الخميس، 19 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/21م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
  •   الموافق  
  • كٌن أول من يعلق!

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 


جواب سؤال

 

السياسة الفعلية الأمريكية تجاه روسيا والصين

 

السؤال: أعلن الرئيس الأمريكي أوباما في 2016/12/29 وقبل ثلاثة أسابيع من رحيله عن سلسلة عقوبات قوية ضد روسيا تشمل طرد عدد كبير من الدبلوماسيين الروس من أمريكا "35 دبلوماسياً" وإغلاق بعثات/مجمعات لدبلوماسيين روس في ميريلاند ونيويورك تحت ذريعة التجسس... كل هذا التأزيم هو على خلفية اتهامات أمريكية لروسيا بالقرصنة الإلكترونية ضد الانتخابات الأمريكية... فهل هذا يستوجب كل هذه الإجراءات؟ أو أن هناك تغييراً في الدور الروسي في سوريا اقتضى هذه الإجراءات؟ أو هناك أسباب أخرى وبخاصة أن ترامب يصرح بتحسين العلاقات مع روسيا في حين إن أوباما يؤزمها! وجزاك الله خيراً.

 

الجواب: حتى يتضح الجواب نستعرض واقع ما حصل ثم نستعرض التساؤلات التي وردت في السؤال:

 

أولاً: أما واقع ما حصل فصحيح أن الإدارة الأمريكية الحالية تقوم بتأزيم فعلي للعلاقات الأمريكية الروسية، وقد فهمت روسيا الرسالة فكان ردها الفوري على لسان الناطق باسم الكرملين بيسكوف بأن (العقوبات الأمريكية ذات طبيعة هدامة وعدوانية وغير متوقعة، وقال: إدارة أوباما تقوم بتدمير العلاقات الروسية الأمريكية بشكل نهائي بعد أن وصلت إلى القاع، وأعلن أن موسكو ستعكف على رد مناسب على إجراءات واشنطن...) (قناة روسيا اليوم، والقناة الفرنسية، 2016/12/29). ومن أوجه التأزيم لتلك العلاقات كانت الخطوات الأمريكية التالية:

 

1- (قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما 2016/12/15 إن الولايات المتحدة سترد على القرصنة الروسية للتأثير في الانتخابات الأمريكية. وأوضح أوباما لإذاعة "أن بي آر"، "أعتقد أن لا شك أنه عندما تحاول أي حكومة أجنبية التأثير على نزاهة انتخاباتنا أننا في حاجة إلى اتخاذ إجراءات"، مضيفا "ونحن سنرد في الزمان والمكان اللذين نختارهما". وتابع الرئيس الأمريكي أن "بعضا منه "الرد" سيكون واضحا وعلنيا. والبعض الآخر ليس كذلك"...) (موقع فرنس24، 2016/12/16). وها هو رد الإدارة الأمريكية قد ظهر في العقوبات التي أعلنها أوباما ضد روسيا.

 

2- هاجم الرئيس الأمريكي أوباما روسيا على نحو تهكمي ووصفها بأنها "دولة صغيرة" وقال ("هم أصغر وأضعف، اقتصادهم لا ينتج شيئا يريد الآخرون اقتناءه سوى النفط والغاز والأسلحة، ولا يتطور"...) (روسيا اليوم، 2016/12/17).

 

3- (أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية، 2016/12/20، عن فرض عقوبات جديدة على سبعة من رجال الأعمال الروس وثماني شركات احتجاجا على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم والصراع القائم في أوكرانيا، حسبما أفادت وكالة "رويترز" الإخبارية... وتستهدف العقوبات سبعة أفراد بينهم كوادر عديدة في "بنك روسيا" الذي يعتبر الأقرب إلى السلطات الروسية، فضلا عن أربع شركات بناء ونقل تعمل في شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو... وأضافت الإدارة الأمريكية أن هذه الخطوة "تؤكد رفض احتلال روسيا للقرم ورفض الاعتراف بمحاولة ضم شبه الجزيرة"...) (دوت مصر، 2016/12/20).

