- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
جواب سؤال: الواقع الدولي بالنسبة لأوكرانيا
السؤال:
معروف أن يانكوفيتش هو رجل روسيا في أوكرانيا وهو الآن رئيس أوكرانيا، والشيء العادي أن يكون توجهه نحو روسيا، لكن يلاحظ أن مواقفه ليِّنة تجاه أوروبا وأمريكا، فهل يعني أنه بدأ يتحول نحو الغرب بعيداً عن روسيا، أم هو باتفاق مع روسيا للمحافظة على حكمه أمام التدخلات والضغوطات التي يتعرض لها يانكوفيتش؟
الجواب:
حتى يُدرك الجواب لا بد من معرفة الواقع الدولي بالنسبة لأوكرانيا... فأوكرانيا مركز صراع قديم بين روسيا وأوروبا، ثم دخلت أمريكا حلبة الصراع في العصر الحديث، وقد خلَّف هذا النزاع وبخاصة بين روسيا وأوروبا تأثيراً عميقاً على شعب أوكرانيا، وعلى نظرتهم إلى الغرب وروسيا، فالناس الذين يعيشون في شرق البلاد يوالون روسيا، في حين أنَّ الناس المقيمين غرب البلاد متأثرون بأوروبا وأمريكا، وبالتالي فإنّ البلاد منقسمة فعلياً إلى قسمين. وعلاوة على ذلك، فإنّ النخبة السياسية في أوكرانيا كانت تعمل على مر السنين على توازن العلاقات بين القوى الأوروبية وروسيا، أو التحيز للقوة المسيطرة، سواءٌ أكانت أوروبا أم روسيا.
وهكذا فأوكرانيا مهمة لهذه الدول:
1- أما روسيا فإن أوكرانيا من أكثر البلدان أهمية لها فإذا فقدتها يصبح الغرب على حدودها مباشرة فهي كدرع واق لها من جهة أوروبا عدا أهميتها الاقتصادية حيث تمر منها أنابيب الغاز الروسية إلى الغرب. مع العلم أن روسيا تصر على إعادة هيمنتها في منطقة الاتحاد السوفياتي والذي كان من ضمنه أوكرانيا. لكن عند نشوب ما سمي بالثورة البرتقالية ونجاح يوشكنو في الوصول إلى السلطة في انتخابات عام 2005 ضعف نفوذ روسيا في أوكرانيا، فإن يوشينكو عميل أمريكي، وقد استغلت أمريكا فترة حكمه لتسريع التكامل بين أوكرانيا مع الغرب، وطوال الفترة التي قضاها في منصبه، كان يوشينكو يهدد بطرد أسطول البحر الأسود الروسي من سيفاستوبول عند انتهاء عقد الإيجار العسكري الروسي هناك عام 2017م. ولم يُخف يوشينكو رغبته في دمج أوكرانيا بالكامل في مؤسسات غربية مثل الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي. وقد دخلت كييف مفاوضات على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وطالبت بخطة عمل للعضوية في الناتو... وهكذا أصبح نفوذ روسيا في مأزق، ولكنها استطاعت في فبراير/شباط 2010م، أن تعيد رجلها في أوكرانيا فيكتور يانوكوفيتش إلى السلطة، وهو رابع رئيس للبلاد، ومؤيد قوي لروسيا، ومن حينها بدأ النفوذ الأمريكي بالتراجع، وتوجه أوكرانيا نحو تطبيع العلاقات مع روسيا.
لقد التقى الرئيس يانوكوفيتش مع الرئيس الروسي ميدفيديف في خاركوف بعد أقل من شهرين من توليه منصبه في 21/4/2010، ووافق في الاجتماع على تمديد عقد إيجار أسطول البحر الأسود لـ25 سنة إضافية، حيث تنتهي في عام 2042م، وفي المقابل، وافقت شركة غازبروم الروسية على خفض سعر الغاز الطبيعي إلى 100 دولار لكل 1,000 م3 للفترة المتبقية من عقد الغاز الذي كان قد وقع عام 2009م، وقد اعترضت رئيسة الوزراء الأوكرانية السابقة يوليا تيموشينكو على الاتفاقيات وقالت أنّها تتعارض مع الدستور، وبسبب معارضتها الشديدة وضعت في السجن.
ومع أن أوكرانيا في عهد يانوكوفيتش أبدت رغبتها في الحفاظ على علاقات تعاونية مع منظمة حلف الشمال الأطلسي، ولكن لم تطالب حكومة يانوكوفيتش بعضوية النيتو أو بخطة عمل للوصول إلى العضوية، وبهذه السياسات، أصبح جدول الأعمال الثنائي بين كييف وموسكو لصالح روسيا.
وعلى الجبهة الداخلية، فقد أصبحت سياسات يانوكوفيتش استبدادية على نحو متزايد، ففي 30 من سبتمبر/أيلول 2010م، ألغت المحكمة الدستورية في أوكرانيا التعديلات التي أُدخلت على الدستور الموافق عليه من قبل البرلمان الأوكراني في ديسمبر/كانون الأول 2004م، وقد حدث هذا بعد أن أُعفي قضاة من المعارضين للقرار وعيِّن بدلهم أربعة قضاة جدد مؤيدين له، وهذا يسمح ليانوكوفيتش بالعودة مرة أخرى إلى أيام ما قبل الثورة البرتقالية، وإعطاء هذا الرئيس قوة النفوذ، وإضعاف سلطة البرلمان.
2- وأما أوروبا فهي تدرك أن روسيا تستغل ورقة الغاز وإمداد الغرب لها عن طرق أوكرانيا، تستغلها للضغط والإغراء لتبقى أوكرانيا تحت النفوذ الروسي، أو على الأقل لا توالي الغرب على حسابها، لذلك فإن أوروبا تحاول إغراء أوكرانيا بالمال وبالحلول البديلة عن اعتمادها الكامل على الغاز الروسي، فعرض الاتحاد الأوروبي على أوكرانيا المال لرفع مستوى البنية التحتية للغاز والتكنولوجيا، والمشاركة في استغلال الغاز الصخري، وأصبح هناك حديث لجعل الغاز محور الطاقة، وبناء على هذه الخلفية وقّعت أوكرانيا والاتحاد الأوروبي بروتوكول الانضمام إلى معاهدات الطاقة في سبتمبر/أيلول 2010م، والذي دخل حيز التنفيذ في فبراير/شباط 2011م. وفي وقت سابق من هذا العام، وقّعت أوكرانيا أيضاً على عقد 10 مليار دولار مع شركة شل لاستغلال احتياطي الغاز الصخري في أوكرانيا، ليكون من أكبر الشراكات في أوروبا. ويُعتقد أنّه سيكون من أكبر العقود لاستخراج الغاز الطبيعي تحت الأرض من الصخر الزيتي للخمسين سنة القادمة في أوروبا.
إن أوكرانيا حالياً تتفاوض مع الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالتكامل معها، لكن حزب الأقاليم (حزب يانوكوفيتش) يعيق هذه الجهود، وقد حث رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى أوكرانيا (جون تمبنسكي) أعضاء حزب الأقاليم لوقف عرقلة عمل اللجنة البرلمانية للتكامل الأوروبي؛ ومثل هذه التطورات تزعج روسيا، ولمواجهة الحوافز الاقتصادية للاتحاد الأوروبي كجزء من محادثات الاندماج، عرضت روسيا على أوكرانيا أن تصبح عضواً في الاتحاد الجمركي، ونتيجة الضغوط الروسية وموالاة يانوكوفيتش لروسيا فقد صادق البرلمان الأوكراني في 30-7-2012 على اتفاقية منطقة التجارة الحرة (الروسية) وتكون أوكرانيا الدولة الثالثة بعد روسيا وبيلاروسيا من الدول التي تصادق على هذه الاتفاقية التي كانت قد أُنشئت في18/10/2011 ووقعتها بشكل أولي ثماني دول من رابطة الدول المستقلة برئاسة روسيا ومعها بيلاروسيا وأوكرانيا أرمينيا كازاخستان قرغيزيا مولدافيا طاجيكستان، وقد صادقت عليها روسيا وبلروسيا ثم أوكرانيا، ويتوالى تصديق الدول الأخرى.
ومع ذلك فإن يانوكوفيتش كما يتعرض لضغط روسي فهو كذلك يتعرض لضغوطات من الاتحاد الأوروبي الذي يرفض أن تنضم أوكرانيا إلى الاتحاد الجمركي مع روسيا وإلى مزيد من الاندماج مع روسيا. ولذلك قام الاتحاد الأوروبي وأبلغ أوكرانيا في القمة التي جمعتهما مؤخرا في 25-3-2013 في بروكسل بأنه لا يمكن الجمع بين عضوية الاتحاد الاوروبي والاتحاد الجمركي. وكان الاتحاد الأوروبي قد سهل لأوكرانيا الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية وقال بيتر ماندلسون المفوض التجاري للاتحاد الأوروبي في 14/1/2013: "إن الاتحاد الأوروبي يُعد مؤيداً قوياً لعضوية أوكرانيا في منظمة التجارة العالمية وهذه هي الخطوة الأولى تجاه تكامل أكبر لأوكرانيا مع الاقتصاد العالمي والأوروبي".
وهكذا يبدو واضحاً أن يانوكوفيتش في الوقت الذي يوالي فيه روسيا يحاول أيضا التقارب مع الاتحاد الأوروبي، أي هو يلعب على وتر التوازن بين المصالح الروسية والأوروبية في أوكرانيا.
3- أما أمريكا فقد أوجد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991م فرصة جديدة للقوى الأوروبية القديمة، وكذلك لأمريكا كقوة عظمى في العالم؛ لممارسة نفوذ أكبر على الساحة السياسية في أوكرانيا، ولانشغال أوروبا في إعادة توحيد ألمانيا وتوحيد العملة في أوروبا، وانشغالها في الخلافات بين الدول الأوروبية، أُتيحت الفرصة لأمريكا لاستغلال الوضع على أكمل وجه، ولم تكن روسيا قادرة بأي شكل على وقف أمريكا، فقد كانت منهارة تماماً مع انهيار الاتحاد السوفيتي والتحول إلى الرأسمالية، فاستغلت أمريكا ضعف روسيا، فوقع الرئيس السابق جورج ايتش دبليو بوش في 24 تشرين الأول/أكتوبر، 1992 قانون الحرية لروسيا والديمقراطيات الأوراسية الناشئة، ودعم الأسواق المفتوحة - الذي يعرف أيضًا بقانون دعم الحرية (FSA)- وذلك لتمكين اتباع نهج أميركي موحد في تقديم المساعدات إلى البلدان الأوراسية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي. وعهدت إلى مكتب منسق المساعدات الأميركية لأوروبا والبلدان الأوراسية في وزارة الخارجية (EUR/ACE) مهمة تنسيق وإدارة برامج المساعدات الخارجية التي يخولها قانون دعم الحرية.
وفي إطار قانون دعم الحرية، سعت الحكومات الأمريكية المتعاقبة إلى زيادة نفوذها في أوكرانيا، فعلى سبيل المثال، كانت أمريكا، بعد استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفيتي في عام 1991م، كانت قادرة على استخدام أول رئيس لأوكرانيا (ليونيد كرافتشوك) في إنشاء العملية الثلاثية عام 1994م، للقضاء على الأسلحة النووية على الأراضي الأوكرانية، كما كانت أميركا قادرة على إقامة شراكة استراتيجية مع أوكرانيا من خلال الرئيس الثاني (ليونيد كوتشما) في عام 1994م، كما أبرم كوتشما اتفاقية شراكة وتعاون مع الاتحاد الأوروبي، ووافق على شراكة مميزة مع حلف شمال الأطلسي، وقد كانت أميركا قادرة حتى على التأثير على المعاهدة الثنائية بين روسيا وأوكرانيا في مايو/أيار 1997م، في مسألة حقوق أسطول البحر الأسود الروسي في شبه جزيرة القرم. وقد نجحت أمريكا بشكل أكبر في أوكرانيا، عندما تمكن الرئيس فيكتور يوشينكو من الوصول إلى السلطة في انتخابات عام 2005م في أعقاب الثورة البرتقالية، وقد كان يوشينكو عميلا أمريكيا، فاستغلت أمريكا فترة حكمه لتسريع التكامل بين أوكرانيا مع الغرب، وطوال الفترة التي قضاها في منصبه، كان يوشينكو يهدد بطرد أسطول البحر الأسود الروسي من سيفاستوبول بعد انتهاء عقد الإيجار العسكري الروسي هناك عام 2017م. ولم يُخف يوشينكو رغبته في دمج أوكرانيا بالكامل في مؤسسات مثل الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي. وقد دخلت كييف مفاوضات على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وطالبت بخطة عمل للعضوية في الناتو، لكن هذه الجهود فشلت عندما وصل إلى السلطة رجل روسيا يانوكوفيتش.
ومع ذلك فقد استمرت أمريكا في الضغط على أوكرانيا لئلا تنضم إلى الاتحاد الجمركي الروسي وتحضها على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لأن ذلك يدخلها في دائرة الغرب ويمهد الطريق مستقبلا لإدخال أوكرانيا في الناتو، وبالتالي يمهد الطريق للهيمنة الأمريكية عليها ويحد من النفوذ الروسي فيها، بل يوجد طوقا على روسيا من جهة أوروبا الشرقية.
وتركز أمريكا في كسب أوكرانيا على الناحية العسكرية باشراكها في مناورات عسكرية وهدفها النهائي إدخالها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وقد أجرت مناورات للناتو في البحر الأسود في 14/7/2010 واستمرت إلى 26-7-2010 أشركت فيها أوكرانيا وكان ذلك بعد انتخاب يانوكوفيتش بأشهر قليلة وفي ذروة علاقاته الجيدة مع روسيا. وإن كانت الأخيرة أي روسيا قد احتجت على ذلك على لسان وزارتها الخارجية في بيان أصدرته بقولها: "إن طابع تلك المناورات ومحاولة تقديمها على أنها مناهضة لروسيا ومشاركة دول فيها ليست من المنطقة تثير تساؤلات وبعض القلق. وكذلك فإن سياسة أوكرانيا الرامية إلى استعجال انضمامها إلى حلف الأطلسي لا تسهم في تعزيز علاقات حسن الجوار". (موقع الإذاعة الإيرانية 19-7-2010) وكذلك جرت مناورات بحرية مشتركة أمريكية أوكرانية في 13-6-2011 لقوات البحرية الأوكرانية في البحر الأسود، وكذلك "عبرت روسيا عن استيائها في بيان أصدرته الخارجية الروسية واعتبرت هذه الخطوة تهديدا مباشرا لأمنها القومي". (العربية 12-6-2011).
4- نفهم من كل ذلك أن يانوكوفيتش لم يقطع صلته بروسيا وموالاته لها، ولكنه لا يستطيع أن يلبي لها كل طلباتها بسبب الضغوط الداخلية والخارجية ولحرصه على النجاح في انتخابات 2015. وروسيا تدرك ذلك، فخير لها أن يبقى يانوكوفيتش من أن يأتي الموالون للغرب الذين سيعملون على الابتعاد عن روسيا نحو الغرب مما يعرض المصالح الروسية للخطر. ولكن يانوكوفيتش سوف لا يذهب بعيدا في علاقاته مع الغرب بحيث ينهي ولاءه لروسيا، وبخاصة وأن قاعدة يانوكوفيتش الشعبية هي من المؤيدين للتوجه نحو روسيا فلا يستطيع أن يهمل ذلك. ولكنه سيبقى يعمل على إرضاء الغرب والانفتاح عليه وتحقيق مصالحه معها. وروسيا تتفهم ذلك فلا تشدد قبضتها كثيراً على يانوكوفيتش، ولا ترخي الحبل له إلى حد أن يفلت من أيديهم.