- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة أجوبة العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة أمير حزب التحرير
على أسئلة رواد صفحته على الفيسبوك "فقهي"
جواب سؤال
الأحاديث التي تقول إن النبي ﷺ سُحر تُرد دراية لأنها تخالف العصمة
إلى ربيع الربيع
السؤال:
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
أخي الحبيب، سؤال حول حديث لبيد بن الأعصم وسحر النبي وهل الحديث يقدح بعصمة النبوة.
فالله يقول: ﴿وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى﴾، ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ ويقول: ﴿إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُوراً﴾، فهل الحديث الذي روته عائشة أن لبيد بن الأعصم سحر النبي يرد دراية لأنه يخالف العصمة؟
آملين من الله أن يوفقكم لما هو خير وإقامة الخلافة، وأن يحشركم يوم القيامة مع النبيين والصديقين والصالحين والشهداء، حفظكم الله شيخنا.
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أولاً: نعم الحديث يرد دراية، فإن معنى الرد دراية هو هكذا:
جاء في الشخصية ج 1 صفحة 188: (...بل الأمر في ذلك أنه إذا جاء حديث مناقض لما جاء في القرآن قطعي المعنى، فإنه يكون الحديث مردوداً دراية أي متناً، لأن معناه ناقض القـرآن...)
وجاء في الشخصية ج 3 صفحة 93 تحت عنوان شـروط قبول خبر الآحاد:
(يقبل خبر الآحاد إذا استكمل شروطه رواية ودراية... وأما شروط قبول خبر الآحاد دراية فهي أن لا يعارض ما هو أقوى منه من آية أو حديث متواتر أو مشهور...).
ثانياً: ولتوضيح المسألة أكثر فإني أذكر الأمور التالية:
1- إن الرسول ﷺ معصوم عن كل حرام ومكروه والأدلة على ذلك مقطوع بها، فكل ما يفعله الرسول ﷺ هو وحي من الله سبحانه، فرضاً كان أو مندوباً أو مباحاً، قال تعالى: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي﴾. كما أنه ﷺ قدوة للمسلمين، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾، وكذلك كل ما يقوله الرسول ﷺ، أمرا كان أو نهياً، هو وحي من الله سبحانه.
2- نعم كما قلت في سؤالك فهم اتهموا الرسول ﷺ بأنه مسحور، فرد عليهم القرآن بما يفيد أن الرسول ﷺ ليس مسحوراً ولا يُسحر، فقد جاء في سورة الإسراء قوله تعالى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً﴾، يقول القرطبي في تفسيره للآية الكريمة: (... فقد كانوا يَسْتَمِعُونَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ الْقُرْآنَ ثُمَّ يَنْفِرُونَ فَيَقُولُونَ: هُوَ سَاحِرٌ وَمَسْحُورٌ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْهُمْ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوى﴾ أَيْ مُتَنَاجُونَ فِي أَمْرِكَ. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَتْ نَجْوَاهُمْ قَوْلُهُمْ إِنَّهُ مَجْنُونٌ وَإِنَّهُ سَاحِرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِي بِأَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ حِينَ دَعَا عُتْبَةُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ إِلَى طَعَامٍ صَنَعَهُ لَهُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَتَنَاجَوْا، يَقُولُونَ سَاحِرٌ وَمَجْنُونٌ. وَقِيلَ: أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَلِيّاً أَنْ يَتَّخِذَ طَعَاماً وَيَدْعُوَ إِلَيْهِ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَقَالَ: «قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِتُطِيعَكُمُ الْعَرَبُ وَتَدِينَ لَكُمُ الْعَجَمُ» فَأَبَوْا، وَكَانُوا يَسْتَمِعُونَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ وَيَقُولُونَ بَيْنَهُمْ مُتَنَاجِينَ: هُوَ سَاحِرٌ وَهُوَ مَسْحُورٌ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّجْوَى اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ، أَيْ وَإِذْ هُمْ ذُو نَجْوَى، أَيْ سِرَارٍ. ﴿إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ﴾ أَبُو جَهْلٍ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَأَمْثَالُهُمَا. ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً﴾ أَيْ مَطْبُوباً قَدْ خَبَلَهُ السِّحْرُ فَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، يَقُولُونَ ذَلِكَ لِيُنَفِّرُوا عَنْهُ النَّاسَ.) انتهى.
ومنطوق الآية الكريمة رد على ما كانوا يقولونه عن الرسول ﷺ إنه مسحور ومفهوم الآية أن الرسول ﷺ لا يُسحر وليس مسحوراً.
وجاء كذلك في سورة الفرقان قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً﴾، ومنطوق الآية الكريمة كذلك رد على ما كانوا يقولونه عن الرسول ﷺ إنه مسحور ومفهوم الآية أن الرسول ﷺ لا يُسحر وليس مسحوراً.
3- إن عقوبة الساحر في الإسلام هي القتل وأدلة ذلك متضافرة ومشهورة:
- أخرج الحاكم في المستدرك على الصحيحين وقال هذا حديث صحيح الإسناد: عَنْ جُنْدُبِ الْخَيْرِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ».
- جاء في مسند الشافعي: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ بَجَالَةَ، يَقُولُ: كَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنِ "اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ. قَالَ: فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ". قَالَ وَأُخْبِرْنَا أَنَّ حَفْصَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ قَتَلَتْ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا.
وهكذا فإن عقوبة الساحر بالمعنى المعروف للسحر، هذه العقوبة هي القتل.
ثالثاً: والآن نجيب سؤالك عن الحديث الذي يقول إن لبيد بن الأعصم سحر الرسول ﷺ، والحديث هو:
روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ، يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ: قَالَتْ حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ، وَمَا يَفْعَلُهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ، أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ، دَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ دَعَا، ثُمَّ دَعَا، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ جَاءَنِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ، أَوِ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، قَالَ: وَجُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ، قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ» قَالَتْ: فَأَتَاهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ وَاللهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِين» قَالَتْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا أَحْرَقْتَهُ؟ قَالَ: «لَا أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِي اللهُ، وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرّاً، فَأَمَرْتُ بِهَا فَدُفِنَتْ».
وبالنظر في هذا الحديث يتبين أنه يعارض الأمور التالية:
1- يعارض عصمة الرسول ﷺ، فهذا الحديث يبين أن الرسول ﷺ سُحر فكان يتخيل أنه فعل الشيء ولم يفعله أو أنه يقوم بفعل معين كأن يكون صلى الظهر مثلاً وهو لم يصل الظهر أو نحو ذلك، وبطبيعة الحال يترتب على هذا قيام الرسول ﷺ بأفعال معينة ليست وحياً وكل هذا يتناقض مع كون الرسول ﷺ معصوماً في أعماله وأقواله إلا بالوحي...
2- هذا فضلاً عن أن الرسول ﷺ لم يقتل الساحر لبيد بن الأعصم وهو كان منافقاً كما جاء في البخاري أي تطبق عليه أحكام الإسلام، فالفقهاء وإن اختلفوا في قتل الساحر الذمي لكن لا خلاف في قتل الساحر المسلم بشروطهم، ولبيد كان أسلم في ظاهره، فتطبق عليه أحكام الإسلام، ومع ذلك لم يقتل حسب الروايات في ذلك.
3- تعارض مفهوم الآيات الكريمة:
قوله تعالى في سورة الإسراء ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً﴾، وقوله تعالى في سورة الفرقان: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً﴾، كما بيناه أعلاه في البند "أولاً-3".
وعليه فإن هذا الحديث وكل حديث صحيح السند يقول إن الرسول ﷺ سُحِر يُرَدُّ دراية أي أنه ﷺ لم يسحر... وذلك لأن الحديث إذا كان صحيح السند ولكن يعارض الآية الكريمة المقطوع بها فيرد دراية.
آمل أن يكون في هذا الكفاية والله أعلم وأحكم.
أخوكم عطاء بن خليل أبو الرشتة
16 ذو القعدة 1443هـ
الموافق 2022/06/15م
رابط الجواب من صفحة الأمير (حفظه الله) على الفيسبوك
رابط الجواب من صفحة الأمير(حفظه الله) ويب