 

4- العزف الأمريكي على وتر العودة لبرنامج حرب النجوم للرد على استمرار تطوير روسيا لأسلحتها النووية، وفي هذا الإطار فقد تم تعديل قوانين أمريكية تسمح بعسكرة الفضاء (فلا بد من الإشارة إلى أن الكونغرس الأمريكي أدخل تعديلين مهمين على مشروع القانون في مرحلة التصديق عليه، يلغي أحدهما محدودية نشر واشنطن درعها الصاروخية، بينما يقضي الثاني ببدء العمل على تصميم مكونات جديدة في هذه المنظومة تمهيدا لنشرها مستقبلا في الفضاء. ونقلت صحيفة "لوس أنجلس تايمز" عن ترينت فرينكس، عضو مجلس النواب عن الحزب الجمهوري وأكبر مقدمي التعديلين، اعترافه بأنهما يعتمدان على برنامج "مبادرة الدفاع الاستراتيجي" الذي دشنه الرئيس رونالد ريغان في عام 1983، ويعرف أيضا باسم "حرب النجوم"...) (موقع دار الأخبار، 2016/12/24)، ومقصود منه توتير الأجواء مع روسيا.

 

5- (تبنى مجلس النواب الأمريكي، أمس الجمعة 2016/12/02، مشروع قانون يمنح 3.4 مليار دولار لوزارة الدفاع الأمريكية في عام 2017 من أجل "ردع روسيا". وأيد 390 عضوا في مجلس النواب مقابل 30 رافضا فقط مشروع القانون، وكان وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر قد أعلن خلال عرض مشروع ميزانية الدفاع على الكونغرس أن الولايات المتحدة "تعزز مواقعها في أوروبا من أجل حلفائها في حلف الناتو في مواجهة العدوان الروسي"...) (وكالة سبوتنيك الروسية، 2016/12/03).

 

6- وبالاضافة إلى ذلك فإن أمريكا قد أنزلت مرتبة روسيا في حل الأزمة السورية، واستبدلت ثنائي كيري-لافروف الذي تعتز به موسكو كثيراً، وتنظر إليه كمؤشر على عودة العظمة لروسيا، استبدلت به ثنائي روسيا-تركيا. وأمريكا وإن كانت على اتصال دائم ودعم متواصل للجهود الروسية التركية في سوريا، لضمان تنفيذ الأطراف لمشاريعها في سوريا، إلا أن صيغة روسيا-تركيا بدلاً من روسيا-أمريكا يعتبر إنزالاً لمرتبة روسيا الدولية ووضعها بمستوى دولة كتركيا، وهذا يمكن إدراجه في إطار الضغط الأمريكي على روسيا.

 

7- لقد أخاف هذا التأزيم روسيا فعلاً، ففي ردها على العقوبات الأمريكية التي فرضها أوباما قال الرئيس الروسي (إن موسكو تحتفظ بحقها في الرد على العقوبات الأمريكية الجديدة ضدها، لكنها لن تنحدر لمستوى الإدارة الأمريكية الحالية ولن تستهدف الدبلوماسيين... وأضاف قائلا: "لن نخلق مشاكل للدبلوماسيين الأمريكيين، ولن نطرد أحدا. ولن نمنع أفراد عائلاتهم وأطفالهم من استخدام أماكن الاستجمام المعتادة بالنسبة لهم خلال أعياد رأس السنة. علاوة على ذلك، ندعو أطفال الدبلوماسيين الأمريكيين المعتمدين في روسيا لحضور احتفالات رأس السنة والميلاد في الكرملين"...) (روسيا اليوم، 2016/12/30)، ونكوص موسكو عن الرد المعتاد، وهو المعاملة بالمثل يدل على مسألتين:

 

الأولى: خشية شديدة في موسكو من أهداف وتبعات هذه الأزمة مع واشنطن...

 

والثانية: أن موسكو تعول على تسلم إدارة ترامب الجديدة في واشنطن لإعادة هيكلة علاقات البلدين على أسس ترضى بها موسكو. وبما عهد عن روسيا من ضعف حنكتها السياسية فإنها تظن أن الرئيس القادم ترامب سيكون مختلفاً عن سلفه أوباما في النظرة إلى روسيا، متغافلين عن أن مؤسسات الحكم الواسعة في أمريكا كلها تقود أي رئيس، ومن أي حزب، للمضي في تنفيذ سياسات بلاده الخارجية، وأن الاختلاف بين أوباما وترامب عند حدوثه يكون مقصوداً لتنفيذ السياسة الأمريكية المرسومة.

