ بعضها مقام بعض: مَدَحَه ومَدَهَه، وفرس رِفَلّ ورِفَنّ، وهو كثير مشهور، قد ألف فيه العلماء... وممن ألَّفَ في هذا النوع ابن السكّيت، وأبو الطيب اللغوي.
قال أبو الطيب في كتابه: ليس المراد بالإبدال أنّ العرب تتَعَمَّد تعويض حرف من حرف، وإنما هي لغاتٌ مختلفة لمعانٍ متفقةٍ؛ تتقارَبُ اللفظتان في لُغتين لمعنى واحد، حتى لا يختلفا إلا في حرفٍ واحد. قال: والدليلُ على ذلك أن قبيلةً واحدةً لا تتكلم بكلمة طوراً مهموزةً وطوراً غير مهموزة، ولا بالصّاد مرة، وبالسين أخرى؛ وكذلك إبدال لام التعريف مِيماً، والهمزة المصدرة عَيْناً؛ كقولهم في نحو أنْ عَنْ؛ لا تشتركُ العرب في شيء من ذلك، إنما يقول هذا قومٌ وذاك آخرون... ] انتهى.
فإبدال حرف بحرف في كلمة واحدة يجعل اللفظين مختلفين وإن كان معناهما واحداً، وذلك لأن كل لفظ منهما هو لغة عند العرب: فبعض العرب يقول عن المدح (مدح) بالحاء وبعضهم يقول (مده) بالهاء والمعنى واحد، وبعضهم يقول (سقر) بالسين وبعضهم الآخر يقول (صقر) بالصاد والطائر واحد، وبعضهم يقول (نبوئهم) بالهمزة وآخرون يقولون (نبويهم) بالياء والمعنى واحد... والقرآن الكريم استعمل في بعض الحالات ألفاظاً متعددة للتعبير عن المعنى نفسه في الآية نفسها عند تعدد القراءات القرآنية للآية بتعدد لغات العرب، ومن ذلك تعدد اللغات بسبب الإبدال كما هو الأمر في الموضع الذي نتحدث عنه في كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الأول، فلفظ (لنبوئنهم) هو غير لفظ (لنبوينهم) بسبب الإبدال مع أن المعنى واحد، لكن بعض العرب يقول (لنبوئنهم) وبعضهم يقول (لنبوينهم)، والقرآن استعمل هذه اللغة وتلك حيث تعددت القراءات فكانت قراءة بعض القراء (لنبوئنهم) وكانت قراءة أبي جعفر (لنبوينهم).
وبهذا يظهر أننا لم نجانب الصواب حين ذكرنا قراءة أبي جعفر (لنبوينهم) إلى جانب القراءة (لنبوئنهم) لأن المطلوب متحقق بذكر القراءتين المختلفتين حيث يستعمل لفظان مختلفان لأنهما لغتان عند العرب للتعبير عن المعنى نفسه.
**ولكن التمثيل بالقراءة الأخرى وهي (لنثوينهم) بالثاء مكان الباء قد يكون أبعد عن حصول الالتباس وأوضح في إبراز المراد في النص المذكور في الشخصية الإسلامية ولذلك فإننا سنقوم بتعديل النص بوضع (لنثوينهم) بالثاء مكان (لنبوينهم) بالياء.
إن هذه القراءة واردة للآية نفسها كما جاء في النشر في القراءات العشر: [(وَاخْتَلَفُوا) فِي: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ فَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ سَاكِنَةً بَعْدَ النُّونِ وَإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً مِنَ الثَّوَاءِ، وَهُوَ الْإِقَامَةُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْهَمْزِ مِنَ (التَّبَوُّءِ) وَهُوَ الْمَنْزِلُ، وَتَقَدَّمَ إِبْدَالُ هَمْزَتِهِ لِأَبِي جَعْفَرٍ فِي الْهَمْزِ الْمُفْرَدِ.] انتهى. وجاء في تفسير الطبري: [...{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً} [العنكبوت: 58] يَقُولُ: لَنُنْزِلَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ عَلَالِيَ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} [النحل: 41] بِالْبَاءِ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ بِالثَّاءِ: (لَنُثوِيَنَّهُمْ). وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} [النحل: 41] مِنْ بَوَّأْتُهُ مَنْزِلاً: أَيْ أَنْزَلْتُهُ، وَكَذَلِكَ، لَنُثوِيَنَّهُمْ؛ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَثْوَيْتُهُ مَسْكَناً، إِذَا أَنْزَلْتُهُ مَنْزِلاً، مِنَ الثَّوَاءِ، وَهُوَ الْمُقَامُ.] انتهى.
وهكذا فإن القراءات المتواترة عن رسول الله ﷺ للقرآن الكريم التي لا تصح القراءة بغيرها لا تخرج عن لغة العرب ﴿قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ وكذلك قوله تعالى ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي بلغة العرب.
وفي الختام فإني أقدر فيك حرصك واهتمامك بعلم القراءات وكذلك تحرّيك الدقة، وأسال الله سبحانه لك الخير.
أخوكم عطاء بن خليل أبو الرشتة
23 ربيع الآخر 1443هـ
الموافق 2021/11/28م
رابط الجواب من صفحة الأمير (حفظه الله) على الفيسبوك
رابط الجواب من صفحة الأمير(حفظه الله) ويب