الخميس، 19 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/21م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 جواب سؤال

 

التدرج في تطبيق الأحكام

 

 

السؤال: نحن نعلم أن التدرج في تطبيق الأحكام لا يجوز، فلا يجوز تطبيق جزء من الأحكام وترك جزء آخر، بل مطلوب تطبيق أحكام الإسلام كلها، فكيف نفهم الحديثين التاليين اللذين يوردهما دعاة التدرج، ويقولون بجواز تطبيق جزء من الأحكام وترك تطبيق جزء آخر؟ وبمعنى آخر هل يُرَدُّ الحديثان أو يمكن الجمع بينهما، وبين أدلة عدم جواز التدرج ووجوب تطبيق أحكام الإسلام كلها؟ والحديثان هما:

 

1 - حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.

 

2 - حديث عثمان بن أبي العاص: عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَهُمْ الْمَسْجِدَ لِيَكُونَ أَرَقَّ لِقُلُوبِهِمْ فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُحْشَرُوا وَلَا يُعْشَرُوا وَلَا يُجَبُّوا وَلَا يُسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ قَالَ فَقَالَ إِنَّ لَكُمْ أَنْ لَا تُحْشَرُوا وَلَا تُعْشَرُوا وَلَا يُسْتَعْمَلَ عَلَيْكُمْ غَيْرُكُمْ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا رُكُوعَ فِيهِ قَالَ وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي الْقُرْآنَ وَاجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي.

 

الجـواب:

 

قبل الإجابة عن الحديثين المذكورين في موضوع التدرج بتطبيق جزء من الأحكام وترك جزء، أبيَّن ما يلي:

 

1 - عند استنباط حكم شرعي لمسألة، يدرس واقعها جيداً ثم تجمع الأدلة المتعلقة بهذا الواقع، وتدرس هذه الأدلة دراسة أصولية ليستنبط الحكم الشرعي.

 

2 - يُبذَل الوسع أولاً للجمع بين الأدلة فإعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما.

 

3 - فإذا تعذر الجمع عُمد إلى الترجيح وفق أصوله المتبعة: فالمحكم قاضٍ على المتشابه، والقطعي قاضٍ على الظني، وإذا اجتمع ظني وظني فتدرس قوة الدليل من حيث السند ومن حيث العموم، فقويُّ السَّند يُرَجَّح على الأقل قوة، والخاص يرجح على العام، والمقيد على المطلق، والمنطوق على المفهوم ...الخ كما هو مفصل في بابه.

 

والآن لنناقش موضوع التدرج وتطبيق جزء من الأحكام وترك جزء آخر، ثم نرى كيف يفهم الحديثان:

 

1 - التدرج وتطبيق جزء وترك آخر لا يجوز وأدلته قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، نذكر بعضها:

 

قال تعالى: { َأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ }.

 

فهذا أمر جازم من الله لرسوله، وللحكام المسلمين من بعده بوجوب الحكم بجميع ما أنزل الله من الأحكام، أمراً كانت أم نهياً، لأن لفظ (ما) الوارد في الآية هو من صِيَغ العموم، فتشمل جميع الأحكام المنـزلة.

 

وقد نهى الله رسـوله، والحكام المسـلمين من بعده عن اتباع أهواء الناس، والانصياع لرغباتهم، حيث قال: { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ }.

كمـا حـذر الله رسـوله والحكام المسـلمـين من بعده أن يفتنه الناس، وأن يصرفوه عن تطبيق بعض ما أنزل الله إليه من الأحكام، بل يجب عليه أن يطبق جميع الأحكام التي أنزلها الله عليه، أوامر كانت أم نواهي، دون أن يلتفت إلى ما يريده الناس. حيث قال: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ}، وقال تعالى: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }، وفي آية ثانية قال تعالى: {فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وفي آية ثالثة قال تعالى: { فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }، فجـعل الله في هذه الآيات الثلاث مَن لم يحكم بجميع ما أنزل الله من أحكام، أوامر كانت أو نواهي كافـراً، وظـالماً، وفاسـقـاً. لأن (ما) الواردة في الآيات الثلاث من صـيغ العموم، فتشمل جميع الأحكام الشرعية التي أنزلها الله، أوامر كانت أو نواهي.

 

وهذا ما كان عليه الخلفاء الراشدون في تطبيق أحكام الإسلام على البلاد المفتوحة وهم أعرف الناس بكتاب الله سبحانه وبكيفية تطبيق رسول الله صلى الله عليه وسلم للأحكام، فقد كان تطبيقهم للأحكام رضي الله عنهم دفعةً واحدةً، دون تأخير أو تسويف أو تدرج. فلم يكونوا يسمحون لمن دخل في الإسلام أن يشرب الخمر أو يزني سنة مثلاً ثم بعد ذلك يُمنع ... بل كانت الأحكام تطبق كلها. وهذا متواتر مستفيض في تطبيق الأحكام على البلاد المفتوحة.

 

وعليه فإنه لا يؤثر أي دليل ظني في هذا الحكم فتحريم التدرج، ووجوب تطبيق أحكام الإسلام كلِّها ثابتان بالنص القطعي.

 

2 - وهذا يعني أن أي دليل ظني فيه شبهة الدلالة على النقيض من القطعي، فإن القطعي قاضٍ عليه، أي أن الظني يجب أن يُفهم بما لا يعارض القطعي، بمعنى آخر يُعمد إلى إعمال الدليلين بفهم الظني بما لا يتعارض مع القطعي إذا أمكن، وإلا عُمِد إلى الترجيح أي الأخذ بالقطعي وردَّ الظني.

 

3 - والآن هل يمكن إعمال الدليلين، أي هل يمكن فهم الظني بما لا يتعارض مع القطعي؟

 

لنبدأ بالحديث الأول: حديث معاذ بن جبل:

 

(... فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات ... فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة ... فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائهم أموالهم واتق دعوة المظلوم ...):

 

أ - الحديث صحيح من حيث السند وكذلك من حيث المتن فلا اضطراب فيه فقد أخرجه البخاري.

 

ب - لا يصح أن يفهم منه جواز التدرج في الأحكام وإلا ناقض القطعي، وهذا لا يصح، لأن تحريم التدرج ثابت بالقطعي، وبهذا عمل الصحابة عند الفتح فطبقوا الإسلام كاملاً على البلاد المفتوحة، وهو أمر متواتر مستفيض.

 

ج - الحديث نص في الصلاة والزكاة، ولم يستدل أحد من الفقهاء به في جواز الطلب بالصلاة دون الزكاة، أي أن الذين يقولون بالتدرج لا يقولون بالتفريق بين الصلاة والزكاة فلا يجيزون للمسلم الصلاة وترك الزكاة، بل هم يقيسون على (مفهوم) الحديث المتعلق بالصلاة والزكاة، يقيسون عليه التدرج في تطبيق الأحكام الأخرى وهذا باطل لأن حكم الأصل الذي قاسوا عليه غير معمول به عندهم فهم لا يقولون بالتدرج في الصلاة والزكاة ولكن يقولون بالتدرج في تطبيق فروع الأحكام الأخرى، علماً بأن الحديث نص في الصلاة والزكاة.

 

د - ولذلك فالحديث غير صالح للاستدلال به على التدرج لأن الأصل المذكور فيه (التدرج في الصلاة والزكاة) غير معمول به عند أحد، حتى عند الذين يستدلون بالحديث على التدرج.

 

هـ - وعليه فلا يصح بحال أن يفهم من الحديث جواز التدرج بتطبيق جزء وترك جزء من االأحكام لأنه عندها يتعارض مع القطعي الذي يحرم التدرج هذا أولاً، وثانياً لا يقاس عليه لأن الأصل (التدرج في الصلاة والزكاة) غير معمول به.

 

و - إذن هل يُرَدّ أو يمكن إعماله بما لا يتعارض مع القطعي؟ الجواب يمكن فهمه على النحو التالي:

 

منطوق الحديث لا يدل على التدرج بتطبيق جزء من الأحكام وترك جزء، بل المفهوم هو الذي يدل. فنص الحديث:

«... فادعهم إلى ان يشهدوا ... فإن هم أطاعوا لك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات ... فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة ...».

 

فالمنطوق يفيد أن تدعوهم للإيمان فإذا آمنوا فادعهم إلى الصلاة فإذا صلوا ادعهم إلى الزكاة. ولكن ليس في المنطوق فإذا لم يؤمنوا لا تدعهم إلى الصلاة وإذا لم يصلوا فلا تدعهم للزكاة. بل هذه فهمت من مفهوم المخالفة بالشرط أي إذا لم يؤمنوا فلا تدعهم للصلاة، وإذا لم يصلوا فلا تدعهم للزكاة.

 

ومفهوم الشرط في نص ما يعطَّل إذا خالف المنطوقَ في نص آخر مقطوع أو مظنون لأن المنطوق مقدَّمٌ على المفهوم، أي ليس فقط إذا عارض منطوق القطعي بل حتى إذا خالف منطوق الظني فإن المفهوم يعطل ولا يعمل به.

 

ولذلك فيفهم الحديث بمنطوقه ويوقف عنده، ولا يعمل بمفهوم المخالفة لمعارضته منطوق الأدلة الصريحة بوجوب الأخذ بأحكام الإسلام كاملةً.

 

وتعطيل مفهوم المخالفة بالمنطوق أمر ثابت في الأصول، ومتفق عليه عند الذين يعملون بالمفهوم وعند الذين لا يعملون به.

 

فمثلاً: قوله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}، فالمنطوق تحريم إكراههن على الزنا إن أردن العفاف، ومفهوم المخالفة نتيجة الشرط هو أن يُكْرهن إذا لم يُردن العفاف، لكن هذا معطل بمنطوق الآية {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} ولذلك لا يعمل بمفهوم المخالفة في الآية {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} ويوقف في الآية عند منطوقها فقط أي منطوقها يُعمل به فلا يُكرهن على الزنا إن أردن العفاف، وأما الحكم في حالة عدم إرادتهن العفاف فلا يؤخذ من مفهوم هذه الآية بل من الأدلة الأخرى التي تحرم الزنا تحريماً مطلقاً.

 

ومثلاً قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ ...} فإن منطوقها القصر في حالة الخوف، ومفهوم الشرط أَنْ لا قصر إن لم تخافوا، لكن هذا المفهوم معطل بمنطوق الحديث الذي أجاب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم السائل عن جواز القصر في حالة الأمن في حين أن الآية ذكرت الشرط {إِنْ خِفْتُمْ}، فقال صلى الله عليه وسلم «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته». لذلك فيعمل بمنطوق الآية أي القصر في حالة الخوف، وأما القصر في حالة الأمن فلا يؤخذ من مفهوم الآية بل من أدلة أخرى، أي من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم المذكور الذي بين جواز القصر في الخوف والأمن، حيث القصر صدقة تصدق الله سبحانه على عباده.

 

وهكذا يقال في حديث معاذ أن منطوق الحديث يعمل به ولكن لا يعمل بمفهوم الشرط فيه بل يؤخذ حكم الزكاة إن لم يؤدوا الصلاة من أدلة أخرى، وهي التي توجب فرض الزكاة فرضاً عاماً مطلقاً سواء أدى الصلاة أم لم يؤدها.

 

أي أن أدلة تحريم التدرج بتطبيق جزء من الأحكام وترك جزء يُعمَل بها منطوقاً ومفهوماً، وحديث معاذ يُعمَل به منطوقاً ولا يُعمَل بمفهومه. وهكذا يجمع في العمل بالأدلة وفق الأصول الفقهية المتبعة.

 

أما الحديث الثاني:

حديث عثمان بن أبي العاص: عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَهُمْ الْمَسْجِدَ لِيَكُونَ أَرَقَّ لِقُلُوبِهِمْ فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُحْشَرُوا وَلَا يُعْشَرُوا وَلَا يُجَبُّوا وَلَا يُسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ قَالَ فَقَالَ إِنَّ لَكُمْ أَنْ لَا تُحْشَرُوا وَلَا تُعْشَرُوا وَلَا يُسْتَعْمَلَ عَلَيْكُمْ غَيْرُكُمْ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا رُكُوعَ فِيهِ قَالَ وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي الْقُرْآنَ وَاجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي. هذا اللفظ لأبي داود. لا يجبّوا من التجبية أي الركوع وقد أطلقت مجازاً عن الصلاة.

 

ونقول في هذا الحديث:

 

أ - هذا الحديث يؤخذ به وإن كان المنذري قد قال عنه (وقد قيل إن الحسن البصري لم يسمع من عثمان بن أبي العاص) لكن القول هنا بصيغة المجهول، لذلك يمكن الاحتجاج به.

 

وبالطريقة نفسها التي تحدثنا فيها عن الحديث الأول، نقول في هذا الحديث:

 

- لا يصح أن يُفهَم منه جواز التدرج بتطبيق جزء من الأحكام وترك جزء لأن الأدلة القطعية ثابتة على تحريم التدرج في تطبيق الأحكام.

 

- وإذن إما أن يُفهم الحديث بما لا يتعارض مع الأدلة القطعية أي يعمل بالدليلين: القطعي والدليل الظني، وإما أن يعمل بالدليل القطعي ويرد الظني إذا لم يمكن إعمال الدليلين. أي يُعمد إلى الجمع بين الأدلة إن أمكن أو يُعمد إلى الترجيح، ومعلوم أن القطعي قاضٍ على الظني.

 

- في هذا الحديث، قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من وفد ثقيف أن (لا تحشروا ولا تعشروا ولا يستعمل عليكم غيركم) ولكن لم يقبل منهم ترك الصلاة. أما عدم استعمال غيرهم عليهم أي أن يكون الوالي على ولايتهم من أهل الولاية، فلا شيء فيه، وهذا جائز في البداية إن وجد الكفؤ من بينهم، لكن ما معنى (أن لا تحشروا ولا تعشروا)؟ قال في اللسان عن معنى لا يحشرون: (أي لا يندبون للمغازي ولا تضرب عليهم البعوث ... وقيل لا يحشرون إلى عامل الزكاة ليأخذ صدقة أموالهم). وجاء في اللسان كذلك عن معنى لا يعشرون: (أي لا يؤخذ عشر أموالهم وقيل أرادوا به الصدقة الواجبة). ولذلك فإنه يمكن فهم هذا الحديث بأن يؤخذ معنى (أن لا يحشروا) أي أن لا يحشروا إلى عامل الزكاة فيدفعوا زكاتهم عنده بل في أماكنهم أي أنه هو يأتيهم إلى أماكنهم ويأخذ زكاتهم، وهذا هو أحد معاني (يحشرون). وأن يؤخذ معنى (أن لا يعشروا) أي لايؤخذ عشر أموالهم، وهذا المعنى هو أحد معاني (يعشروا).

 

وهكذا يكون ما اشترطوه ووافقهم الرسول صلى الله عليه وسلم عليه هو أن يدفعوا زكاة مالهم في أماكنهم، وأن لا يؤخذ منهم العشر بل الزكاة فقط. ويجوز لمن يريد الإسلام أن يشترط دفع زكاته في مكانه، وأن لا يؤخذ منه عشر بل زكاة فقط. وهذا جائز ولا شىء فيه. وبذلك يتم الجمع بين الحديث والأدلة القطعية. غير أن هناك رواية ثانية لأبي داوود من طريق وهب: «قال سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت قال اشترطت على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا». مما يرجح أن معنى لا يحشرون أي لا يندبون للمغازي أي (لا يجاهدون)، ومعنى لا يعشرون أي لا يُزكُّون.

 

وفي هذه الحالة يكون الحديث خاصاً بوفد ثقيف، وأن قبول عدم جهادهم وعدم زكاتهم هو نص خاص فيهم لا يتعداهم لغيرهم، لأن الحكم الخاص لا يتعدى صاحبه. والحكم الخاص يحتاج إلى قرينة لخصوصيته حتى لا يتعداه، والقرينة هنا هي إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم إن أسلموا فسيتصدقون ويجهادون، ويكون شرطهم لا واقع له، وعِلْم الغيب لا يتأتى لغير الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهي قرينة على أن هذا الحكم خاص.

 

والأحكام الخاصة واردة فمثلاً: شهادة خزيمة التي اعتبرها الرسول صلى الله عليه وسلم له بشهادة رجلين فهي خاصة به ولا تتعداه إلى غيره، وكذلك أضحية أبي بردة بجذعة من المعز أي التي بلغت ستة شهور فهي خاصة به لا تتعداه إلى غيره، لأن الأضحية من المعز تجب ببلوغها السنة.

 

وهكذا يعمل بالدليلين: يحرم التدرج في تطبيق الأحكام، وذلك وفق الأدلة القطعية، وتدرُّج الجهاد والزكاة خاص بوفد ثقيف لعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم إن أسلموا سيجاهدون ويزكون.

 

والخلاصة:

 

- يَحْرُم التدرج بتطبيق جزء من الأحكام وترك آخر للأدلة القطعية في ذلك.

 

- حديث معاذ بن جبل يعمل بمنطوقه ولا يعمل بمفهوم المخالفة للشرط المذكور.

 

- وحديث أبي داوود بروايتيه حيث لم يوافقهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ترك الصلاة، وقبل اشتراطهم عدم الجهاد والزكاة، هو حكم خاص بذلك الوفد لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علم بالوحي أن شرطهم لن يكون له واقع فهم عندما يسلمون سيجاهدون ويزكون.

 

أي أن الحديثين لا يُردَّان بل يُجمع بينهما وبين الأدلة القطعية الدالة على تحريم التدرج بتطبيق جزء وترك جزء من الأحكام ، وذلك على النحو الذي بيناه.

 

--------

 

السؤال: أرسل أحد الشباب تعقيباً على جوابنا حول التدرج بتاريخ 11/02/2006م وطلب توضيحاً لتعقيبه. (ولطول السؤال فلم نسجله هنا ولكن أثبتنا المهم منه في الجواب).

 

الجواب:

 

كأنَّ الأمر التبس عليك، فأنت تقول: (حديث معاذ: إذا كان مفهوم الشرط للحديث معطل ... وكذلك منطوق الحديث لم يستدل به أحد ...)، من أين عرفت أن المنطوق لم يقل به أحد؟ إن الذي ورد في الجواب «الحديث نص في الصلاة والزكاة ولم يستدل أحد من الفقهاء به في جواز الطلب بالصلاة دون الزكاة ...) فالكل يعمل بالمنطوق أي إذا آمن، ادعه للصلاة، وإذا صلى ادعه إلى الزكاة ... . لكن الذي لا يُعمل به مفهوم المخالفة بالشرط، أي إذا لم يصلِّ لا تَدْعُه للزكاة ..، فالذي لا يَعمل به أحدٌ هو التدرج في الصلاة والزكاة، أي لا يأمره بالزكاة إلا بعد أن يصلي، هذا هو الذي لا يَعمل به أحد. لكن القائلين بالتدرج يقيسون على هذا الذي لا يعملون به. فهم يقولون الحديث يقول ادعُه إلى الصلاة ثم إذا صلى ادعُه إلى الزكاة، ويضيفون وهذا يعني التدرج في الأحكام، عندها تسألهم كيف فهمت ذلك؟ يقول قياساً على الحديث فهو يطلب الصلاة فإذا صلى تطلب الزكاة فتسأله عندها: أي أنك تقول بعدم دعوته للزكاة إلا إذا صلى؟ عندها يسكت، لأنه يجد الأمر ثقيلاً أن يفرِّق بين الصلاة والزكاة، فهو يقيس التدرج في غيرها من الأحكام على ما ورد في الحديث من ذكر الصلاة والزكاة، في حين أنه لا يفرِّق بين الصلاة والزكاة. هذا هو الموضوع.

 

أما منطوقه فيُعمل به، فالأمر صحيح أن تدعوه للزكاة إذا صلى هذا من منطوق الحديث، وتدعوه للصلاة والزكاة، من نصوص أخرى.

 

فجائز أن تدعو رجلاً بالزكاة بعد أن يستجيب للصلاة ويصلي، وحتى تدرك ذلك، اسأل نفسك:

لو دعوت رجلاً للصلاة دون أن تذكر له الزكاة أيجوز أم لا؟ إنه يجوز أن تدعوه للصلاة، ويجوز أن تدعوه للصلاة والزكاة.

 

ولو رأيته صلّى فدعوته للزكاة، أيجوز أم لا يجوز؟ إنه يجوز أن تدعوه للزكاة بعد أن يصلي وقبل أن يصلي. لكن الذي لا يجوز هو أن لا ترى جواز دعوته للزكاة إلا إذا صلى أولاً فإن لم يصلِّ لا تجوز دعوته للزكاة.

 

أي مفهوم المخالفة للشرط هو الذي لا يصح.

 

فمنطوق الحديث يُعمل به ولا شيء في ذلك، وإنما مفهوم الشرط معطَّل كما ذكرنا في الجواب. أما الذي لا يَعْمل به أحد فهو العمل بمفهوم الشرط في التفريق بين الصلاة والزكاة، فكان الواجب أن لا يقاس عليه التدرج في الأحكام الأخرى ما دام لا يُعمل بالتدرج في الصلاة والزكاة. أما أن لا يُفرِّق بين الصلاة والزكاة، مع أن الحديث نصٌّ فيهما، ثم يجيز التدرج في الأحكام الأخرى قياساً على مفهوم الحديث فهذا الذي قلنا إنه خطأ، ولا يصح القياس فيه لأن الأصل (تفريق الصلاة عن الزكاة) غير معمول به.

 

2 - كيف تقول: يبدو أن الذين يستدلون بالحديث يستدلون بمفهومه ولا يستدلون بمنطوقه ولا بمفهوم المخالفة للشرط! كيف تقول ذلك:

كيف تقول يستدلون بمفهومه ولا يستدلون بمفهوم المخالفة للشرط؟

 

وهل له مفهوم غير الشرط؟ فليس في الحديث وصف مفهم للعلية مثل «لا يقضي القاضي وهو غضبان» فالغضب وصف مفهم لعلية منع القاضي من القضاء في حالة الغضب، أما طلب الصلاة أولاً ثم الزكاة الواردة في الحديث فلا تحتوي علة أي أن لفظ الصلاة ولفظ الزكاة ليس وصفاً مفهماً لعلية التفريق بينهما. وليس في الحديث غاية مثل {ثم أتموا الصيام إلى الليل} فيكون لها مفهوم أي أن الليل لا صيام فيه.

 

وليس في الحديث عدد. مثل: {والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة} فيكون لها مفهوم أي لا أكثر ولا أقل.

 

وهذه التي يعمل بمفهوم المخالفة.

وكذلك ليس بالحديث مفهوم موافقة بالأدنى إلى أعلى (ولا تقل لهما أفٍّ) فلا تقل أكثر من أف كذلك، أو الأعلى إلى الأدنى (ومنهم من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) أي تأمنه بأقل كذلك. أو الموافقة بالعلاقة اللازمة مثل «احفظ عفاصها ووكاءها».

 

فكيف تقول يعملون بمفهومه ولكن ليس بمفهوم الشرط؟!

على كلٍّ لم يمر علي أنهم يعملون كما قلت، وإن كان (جدلاً) ففهمهم خطأ، لا هو منطوقاً ولا هو مفهوماً.

 

3 - أما سؤالك الافتراضي أنه لو عمل أحد بتدرج الصلاة والزكاة، فهل يعني ذلك جواز الاستدلال بالحديث على جواز التدرج؟

 

إذا صحَّ العمل بالأصل (وهو هنا تدرج الصلاة والزكاة من مفهوم الشرط للحديث)، نعم يمكن القياس على هذا الأصل وفق الأصول.

 

وهذا القول يصح على افتراض أن مفهوم الشرط معمول به هنا، أي يجوز للإنسان أن يصلي، وبعد مدة يزكي ولا إثم عليه. فإن صح العمل بهذا المفهوم، فنعم يقاس عليه. وأنت ترى أن هذا المفهوم معطَّل بنصوص كثيرة التي تدل دلالةً قاطعةً على أن المرء لا يعفى من الزكاة إلا إذا صلى أولاً، بل هو مسئول عن الزكاة سواء أصلى أم لم يصل، فالصلاة ليست شرط صحة للزكاة.

 

فالسؤال افتراضي لأن عدم الإثم في الزكاة إلا أن تؤدى الصلاة، هذا غير صحيح بأدلة كثيرة، فمفهوم الشرط معطل.

 

لكن لنفترض جدلاً أنه غير معطل وأنه غير مخاطب ولا مكلف بالزكاة إلا بعد أن يصلي، ولو كان هذا الفرض صحيحاً فإنه يقاس عليه التدرج في باقي الأحكام فيصبح المرء يأخذ حكماً فيطبقه، وبعد فترة استراحة يأخذ حكماً آخر فيطبقه وهكذا!! وواضح أن هذا بالقطع غير صحيح.

 

4 - أما ما ذكرته من فهم للحديث (أ، ب، ت) فهو فهم للمنطوق وهو صحيح: ادعهم إلى الإسلام ... ادعهم للصلاة ... ادعهم للزكاة ... وقد بينت لك هذا الأمر في (1)،

المشكلة ليست في محاولة الفهم من المنطوق سواء اختصرت هذا الفهم أو أطلت، المشكلة في المفهوم أي:

 

تقول في كلامك أ (... فأخبرهم أن الله قد فرض خمس صلوات، فإن أطاعوا لك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً ...)، مهما فسَّرت أخبرهم، وفسرت أطاعوا كلها تبقى بحثاً في المنطوق ولا شيء في ذلك، لكن السؤال في المفهوم، فأنا أسألك: المنطوق يفيد بعد أن يسلموا، تخبرهم بفرض الصلاة، فإن هم اطاعوا تخبرهم بفرض الصدقة والمفهوم أن لا تخبرهم بفرض الصدقة إن لم يطيعوا لك في الصلاة، هل هذا صحيح؟ ومعنى يطيعوا واضح أنها عن التنفيذ وليس الإنكار لأن هذا تم بعد أن دخلوا في الإسلام فالمفهوم يعني أن لا تطلب من المسلم الزكاة إلا بعد الطلب منه الصلاة .. وهذا لا يصح مهما فسرت المنطوق.

 

أما موضوع رد الحديث وعدم رده فهو أبسط مما ذهبتَ إليه، فنحن لم نرد الحديث بل عملنا بمنطوقه دون مفهومه لأنه معطل بنصوص أخرى.

 

وتعطيل مفهوم الحديث لا يعني ردَّه ما دام منطوقه لا يعارض نصاً مقطوعاً بل يمكن جمعه معه كما بينا في جواب السؤال.

 

أما الحديث الذي رواه البخاري «فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»

 

فالأمر هنا يعني حكماً واحداً من أحكام الإسلام أي مثلاً: الصلاة، الصيام ... وقد ورد ما يؤكد ذلك في روايات أخرى: (وإذا أمرتكم بشيء) في رواية مسلم، (وما أمرتكم به) في رواية أخرى لمسلم.

 

وواضح منها أن المأمور به حكم واحد، وليست أحكام الإسلام جملةً.

 

ولذلك فلم يقل مجتهد، كما أعلم، أن الحديث يفيد أن يصوم المرء إذا لم يستطع الصلاة، أو أن يزكي إذا لم يستطع الصيام ... فليست استطاعة الصوم شرطاً في أداء الصلاة، ولا استطاعة الصلاة شرطاً في أداء الصوم، ولا استطاعة الزكاة شرطاً في أداء الصيام ولا استطاعة الصيام شرطاً في أداء الزكاة، بل إن الاستطاعة شرط في أداء الحكم نفسه، أي هو أن يقضي الصيام إذا لم يستطعه أداءً، ويصلي جالساً إن لم يستطعها قياماً، ويتيمم إن لم يستطع الوضوء بالماء ...

 

وأنت تلاحظ هنا أن لا بد من القيام بالحكم على وجهه حسب الاستطاعة، وان الاستطاعة مبينة شرعاً بالأدلة وليست وفق ما نريد. فإذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم ننفذه على وجهه وفق الاستطاعة المبينة بوضوح بالأدلة الشرعية.

 

فالأداء للحكم لا بد، والاستطاعة كما بينها الشرع ولا بد، أي ليست كما نريد.

 

وهكذا فإن الحديث لا يدل على التدرج في تطبيق الصلاة هذه السنة ثم بعد سنة الزكاة وبعد سنة الامتناع عن الربا ... بحجة عدم الاستطاعة، فالاستطاعة هنا غير واردة

 

في الثاني عشر من محرم 1427هـ.

11/02/2006م.

 

 

 

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع