- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
جواب سؤال:حول الشأن القبرصي
السؤال:
في 3/3/2012 صرح وزير شؤون الاتحاد الأوروبي في الحكومة التركية وكبير المفاوضين أغمان باغيش لمراسل صحيفة "قبرص" وهو في زيارته لبريطانيا ليجتمع مع المسؤولين فيها حول الشأن القبرصي قائلا: "كل الخيارات مطروحة على الطاولة للحل في قبرص. فكما يمكن أن يكون الحل على شكل وحدة ( دولة متحدة) باتفاق بين القائدين. ويمكن أن يكون على شكل دولتين (في داخل دولة) باتفاق يتم بين القائدين على التسوية، ويمكن أن يكون بضم شمال قبرص إلى تركيا. كل الخيارات على الطاولة. ولكن ما نأمله وما يدور في خلدنا أن يكون اتحاد دولتين في دولة واحدة في قبرص"، ولكن الوزير التركي لم يذكر أصل الحل وهو ضم كامل قبرص إلى تركيا، فهي كانت جزءاً منها، فما حقيقة هذه التصريحات، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب:
1- إن الوزير التركي طرح المشاريع الأمريكية القديمة حيث إن أمريكا كانت قد طرحت منذ السبعينات من القرن الماضي خططها هذه؛ فإما أن تقسم الجزيرة إلى دولتين منفصلتين، وإما أن يكون القطاعان كدولتين في دولة واحدة أي اتحاد فدرالي أو كونفدرالي، وإما أن يضم شمال قبرص لتركيا وجنوبها إلى اليونان.
ولكن بعدما أصبح جنوب قبرص كدولة عضوٍ في الاتحاد الأوروبي فإنه من المستبعد أن يكون هناك أي تفكير في ضم القطاع الجنوبي إلى اليونان، وهو يتمتع كاليونان بعضوية كاملة في الاتحاد وله استقلاليته ويعطى له اعتبار حيث؛ سيرأس الدورة الرئاسية للاتحاد الأوروبي في تموز/ يوليو القادم. وأوضاع اليونان سيئة وخاصة الاقتصادية فلا يرجح الناس في الجنوب الانضمام، وإن كانت لديهم مشاعر قومية يونانية ممزوجة بتعصبات دينية.
وبذلك يأتي التهديد التركي من جانب واحد. وهذه هي أول مرة ينطق بها مسؤول تركي منذ بدء ظهور القضية القبرصية على الواقع، أي منذ أن بدأت أمريكا في الخمسينات من القرن الماضي تقوم بأعمال في قبرص حتى تؤثر على نفوذ بريطانيا فيها وبالتالي تطردها منها لتحل محلها. حتى اضطرت بريطانيا أن تعطي الاستقلال الشكلي لقبرص عام 1960 ونصبت عليها رجل دين نصرانياً وهو البطريرك مكاريوس، وجعلت عميلها رؤوف دينكطاش ممثلا عن المسلمين نائبا له. وبذلك بقيت الجزيرة موحدة في قبضة بريطانيا.
ويظهر أن التهديد التركي جاء بعد تعثر المحادثات التي تتعلق بقبرص مع البريطانيين، حيث أضاف الوزير أغمان باغيش في تصريحاته لتلك الصحيفة في 3/3/2012 عند اجتماعه مع وزير خارجية بريطانيا وليم هيغ قائلا: "إن بريطانيا تراقب الطرفين بحساسية، ولكن لا أراها تتحرك بحماس كبير فيما يتعلق باستخدام نفوذها. عملنا على إقناعها في هذا الموضوع. إن بريطانيا كونها إحدى الدول الضامنة في قبرص فإننا نعتقد بأن عليها القيام بممارسة سياسة أكثر فعالية وأن تلعب دورا بناء بشكل أقوى".
2- فمن هنا يظهر أن البريطانيين لا يريدون الحلول التي تطرحها أمريكا وقد جدد طرحها الوزير التركي، وإن تظاهروا بأنهم يؤيدون حل القضية. فلهم أي للبريطانيين قاعدتان عسكريتان مهمتان في قبرص تضمان أكثر من 24 ألفا من الجنود البريطانيين عدا أجهزة التنصت والاستخبارات للتجسس على المنطقة ومراقبتها. وهي إحدى الدول الضامنة حسب الاتفاقية التي وقعت عام 1964 بحيث تكون هي وتركيا واليونان دولا ضامنة للوضع الذي رسمته هي في الجزيرة بعد الأحداث التي قام بها القبارصة اليونانيون ضد المسلمين الأتراك. وبذلك حافظت بريطانيا على وجودها ونفوذها هناك حسب هذه الاتفاقية.
إن القطاع الجنوبي من قبرص معترف به دوليا وأوروبيا وهو جزء من الاتحاد الأوروبي، وبريطانيا جزء من الاتحاد الأوروبي فأصبح الوجود البريطاني في قبرص كأنه وجود داخلي وليس خارجيا، ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى غير منزعجة من هذا الوجود. بل تدعم الموقف البريطاني ضمنيا، وإن هي أعلنت دعمها لخطة عنان؛ لأنها تؤمِّن سيطرة اليونانيين على الحكم في الجزيرة وإنهاء وجود دولة تركية فيها, ولذلك فلن تتخلى بريطانيا عن وجودها ونفوذها في قبرص.
3- والأوروبيون يمارسون الضغط على تركيا لتحقيق مطالب لهم تحت مسمى الملف القبرصي وهو أحد الملفات التي لم يتم تسويتها بينهم وبينها ومن ثم ختمه، وذلك ضمن الملفات العالقة في وجه انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي حيث يبلغ عدد هذه الملفات حوالي 35 ملفا منها مسائل داخلية مثل موضوع ما يسمى بالأقليات من الملف الكردي إلى الملف العلوي إلى الملف الأرمني إلى ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى ملف تعديل الدستور وقبول الإشراف الدولي على الانتخابات وما يتعلق بتقليص دور العسكر في الحكم وغير ذلك من الملفات.
فمن مطالبهم فيما يتعلق بالملف القبرصي فتح المرافئ والمطارات التركية أمام القبارصة اليونانيين، غير أن تركيا لم تنفذ الاتفاق المتعلق بذلك لأن الأوروبيين لم يفوا بتعهدهم برفع الحظر الذي يفرضوه على القبارصة الأتراك حسب الاتفاق الذي تم بين الطرفين. فالملف القبرصي مع سبعة ملفات أخرى مجمّد لم يتم تسويتها. وكذلك ترفض تركيا الاعتراف بدولة جنوب قبرص التي يسيطر عليها اليونانيون إلى أن تجري تسوية القضية. وقد عملت بريطانيا عن طريق عملائها على عرقلة الخطة الأمريكية التي أطلق عليها خطة كوفي عنان سكرتير الأمم المتحدة السابق عندما صوتت الأكثرية في القطاع الجنوبي من الجزيرة ضدها عام 2004.
وقد صوت عليها الأتراك في القطاع الشمالي عندما كانت حكومة القطاع الشمالي برأسة محمد علي طلعت عميلة لأمريكا وقد دعمتها حكومة إردوغان بقوة ووضعت كل ثقلها للتصويت لهذه الخطة، وقد عارضها رؤوف دينكطاش يومها بشدة ودعا لرفضها بل جاء إلى تركيا وشكا حكومة إردوغان إلى القيادة العسكرية التركية التي كانت تعارض هذه الحكومة ولم تكن يومئذ تؤيد خطة عنان مما أبرز الصراع بين عملاء الإنجليز والأمريكان في تركيا وفي شمال قبرص. وكانت تقضي هذه الخطة بتوحيد الجزيرة بمشاركة الأتراك في الحكم بنسب معينة على أن يكون القبارصة اليونانيون لهم الحظ الأوفر في الحكم، وأن يتنازل الأتراك عن قسم من أراضيهم لليونانيين بنسبة 7%.
4- إن أمريكا لن ترضى عن أن تحل القضية بضم شمال الجزيرة إلى تركيا ومن ثم يبقى القطاع الجنوبي منها على حاله ويبقى الإنجليز هناك مرتاحين فيه. فان الإنجليز إذا حصل ذلك ولم يمس وجودهم ونفوذهم فيها فإنهم سوف يرتاحون ويقبلون بذلك. ولكن أمريكا لن ترضى عن ذلك حتى تزيل نفوذ الإنجليز وتحل محله وتزيل قواعدهم وتخيم فيها؛ حيث إنها منذ أكثر من خمسين سنة وهي تصارعهم هناك فلا ترضى ببسط نفوذها فقط في شمال الجزيرة وتترك الإنجليز مرتاحين في جنوبها! وكان الإنجليز عن طريق وسائل إعلامهم يقترحون على أمريكا أن تقيم قواعد لها في الجزء الشمالي من الجزيرة ولكن الأمريكان لم يقدموا على هذه الخطوة لأن في ذلك إقراراً بالوجود الإنجليزي هناك. وقد طرحت أمريكا خطة عنان لتسيطر على الشطرين عندما تجعل صيغة سياسية جديدة في الجزيرة تمكنها من السيطرة على الحكومة وترغمها على تنفيذ أوامرها.
5- إن تصريح الوزير التركي بخيار ضم شمال قبرص إلى تركيا وإن كان هو أحد المشاريع الأمريكية القديمة، فإنه يَظْهر حاليا كتهديد يُستعمل ورقةَ ضغط على البريطانيين والأوروبيين والقبارصة اليونانيين؛ لأن البريطانيين مرتاحون لوضعهم في قبرص ولذلك لا يُظهرون الحماس لحل هذه القضية، ويعرقلون المشاريع الأمريكية عن طريق عملائهم في الجزيرة. والوزير التركي صرح بذلك من داخل بريطانيا، ووجه اللوم مباشرة لبريطانيا التي تعرقل الحل بأنها لا تتحرك بحماس كبير فيما يتعلق باستخدام نفوذها ولا تقوم بمارسة سياسة أكثر فعالية ولا تلعب دورا بناء بشكل أقوى. وهذه الصيغ ديبلوماسية ولكنها اتهام ضمني لبريطانيا بأنها تعرقل الحل بل لا تعمل على الحل.
إن ضم شمال قبرص إلى تركيا سيزيد من عرقلة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، حيث إن الأوروبيين لا يرضون عن ذلك، ولهذا فإنه من المستبعد أن تقدم تركيا في الوقت الراهن على ذلك وهي التي تسعى لدخول الاتحاد الأوروبي وتدعمها أمريكا في هذا السعي وتضغط على الأوروبيين حتى يلبوا طلبها لتحقيق أهداف لها ضد الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت نفسه لا يحقق لأمريكا ما تصبو له من إزالة وجود بريطانيا ونفوذها من الجزيرة، لأنه سيُبقي على وضع جنوب قبرص على ما هو ولا تستطيع أمريكا أن تَنفُذ إليه بهذا الشكل. وعليه فإن كلام الوزير التركي ليس أكثر من ورقة ضغط.
هذا مع العلم أن ضم شمال الجزيرة ليس صعبا بالنسبة لتركيا لأنه يعتبر تحت سيطرتها حيث يوجد أكثر من 30 ألفا من جنودها هناك، وقيادة الجيش التركي الحالية أصبحت تساند الحكومة وتقف في صفها. فهذا العمل لا يغضب الجيش وسيحافظ على وجوده هناك. فحماية القطاع الشمالي وأمنه ومصالحه كل ذلك مرتبط بتركيا، ولا يعترف بدولة هذا القطاع وحكومته أحد غيرها، فمصيره بيد تركيا. فضمه من أسهل ما يكون، ولكن النظام في تركيا غير مستقل وهو يدور في فلك أمريكا فلا يقدم على هذه الخطوة إلا بإيعاز منها. وهكذا فإن التلويح بضم شمال قبرص إليها هو للضغط على الإنجليز وعلى اليونانيين في قبرص حتى يقبلوا بالخطط الأمريكية.
6- وهذا الأمر ستتضح معالمه أكثر بعد شهر تموز/يوليو القادم عندما يتسلم النظام في القسم الجنوبي لقبرص الدورة الرئاسية للاتحاد الأوروبي وتظهر صعوبة تعامل تركيا مع هذا الاتحاد. حيث صرح الوزير التركي باغيش المسؤول عن العلاقات مع الأوروبيين وكبير المفاوضين معهم للصحيفة القبرصية سالفة الذكر قائلا: "إننا لن نخاطب نظام الروم في جنوب قبرص عندما يتسلم الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي في تموز.... ولكن سوف نتعامل مع الاتحاد وكأننا لا نرى نظام الروم رئيسا للاتحاد.. وإن نظام الروم في جنوب قبرص يتصرف برعونة. وأن هناك احتمالا بأن لا نشترك في اجتماعات بروكسل برئاسة هذا النظام ". أي أن الوضع سيجري استغلاله وهذه فرصة لأمريكا لإيجاد البلبلة والتخوف لدى الأوروبيين واليونانيين من ذلك إذا لم يتنازل الإنجليز وعملاؤهم في القسم الجنوبي لقبرص ويقبلوا بالخطة الأمريكية المسماة خطة عنان. فقد أكدت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون العام الماضي على ذلك بعد اجتماعها بنظيرها التركي داود أوغلو قائلة: "لا نعتقد أن الوضع القائم في قبرص في مصلحة أحد. نريد رؤية اتحاد من منطقتين ومجموعتين (في قبرص) ونريد أن نراه في أسرع وقت" (16/7/2011 أ.ف.ب)، أي أن أمريكا غير راضية عن الوضع في قبرص وتريد أن تجعله حسب رؤيتها.
7- أما الحل الصحيح الذي يأمر به الإسلام لمشكلة قبرص فهو أن تضم كلها إلى تركيا، فقبرص بلد إسلامي، ويجب أن يُلحق بأصله تركيا، فإن جزرة قبرص هي جزيرة إسلامية فتحها المسلمون على عهد سيدنا عثمان الخليفة الراشد الثالث. وقام الصليبيون الأوروبيون باحتلالها في حروبهم الصليبية الأولى التي شنوها على البلاد الإسلامية ولكن حررها المسلمون فيما بعد وأعادوها إلى أصلها بلاد المسلمين. وخضعت لحكم الدولة العثمانية كسائر بلاد المسلمين لأن الخلافة انتقلت إليهم. وأعلن الإنجليز سيطرتهم عليها في الحرب العالمية الأولى وأعلنوا ضمها لبريطانيا واعترف عميلهم مصطفى كمال بذلك في معاهدة لوزان. ومع ذلك فالمسلمون في تركيا يعتبرون قبرص جزءا من أراضيهم وقد عملوا على نصرة إخوانهم هناك في الستينات وفي السبعينات عندما تعرضوا لمذابح على أيدي الروم بدعم من بريطانيا وأمريكا بأساليب مختلفة. وما زال جيشهم هناك ليحمي أكثر من 300 ألفٍ من المسلمين.
ومع كل ما سبق، فإن مشروع ضم القطاع الشمالي من قبرص لتركيا دون القطاع الجنوبي تلبية للمشاريع الأمريكية، وإن كان مستبعدا ولا تعمل تركيا على تحقيقه فعلا، إلا أنه يعتبر تنازلا عن ثلثي الجزيرة للروم، أي للكفار؛ حيث إن الأتراك رسميا وشعبيا وإعلاميا يطلقون على اليونانيين في قبرص هذه التسميات فيقولون: الروم وقطاع الروم الجنوبي ونظام الروم، والاكتفاء بثلث الجزيرة وهو القسم الشمالي، هو مخالفة للإسلام ويبوء بإثمه كل من يوافق عليه، لأن الأصل هو ضم كل جزيرة قبرص إلى تركيا وإلحاقها بأصلها.
والحكومة برئاسة إردوغان وحزبه تعمل على إضاعة هذه القضية نهائيا وتغيير نظرة المسلمين إليها حتى تصبح نظرتهم إليها ليس على أنها جزيرة لهم! فقد نقلت وكالة كونا الكويتية عن صحيفة "أكشام" التركية في 9/3/2012 عن مصدر مسؤول في حزب العدالة والتنمية الحاكم قوله: "إن حكومة إردوغان تعتقد بأن خطة عنان للسلام يمكن أن تشكل أرضية مهمة لتحقيق سلام دائم وعادل في قبرص خاصة وأن الولايات المتحدة وجميع دول الاتحاد الأوروبي يؤيدون هذه الخطة". وأضاف: "إن حزب العدالة والتنمية يسعى لتأسيس نظرة جديدة للمسألة القبرصية وإقناع العديد من الأوساط في تركيا بعدم النظر لهذه القضية على أنها قضية قومية تركية بحتة، بل يجب النظر إليها على أساس أنها قضية حقوق إنسان بالدرجة الأولى والذي يعنينا في هذا الأمر هو حماية حقوق القبارصة الأتراك من خلال ضمانات دولية أمريكية وأوروبية".
إن النظر إلى قبرص على أنها قضية حقوق إنسان شأنها شأن أي قضية خارجية في أصقاع الأرض، وليست قضية بلد إسلامي فُصل عن أصله، هذا النظر على هذا النحو هو تضييع لقبرص، ويبوء بإثم هذا التضييع كل من ساهم فيه أو رضي به، إلى يوم القيامة. إن المسلمين لن يتخلوا عن قبرص، ولا عن أي جزء من بلاد المسلمين أضاعه الحكام الظلمة، بل سيعيدونه بإذن الله، إن لم يكن عاجلاً فآجلاً، وإن غداً لناظره قريب.