- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
جواب سؤال: اجتماع في منتجع دوفيل بفرنسا بمشاركة فرنسا، ألمانيا وروسيا
السؤال:
في الأسبوع الماضي، وبالتحديد في 18 و 19/10/2010 عقدت في منتجع دوفيل بفرنسا قمة ثلاثية بدعوة من رئيسها ساركوزي شارك فيها بجانب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الروسي ديمتري مدفيديف، فهل هذه القمة بادرة تكوين محور جديد بين فرنسا وألمانيا وروسيا؟ وإن كان، فما الغرض منه؟ وما هي أهميته في الواقع الدولي الحالي؟ أم هو اجتماع عادي كأي اجتماع بين الدول لتقاسم بعض المصالح؟
الجواب:
1- لقد دعا ساركوزي لهذه القمة وسط ظروف محلية ودولية:
أما المحلية فهي ما تشهده فرنسا من اضطرابات تعصف بها على أثر صدور قانون ما يسمى بإصلاح نظام التقاعد...
وأما الظروف الدولية، فإنها الأهم، حيث تتجلى في مؤتمر لشبونة القادم في 19/11/2010 الذي سيناقش موضوع الدرع الصاروخي والسلاح النووي، وكذلك قمة العشرين التي ستعقد في 11 و 12/11/2010 بكوريا الجنوبية والتي ستناقش الوضع المالي العالمي الذي ينادي ساركوزي لإصلاحه بإيجاد نظام نقد عالمي جديد، بالإضافة إلى أن فرنسا تهيئ نفسها لتسلم رئاسة قمة العشرين لمدة سنة بعد انعقادها في هذا التاريخ.
2- إن أهمية هذه القمة تكمن في كونها ذات علاقة بالموقف الدولي، فهي متعلقة بموقف هذه الدول الكبرى ببعضها البعض وبالدولة الأولى في العالم وهي أمريكا. ومع أن ألمانيا ليست في الواقع الدولي دولة كبرى، إلا أن صفات الدولة الكبرى تكمن فيها، فضلاً عن أنها دولة كبرى في داخل الاتحاد الأوروبي.
وقد ظهر كأنَّ ساركوزي يعمل لإحياء محور فرنسا ـ ألمانيا ـ روسيا الذي كان حيا قبيل مجيئه وزميليه ميركل ومدفيديف إلى سدة الحكم في دولهم تلك. وميركل ومدفيديف لهما مصلحة في هذا التقارب أيضا فتجاوبا مع زميلهما ساركوزي. فالثلاثة كانت لهم رغبة في هذه القمة ويرجون تحقيق مصالح لهم؛ فقد نقلت وكالة الأنباء الفرنسية (أ.ف.ب) في 18/10/2010 عن "مصادر الوفد الألماني إن من أبرز أهداف ميركل التي تقف وراء هذه القمة هو ملف الأمن الأوروبي إضافة إلى النظر بجدية في ربط الاقتصاد الروسي بالآلة الاقتصادية الأوروبية". ونقلت عن "مصادر الوفد الروسي أنها لا ترى في القمة إلا إيجابية التعامل معنا كقوة أوروبية التي يمكن أن تكون مفيدة لأوروبا وللعالم". وأضافت هذه الوكالة الفرنسية إلى خبرها قائلة: "فرنسا لديها رادع نووي صغير وهي تتخوف من أن تدفع الثمن في حالة اتفاق أطلسي روسي على نزع النووي في أوروبا، وبخاصة وأن بريطانيا بدأت تتخلى عن ترسانتها النووية وذلك بعدم تجديدها، كما أن برلين ترى في الدرع الصاروخي خطوة إيجابية". وقد أضافت الوكالة الفرنسية أن الزعماء الثلاثة "اتفقوا على العمل من أجل إقامة شراكة جديدة". وعبروا عن "ارتياحهم للمحادثات الصادقة والمنفتحة وحسن النية حتى بشأن المواضيع الخلافية بينهم". مما يدل على أن لهذه الدول الثلاث مصالح تريد كل منها أن تحققها بإقامة شراكة بينها.
3- وهذه المصالح على النحو التالي:
ففرنسا ترى أن سلاحها النووي مستهدف، وأن عليها ضغوطات أمريكية كما حصل في مؤتمر الأمن النووي الذي عقد في واشنطن بتاريخ 12 و 13/4/2010 حيث دعا الرئيس الأمريكي أوباما في المؤتمر إلى تخلي أوروبا (وفرنسا بالذات) عن السلاح النووي، والاكتفاء بمنظومة الدرع الصاروخي بدلا منه، لكن فرنسا رفضت الدعوة إلى التخلي عن سلاحها النووي. لقد قال حينئذ رئيسها ساركوزي: "إن فرنسا لن تتخلى يوما عن هذا السلاح إلا إذا تأكدت أن العالم بات مستقرا وآمنا" (13/4/2010 تلفزيون سي بي إس الأمريكي) ، فترى فرنسا أنها مقصودة من ذلك ولا تريد أن تتخلى عن سلاحها النووي الذي تعتبره مصدر قوة وعظمة لها. ووضَّح ساركوزي هذا الأمر بالقول: "إن هذه المنظومة (منظومة الدرع الصاروخي) لا يمكن إلا أن تكون مكملة للردع النووي الذي ليس لدى فرنسا النية بالتخلي عنه" (أ.ف.ب 19/10/2010). إن فرنسا تريد أن تتقوى بألمانيا وروسيا لتقف معها في مؤتمر لشبونة القادم، ولكي تتبنى رأيها في المؤتمر في مواجهة أمريكا وتحول دون اتفاق روسي أمريكي على نزع سلاح أوروبا النووي، وأن يقوم مقامه الدرع الصاروخي...
وأما ألمانيا فقد علت أصواتها مؤخرا لتقول إن الدرع الصاروخي مدعو ليحل مكان الردع النووي" وأضافت الوكالة: "إلا أن ميركل حرصت على عدم إغضاب فرنسا عندما قالت إن أي نزع للسلاح نووي لا يمكن أن يتم إلا على أساس مبدأ التبادل". فألمانيا تؤيد نزع السلاح النووي وهي لا تملكه وممنوعة من تملكه، فهي لا تتفق مع فرنسا في هذه النقطة. إلا أن ميركل تريد أن تقوم دول أخرى من اللاتي يملكن سلاحا نوويا بنزعه وليس فرنسا وحدها أو أوروبا وحدها، والمقصود الأول من كلامها روسيا. وقد رأت ألمانيا أن من مصلحتها تعاون روسيا مع الناتو لإبعاد خطرها فقالت ميركل: "إنه لخبر سار أن يوافق ديمتري مدفيديف على المشاركة في قمة الناتو".
وأما روسيا فإن موقفها من منظومة درع الصواريخ هو أنها ليست بعيدة عن القبول بذلك إذا ما قدمت لها أمريكا إغراءات وطمأنتها بأنها لا تستهدفها. فقد ذكر مدفيديف على أثر هذه القمة الثلاثية: "إن روسيا لم تتخذ بعد قرارا بانضمامها إلى منظومة الدرع الصاروخية الأوروبية الموحدة" وقال: "ندرس الآن هذه الفكرة لكني أظن أن الناتو ذاته يجب أن يشكل صورة واضحة حول مشاركة روسيا في هذه المنظومة ويدرك ما هي نتيجة الانضمام والاتفاقيات التي يمكن أن تعقد في هذا السياق ومستقبل تعاوننا" وذكر أن العلاقات بين روسيا والناتو قد بحثت في قمة دوفيل وقال: "أود أنني سأحضر إلى لشبونة لأشارك في قمة روسيا ـ الناتو التي ستعقد في 20 نوفمبر. ويبدو لي أن هذا الأمر سيساعد في إيجاد حلول وسط وتطوير الحوار بين روسيا والناتو بشكل عام". (روسيا اليوم 19/10/2010).
لقد أومأ الرئيس الروسي إلى تشككه في الدرع الصاروخي، وأنه يريد أن يفهم ماذا يراد من هذا الدرع الصاروخي وما هو برنامجه وما هي الضمانات لروسيا وماذا سيقدم لروسيا مقابل ذلك؟ ومع ذلك فإن روسيا حاليا لا تريد أن تقف في وجه أمريكا كما حصل في زمن ذاك المحور سابقا، بل تعمل على التقارب من أمريكا حتى تعيد الاعتبار لها كقوة عظمى تعمل على إدارة شؤون العالم بجانب أمريكا. فهي تتملق أمريكا في أحيان وتغازلها في أحيان أخرى حتى تعطيها ذاك الاعتبار وتشركها في إدارة شؤون العالم كما كان على عهد الاتحاد السوفياتي المنهار. وهي تعرف أن فرنسا ساركوزي وألمانيا ميركل غير قادرتين على الوقوف في وجه أمريكا، وبذلك ترى أنها سوف لا تستفيد كثيرا من تشكيل جبهة معهما في وجه أمريكا. وهي تعلم أنهما غير صادقتين معها فهما تعملان على استغلالها واستخدامها.
5- ليس من المتوقع أن تنجح فرنسا في إحياء محور فرنسا ـ ألمانيا ـ روسيا لاختلاف الأهداف والغايات:
فروسيا لم تتجاوب بالكامل مع فرنسا التي هي وألمانيا لم تلبيا طلبات روسيا على وجه يرضي الأخيرة، فقد ظهرت مماطلتهما، وتجلت هذه المماطلة في موضوع تأشيرة الدخول للرعايا الروس إلى أوروبا. ففرنسا تريد أن تستغل روسيا بجلبها بجانبها للوقوف في وجه أمريكا في موضوع السلاح النووي حيث تملك روسيا ترسانة نووية كبيرة ولا تفكر في التخلي عنها، وموضوع الدرع الصاروخي يهم روسيا لأنه يتعلق بها، وهو منصوب في وجهها.
وأما فرنسا فقد أراد ساركوزي أن يجد مناصرين لفكرته بالدعوة لإصلاح نظام النقد العالمي الذي تتحكم به أمريكا. والذي يعني إعادة النظر في اتفاقية بريتون وودز التي عقدت عام 1944 والتي مكنت أمريكا من التحكم في اقتصاد العالم عن طريق المؤسسات المالية العالمية التي أنشئت على أثر هذه الاتفاقية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وكذلك جعل الدولار عملة عالمية ومقياسا للذهب ولعملات الدول. ودعوة ساركوزي هي مستمرة منذ وصول الأزمة المالية العالمية إلى أوجها عام 2008 ولكن لم تقدر فرنسا أن تحققها لوقوف أمريكا في وجهها ولعجز فرنسا على أن تجمع دول العالم خلفها لتحقيق ذلك.
وفرنسا تعمل على أن تتقوى بألمانيا وروسيا للوقوف في وجه أمريكا في موضوع السلاح النووي والدرع الصاروخي وكذلك في موضوع إصلاح نظام النقد العالمي. غير أن هذا ليس سهلا تحقيقه لوجود مصالح لروسيا مع أمريكا، ولأن ألمانيا ليست دولة نووية، فضلا عن أنها لا تجرؤ على أن تقطع علاقاتها بالمؤسسات الاقتصادية الدولية التي أنشأتها أمريكا.
كما أن ساركوزي أراد داخليا أن يعزز موقفه أمام شعبه والقوى السياسية الداخلية حتى يمضي قدما في إقرار قانون إصلاح نظام التقاعد الذي أقره البرلمان الفرنسي هذا اليوم 28-10-2010 بعد أن اعتمده مجلس الشيوخ أول أمس 26-10-2010 رغم الاضطرابات التي تعصف ببلاده وذلك بإظهار نفسه أنه يقوم بأعمال كبيرة لفرنسا وأنه يكسب ألمانيا وروسيا بجانبه وأنه يواجه مخاطر تواجهها فرنسا ويريد أن ينقذ فرنسا منها، وألمانيا وروسيا تدركان ذلك، وتدركان أن فرنسا تريد أن تتكئ على اجتماعِها معهما لحل مشاكلها الداخلية.
وأما الألمان فإنهم يريدون أن يستمروا في إرسال شركاتهم إلى روسيا لتقوم بالاستثمار والاستغلال فيها، بل يريدون أن تفتح لهم أبواب روسيا على مصراعيها ليفعلوا ما يشاءون دون أن يحصل الروس بالمقابل على مثل ذلك. وكذلك يريدون أن يبيعوا بضاعتهم لها فتفتح أسواق روسيا على مصراعيها لهم دون مجيء الروس إلى أوروبا حتى لا يستفيد الروس من الخبرات الغربية ولا يقوموا بالاستثمار داخل أوروبا، فتبقى أبواب أوروبا مغلقة في وجوههم. فمنذ انهيار الاتحاد السوفياتي حتى اليوم لا يستطيع الروس أن يأتوا بسهولة إلى أوروبا حيث تضع في وجوههم العراقيل ولا يحصلون على تأشيرات دخول بسهولة من السفارات الأوروبية في موسكو. والشركات الأوروبية هي التي تذهب وتستثمر هناك وتصدر البضائع إلى هناك. وأما التجار الروس العاديون فيحصلون على البضائع الأوروبية مثل السيارات عن طريق جمهوريات البلطيق مثل لتوانيا ولاتفيا حيث يصلون إلى هناك ولا يقدرون أن يتعدوها إلى داخل أوروبا لأن رعايا هذه الجمهوريات المحاذية لروسيا يصلون إلى قلب أوروبا وخاصة إلى ألمانيا وينقلون البضائع للروس بسبب أن دولهم داخلة في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2004. وقبل هذا التاريخ كانت هناك تسهيلات كبيرة لرعايا هذه الجمهوريات منذ انفصالها عن الاتحاد السوفياتي بهدف ضم تلك الدول إلى الاتحاد وقد تحقق ذلك.
وعليه، فان هذه (الصراعات) السياسية والاقتصادية بين فرنسا وألمانيا وروسيا، تجعل هناك صعوبة في إنشاء هذا المحور.
6- ولذلك فإن ألمانيا وفرنسا قد عقدتا إلى جانب هذه القمة الثلاثية قمة فرنسية ألمانية موازية للقمة الثلاثية، ودرستا مصالحهما المشتركة... وقد صدر بيان فرنسي ألماني مشترك طلبا فيه إعادة النظر في معاهدة لشبونة من الآن حتى عام 2013 وطلبا وضع "آلية دائمة لتوفير معالجةٍ منظمةٍ للازمات في المستقبل، والسماح في حالة حصول انتهاك خطير للمبادئ الأساسية للاتحاد الاقتصادي والنقدي... بتعليق حقوق تصويت الدول المعنية". ففرنسا وألمانيا تتبنيان الاتحاد الأوروبي وتريدان أن تحافظا عليه بكل ما أوتيا من قوة، وتريدان أن تعززا الاتحاد بالانفتاح الاقتصادي على روسيا، ولكن دون دمج روسيا اقتصاديا مع الاتحاد الأوروبي. ولذلك كان رأي فرنسا وألمانيا نحو تأشيرات دخول الروس للاتحاد الأوروبي، هذا الرأي ظل مماطلا لإلغاء التأشيرات على الرغم من طلب مدفيديف إلغاء التأشيرات مرارا وتكرارا، وكان رد ميركل بالقول: "نعلم أن موضوع التأشيرات موضوع مهم بالنسبة لروسيا، ويجب التقدم خطوة خطوة، لأن ذلك لا يتم دفعة واحدة". وأما ساركوزي فأجاب قائلا: "إن التأشيرات موضوع مهم بالنسبة لأصدقائنا الروس، إذن سنتحدث بشأنه" وأضاف "لقد أخذنا بالاعتبار طلب الرئيس مدفيديف الذي التزم بنفسه بمواضيع أخرى" مشيرا إلى موضوع الطاقة وقال "لا يوجد مشكلة، ونحاول أن نتفاهم، والمهم أن نحرز تقدما".
7- والخلاصة أن قمة دوفيل قد عقدتها هذه الدول الثلاث، وكل منها تهدف تحقيق مصالح معينة، بعضها خاص، وبعضها عام تشترك فيه هذه الدول الثلاث، ومع أنه من غير المتوقع أن يترتب على هذا الاجتماع تشكيل محور جديد فاعل إلا أن مجرد عقدها هو خطوة مؤثرة دولياً، فمنذ سنوات لم تستطع الدول الأوروبية أن تجتمع بمعزل عن أمريكا لتشكيل محور بينها حتى لو كان نظريا.