 

ثانياً: استعراض التساؤلات التي وردت في السؤال:

 

1- إن هذه العقوبات القوية من إدارة أوباما ضد روسيا تأتي في ظل اطمئنان أمريكا إلى ثبات الدور الروسي في تنفيذ المهمة الدولية في سوريا، وأن روسيا تقوم بتنفيذ المهمة على أكمل وجه، فأمريكا قد أكملت توريط روسيا في سوريا لدرجة لا يمكن معها لروسيا أن تخرج من المستنقع السوري، ولما اطمأنت أمريكا لذلك أنزلت مرتبة روسيا ليكون النظام التركي الوكيل شريكها في سوريا بدل النظام الأمريكي الأصيل... لكل ذلك فإن تأزيم أمريكا لعلاقاتها مع روسيا وزيادة الضغط عليها لا علاقة له بالمسألة السورية، فروسيا تقوم وبثبات بخدمة المصالح الأمريكية في سوريا، وهذا ليس موضع شك أبداً عند أمريكا، بل إن سياسة روسيا في سوريا قد أصبحت حبيسة لأتباع أمريكا - ايران وأشياعها والنظام السوري وتركيا والمعارضة الموالية لها - ولا يمكنها انتهاج سياسة خاصة بها، فلا هي يمكنها الانسحاب وترك سوريا للمجهول، ولذلك تقوم بتثبيت وتوسيع قواعدها العسكرية في اللاذقية وطرطوس... ولا هي يمكنها التحكم بوتيرة المعارك فيها نظراً لغياب قوة برية معتبرة لها في سوريا. لكل ذلك فإن الدور الروسي في سوريا قد صار ثابتاً، بل ومكبلاً بالسياسة الأمريكية وأتباعها الفاعلين في الأزمة السورية... ولهذا فإن هذا التأزيم ليس بسبب تخلي روسيا عن الدور المرسوم لها أمريكياً في سوريا لأن روسيا لم تتخل عن الدور المرسوم لها أمريكياً.

 

2- ولا يجوز أن يخطر بالبال أن العقوبات الأمريكية التي أعلنها الرئيس أوباما هي ردة فعل غاضبة على القرصنة الإلكترونية التي قد تكون ساهمت في خسارة الحزب الديمقراطي ومرشحته للرئاسة هيلاري كلينتون. وذلك لأنها لو كانت كذلك لاستعجلت إدارة أوباما في موضوع العقوبات قبل مصادقة المجمع الانتخابي على انتخاب ترامب رسمياً رئيساً للولايات المتحدة 2016/12/19... أما أن تحرك القضية بعد نجاح الرئيس المنتخب وإقراره من المؤسسات الدستورية عندهم فإن ذلك يشكك وبقوة في مصداقية تلك الانتخابات ومصداقية ذلك الرئيس القادم، وهذا ما لم تقبل المساهمة فيه أية إدارة أمريكية... ولو افترضنا جدلاً أن ظروفاً حالت دون أن تكون العقوبة قبل تصديق النتائج فإن مقتضيات الفهم السياسي للدول الكبرى إذا ما اضطرت لإعلان النتائج بعد إقرار نتيجة نجاح الرئيس فستتذرع بأمور أخرى غير القرصنة تفادياً للتشكيك في نجاح الرئيس القادم، وحيث إن العقوبات كانت بعد المصادقة على نجاح الرئيس رسمياً بحجة تدخل روسيا في الانتخابات إذن ليس هو السبب الحقيقي.

 

3- وقد يقال إن تطوير روسيا لأسلحتها النووية والصاروخية الهجومية هو سبب الضغط الأمريكي الحالي رداً على تصريحات للرئيس الروسي (وقال الرئيس بوتين في تصريحات، خلال اجتماع مع قيادة وزارة الدفاع في العاصمة موسكو: "يجب رفع كفاءة القوات الاستراتيجية النووية إلى مستوى جديد نوعيًا، يسمح بمواجهة أي مخاطر عسكرية قد تحدق بروسيا"...) (موقع وكالة الأناضول، 2016/12/22). وهذا وإن كان له أثر إلا أن حجم الاقتصاد الروسي الصغير يجعل من جهود موسكو في هذا الاتجاه غير جدية، بعد أن نجحت الولايات المتحدة والغرب عموماً في القضاء على أركان واسعة للصناعة الروسية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، فغدت روسيا دولةً تصدر الخامات، وإن احتفظت بقدر كبير من صناعتها العسكرية، أي أن روسيا لا تسعى لمنافسة أمريكا دولياً، بل هي تطالب أمريكا بأن تقبل بدور لروسيا في السياسة الدولية، تلك المطالب التي ترفضها أمريكا جملة وتفصيلاً، فحتى خدمة روسيا لأمريكا في سوريا لم تَجُرّ أمريكا إلى الاعتراف بروسيا دولةً عظمى، وإشراكها في القضايا الدولية الأخرى، أي أن روسيا التي ورثت الاتحاد السوفييتي، وورثت صفحات من تاريخ الوفاق الأمريكي السوفييتي، كانت تأمل أن تعاونها مع أمريكا في سوريا سيؤدي إلى وفاق شامل، فكانت تطالب أمريكا بمزيد من التعاون على الحلبة الدولية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قصر النظر السياسي عند الروس، فأمريكا قد مزقت صفحات وفاقها مع الاتحاد السوفييتي عندما كان له وجود مؤثر وملموس حول العالم، فكيف بها الآن تقبل بذلك مع دولة صغيرة - روسيا - كما وصفها أوباما؟! وروسيا بهذا الحجم الصغير الجديد لا تمثل تهديداً فعلياً لأمريكا يقتضي هذا التأزيم، وكل هذا يدل على أن تصريحات روسيا حول تطوير الأسلحة النووية ليست هي السبب الحقيقي لتأزيم أوباما العلاقة مع روسيا.

 

ثالثاً: وهكذا فليست الحالات السابقة الذكر هي الأسباب الحقيقية لهذا التأزيم، بل هو شيء آخر يمكن فهمه بتدبر الأمور التالية:

 

1- يمكن لأي سياسي وبسهولة إدراك أن المعضلة الدولية الرئيسية أمام أمريكا اليوم هي صعود الصين، وتمكنها من بناء اقتصاد عملاق يكمن في ثناياه إمكانية واقعية لتهديد التفرد الاقتصادي الأمريكي بالعالم، وإذا أضيف إلى ذلك الإنفاق العسكري المتسارع للصين والذي يفوق إنفاق دول كروسيا وبريطانيا وفرنسا مجتمعة، بل وكون الكثير من برامجها العسكرية سرية، فإن الصين قد أصبحت الشغل الشاغل للسياسيين الأمريكان، وقد كانت تصريحات المسؤولين الأمريكان كلها تصب في هذا الاتجاه في الفترات الأخيرة، فقد اعتبر وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر أن الصين رفعت احتمال مزيد من العسكرة، وقال إن أمريكا في مرحلة انتقالية... (واشنطن- "د ب أ": قال وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر في منتدى للدفاع بولاية كاليفورنيا "بعد 14 عاما من مكافحة التمرد ومكافحة الإرهاب... نحن في خضم مرحلة انتقالية استراتيجية للرد على التحديات الأمنية التي ستحدد مستقبلنا" وقال كارتر إن قيام الصين باستصلاح أراض في بحر الصين الجنوبي رفع من احتمال المزيد من العسكرة وخطورة أكبر من سوء التقدير...) (القدس العربي، 2015/11/08)، ثم إن الرئيس أوباما اعتبر أن مستقبل أمريكا إنما يتقرر اليوم في آسيا، (قال الرئيس الأمريكى باراك أوباما إن حملته لإعادة توازن السياسة الخارجية الأمريكية كي تركز بشكل أكبر على آسيا ليست "بدعة عابرة" لرئاسته...) ("فينتيان"، "رويترز"، اليوم السابع، 2016/09/06) وتركيزه على آسيا يعني مجابهة الصين.

 

2- لقد سبق لأمريكا في حقبة الاتحاد السوفييتي أن كان هناك تقارب بين الصين والاتحاد بدافع وحدة الحزب الشيوعي ولما كانت أمريكا حينذاك تعمل بجد لهزيمة الاتحاد السوفييتي، فقد أخذت تقاربه مع الصين مأخذ الجد، وأخذت تعمل لفصل هذا التقارب كخطوة ضرورية لإضعاف الاتحاد السوفييتي وهزيمته، وظهرت حينها خطة كيسنجر لخلخلة العلاقة بين الصين والاتحاد السوفييتي وقد نجح في ذلك إلى حد كبير... والآن انعكس الواقع فأمريكا تخشى قوة الصين وتلاحظ تقارباً بينها وبين روسيا وهي تريد إبعاد هذا التقارب كخطوة ضرورية لعزل الصين لإضعافها، أي كما فعلت سابقاً ولكن بطريقة معكوسة، وهذا ما أشارت إليه صحيفة الواشنطن بوست، فنقلت عنها روسيا اليوم 2016/12/18 ما يلي: (وجاء في المقالة أنه قبل 45 عاما قام الرئيس الأمريكي السابق نيكسون بمحاولة تغيير تشكيلة "المثلث" الاتحاد السوفييتي - الولايات المتحدة - الصين، حيث راهن على القيام باختراق في تطوير العلاقات مع بكين. وفي 1972/2/04 أجرى نيكسون لقاء مع مستشاره آنذاك لشؤون الأمن القومي كيسنجر، بغية بحث زيارته "نيكسون" المرتقبة إلى الصين. وقال كيسنجر للرئيس نيكسون خلال هذا اللقاء إن "الصينيين خطيرون مثل الروس على حد سواء، وحتى إنهم في المنظور التاريخي أكثر خطورة من الروس"، وأضاف مخاطبا الرئيس نيكسون أنه بعد 20 سنة فإن "الرئيس الأمريكي القادم، إذا كان حكيما مثلكم، سيعتمد على الروس في سياسته ضد الصينيين").

 

3- وبهذا يمكن فهم العقوبات الأمريكية الأخيرة ضد روسيا، بل والضغط الأمريكي المتواصل منذ فترة على روسيا، وهذا الضغط الذي ينخرط به معظم أعضاء الحزب الجمهوري في الكونغرس، أي حزب الرئيس القادم قريباً ترامب، بالإضافة إلى الحزب الديمقراطي، هذا الضغط هو سياسة أمريكية جديدة ضد روسيا، بهدف جرها للتحالف مع الولايات المتحدة ضد الصين، وكأن أمريكا تقول، وهو أيضاً ما يصرح به الروس جهاراً نهاراً، بأن إدارة أوباما قد هدمت العلاقات الأمريكية الروسية وأوصلتها إلى القاع، ولكن روسيا تمتلك فرصة ذهبية بقدوم الرئيس ترامب لإصلاح علاقاتها مع واشنطن! أي أن مؤسسات الحكم الثابتة في أمريكا تتعمد استخدام ما تبقى من إدارة أوباما لتسريع تأزيم الموقف مع روسيا، حتى لا يكون لروسيا طوق للنجاة والأمل إلا بالتفاهم مع إدارة ترامب القادمة، تلك الإدارة التي تؤمن بالصفقات، أي أن إصلاح العلاقات مع روسيا لا يكون إلا بعقد صفقة كبرى معها بخصوص الصين مستثمرةً لتحقيق هذا الأمر ما أشيع حول احترام الرئيس القادم ترامب للرئيس بوتين، وأنهما يمكن أن يتحالفا كأصدقاء ضد الصين.

 

4- وما يرجح ذلك أن الرئيس القادم ترامب قد أخذ يزيد في تأزيم العلاقات الأمريكية مع الصين حتى قبل توليه مهام منصبه، وهو يصرح بأنه سينفذ وعوده الانتخابية بفرض ضرائب كبيرة على البضائع الصينية، وتشجيع الشركات الأمريكية للعودة، وهذا تهديد تجاري كبير للصين، وبادر بالاتصال برئيسة تايوان في سابقة خطيرة تشير إلى أن أمريكا تقلب أوراقها للضغط على الصين، بما في ذلك التهديد بتخلي أمريكا عن سياسة "الصين واحدة"، وهذا تهديد سياسي كبير للصين، لذلك فإن أولى أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة هي علاج صعود الصين، فقد نقلت روسيا اليوم 2016/12/18 عن الواشنطن بوست (أن سلوك الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب يقول إنه يدرس إمكانية إعادة النظر في السياسة الأمريكية حيال الصين. ودعا ترامب إلى إبداء سياسة قاسية إزاء بكين، وذلك عن طريق تصريحاته ومكالماته الهاتفية. وكان الرئيس الأمريكي المنتخب قد أجرى اتصالا هاتفيا مع رئيسة تايوان وذلك للمرة الأولى على مدى عقود. وفي وقت لاحق أعرب ترامب خلال مقابلة مع قناة "فوكس نيوز" الأمريكية عن شكوكه في صواب تمسك واشنطن بمبادئ سياسة "الصين الواحدة"، التي مارستها الولايات المتحدة منذ الزيارة التاريخية للرئيس نيكسون إلى الصين، فيما اتهم ترامب الصين بارتكابها مكائد تجارية).

 

5- أما كيف ستكون صفقة ترامب مع روسيا ضد الصين، فأمريكا لا تخطط بالتأكيد لوضع الاقتصاد الروسي الضعيف في مواجهة الصين، ولا تخطط كذلك في استخدام الثقافة الروسية ضد الصين، فروسيا بلد خالية من أي ثقافة خاصة بها بعد سقوط الاشتراكية فيها، وإنما عين أمريكا مفتوحة على القدرات العسكرية لروسيا، والتي يمكن لأمريكا استثمارها حول الصين، مثل أن تقوم بتكليف روسيا بالمشاركة ضد الأسلحة النووية لكوريا الشمالية، أو المشاركة في تهديد إمدادات الطاقة للصين منها أو من آسيا الوسطى، أو حتى المشاركة في فرض سياسات خاصة بحرية الملاحة في بحر الصين، ومشاركة أمريكا جهودها لإخراج الصين من الجزر... وكل تلك الخيارات ناهيك عن الدفع بروسيا لمواجهة مباشرة مع الصين، كلها تشكل انتحاراً دولياً لروسيا. لكن روسيا يمكن أن تجد نفسها منخرطة في تلك السياسات الأمريكية لقاء احتفاظها الظاهري بصفة الدولة العظمى!! ومن الصعب تصور أن تتمكن روسيا من الإفلات من الضغوط الأمريكية لوضعها بجانبها في مواجهة الصين. فروسيا مريضة بقصر النظر السياسي، وقد أصبح مرضها هذا مزمناً، لذلك لا يمكنها تقدير العواقب، فكما تظهر غير مبالية لردات فعل المسلمين بسبب تدخلها الوحشي في سوريا، وذلك بسبب قصر النظر، فهي ترى المسلمين في شخصيات الملوك والرؤساء الحاليين، فلا ترى فيهم ما يهددها، وهي لا تدرك بأن أمريكا امتنعت عن القيام بنفسها بهذه المهمة في سوريا لأنها تدرك ما هو أبعد من هؤلاء الرؤساء والملوك. لكل ذلك فإن عقوبات أوباما وهذا التأزيم المتعمد هو لحشر روسيا في الزاوية وجرها إلى ترامب"صديقها"! فتصبح الطريق سالكة لصفقة ترامب مع روسيا لإبعادها عن الصين، بل للقيام بأعمال عدوانية ضد الصين، هذا هو السبب الراجح لذلك التأزيم الذي تعمده أوباما في آخر ولايته لتهيئة المسالك إلى ترامب لتحقيق هدف السياسة الأمريكية المذكور الذي وضعته المؤسسات الأمريكية للعهد الجديد كما تدل عليه المؤشرات... فالسياسة الأمريكية تقررها مؤسسات وينفذها الرؤساء مهما كان حزب الرئيس.

 

6- وأما الصين، فهي تدرك الخطر المحدق بها، لذلك تقوم بإغراء روسيا بالاستثمارات وإن بحذر، وتقوم بمناورات عسكرية مشتركة معها، وتقوم بالتصويت معها في مجلس الأمن فيما يتعلق بالفيتو الخاص بسوريا، كل ذلك لمنع استخدام واشنطن لها ضدها. لكن النظرة العدائية لروسيا في أذهان الساسة الصينيين تكاد تكون مستحكمة، غير أن لغة المصالح الجديدة التي يفرضها الاقتصاد الصيني المتعاظم، وحاجته الماسة للمواد الخام وموارد الطاقة المتوفر كلاهما في روسيا، تدفع بتلك النظرة العدائية للاختباء خلف ستار.

 

وكذلك تدرك الصين عدوانية أمريكا تجاهها وليس من المستبعد أن يكون ما حدث لأوباما عند زيارته الأخيرة للصين من إهانة هو من مؤشرات ذلك (في آخر زيارة له إلى الصين كرئيس للولايات المتحدة، وجد الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه مضطرا لاستخدام سلم الطوارئ في مؤخرة الطائرة التي أقلته إلى مطار خوانجو لحضور قمة العشرين، ليس ذلك بسبب حريق أو عطل فني، بل لأن السلطات الصينية لم توفر له سلما خاصا للخروج من مقدمة الطائرة بشكل اعتيادي. ويرى مراقبون تعمد الصين إهانة الرئيس الأمريكي وأن ذلك يعكس حجم التوتر في العلاقات بين البلدين اللذين يختلفان في العديد من الملفات والقضايا، وفي مقدمتها إعلان الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية نشر درع صاروخية على أراضي الأخيرة، كذلك الموقف الأمريكي من النزاع القائم بين الصين والفلبين في بحر جنوب الصين، وقرار واشنطن الأخير بفرض مزيد من الرسوم على واردات الصلب الصينية...) (الجزيرة، 2016/09/05).

 

7- ومن مفارقات الزمن أن مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأمريكي السابق كيسنجر هو اليوم بشخصه رغم كبر سنه عراب المصالحة الروسية مع الرئيس القادم ترامب، وهو نفسه من يقوم بزيارات لموسكو ولقاءات مع بوتين دافعاً في هذا الاتجاه، أي اتجاه التحالف مع روسيا ضد الصين. وروسيا تصفق لذلك ظناً منها أن كيسنجر مهتم بمصالحها! فقد (ذكر دميتري بيسكوف، المتحدث الصحفي للرئاسة الروسية، أن موسكو ترحب بمشاركة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر في إعادة العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية. وقال بيسكوف في تصريحات صحفية اليوم الثلاثاء إن كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، هو واحد من أكثر السياسيين حكمة وذكاء وخبرة ولديه خبرة عميقة في الشئون الروسية، وعلى صعيد العلاقات الأمريكية الروسية"...) (موقع شبكة الإعلام العربية، 2016/12/27).

 

وهذا التوجه هو ما تشير إليه أيضاً بعض المصادر المطلعة في أوروبا، فقد نقلت روسيا اليوم 2016/12/28 ما يلي: (كتبت صحيفة "بيلد" الألمانية أن كيسنجر يرى تحسين العلاقات مع روسيا ضروريا نظرا إلى ازدياد قوة الصين. وبما أن وزير الخارجية الأمريكي مفاوض من ذوي الخبرة، وأنه التقى شخصيا الرئيس بوتين، فإنه سوف يكون الوسيط في تطبيع العلاقات بين البلدين. وتقول الصحيفة الألمانية إن ترامب يسعى لرفع العقوبات عن روسيا "بناء على نصيحة هنري كيسنجر"، ويشير إلى ذلك أيضا "التحليل الذي أُجري بطلب من الأجهزة الأوروبية المختصة"، والذي اعتمد على المعطيات التي تم الحصول عليها من الفريق الانتقالي للرئيس ترامب...).

 

وكل ذلك يشير بأن أمريكا تقوم بتنفيذ سياسة فعلية على الجانبين الروسي والصيني عمادها الرئيسي الدفع بروسيا لخدمتها على المسرح الصيني، وقد بدأتها إدارة أوباما بتدشين مرحلة ضغط على روسيا، وتخطط لأن يكون الرئيس القادم ترامب هو من يعقد صفقتها، ولا تظهر أمريكا أي شكوك حول وجوب استجابة روسيا للضغوط الأمريكية والاندفاع معها ضد الصين.

 

رابعاً: وهكذا تتصارع الدول الكبرى وحتى غير الكبرى في تحقيق مصالحها مع التفاوت في ذلك وفق تفاوت النفوذ بين تلك الدول، والقاسم المشترك بينها هو هذا الشقاء والشر الماثل للعيان في العالم...

 

والمؤلم أن ليس للإسلام دولة تمسك بزمام الأمور وتعيد هذا العالم إلى صوابه وتنشر الخير في ربوعه، ليس في بلاد الإسلام فحسب، بل كذلك في أكناف بلاد الإسلام، ومع ذلك فإن للإسلام رجالاً ﴿صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ وسيعيدون بإذن الله دولة الإسلام، الخلافة الراشدة التي تدفع التوازن في العالم إلى الخير ﴿إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾.

 

 

السابع من ربيع الثاني 1438هـ

2017/01/05م

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع