قيام حزب التحرير
- نشر في سياسية
- قيم الموضوع
- قراءة: 624 مرات
عن مالك بن دينار، قال: " كنت أطوف حول البيت فإذا أنا برجل يطوف شاخصا بصره إلى السماء وهو يقول: يا مقيل العاثرين، أقلني عثرتي ، واغفر لي ذنبي، فلما فرغ من أسبوعه تبعته، فقلت: علمني رحمك الله مما علمك الله، فقال لي: هل تعرف مالك بن دينار ؟ قلت: نعم، أوصني إلى مالك بما أحببت حتى أبلغه عنك، قال: أقرئه السلام، وقل له: اتق الله، وإياك والتغيير والتبديل، فإنك إن غيرت هنت على رب العالمين، ثم قال له: اتق الله، وعليك بالصبر، والتجزي من الدنيا بالبلاغ، وأن يكف غضبه، ويكظم غيظه، ويتجرع المرار، وأعلمه أن لله غدا مقاما يأخذ منه للجماء من القرناء ، ثم قل له يحاسب نفسه، ويتق الله ربه، قل له: إن الجنة طيبة، طيب ريحها، عذب ماؤها، لذيذ شرابها، كثير أزواجها، لا كدر فيها ولا تنغيص، ثم قل له: إن النار منتن ريحها، خبيث شرابها، بعيد قعرها، أليم عذابها، أعدها لأهل الكبر والخيلاء "
كتاب الأولياء لابن أبي الدنيا
الحمد لله حمد الشاكرين, والعاقبة للمـتقين, ولا عدوان إلا على الظـالمين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, وعلى آله وصحبـه الطـيبين الطـاهـرين, ومن اهــتـدى بـهديـه, واستن بسنــته, وسار على دربـه, ودعا بـدعوتـه إلى يوم الدين , واجعلنـا معهم, واحشرنـا في زمرتـهم, بـرحمتـك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: قال الله تعالى في محكم كتابه, وهو أصدق القائلين: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود * وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}الحج 26و27.
إخوة الإسلام: عندما أراد الله سبحانه وتعالى للبيت العتيق أن يبنى, وترفع قواعده, وأراد لأرض الحرم أن تكون مهوى أفئدة الناس, أمر نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام أن يسكن ابنه إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر, مكة المكرمة.
وعندما ولى إبراهيم ظهره وأراد أن يغادر المكان, ويتركهما في هذا المكان, قامت إليه هاجر وتعلقت بثيابه وقالت: (( يا إبراهيم, أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه ضرع, ولا زرع, ولا أنيس ولا زاد ولا ماء؟))
قالت له ذلك مرارا وتكرارا, وجعل إبراهيم لا يلتفت إليها حتى قالت له: (( آلله أمرك بهذا؟)) قال: (( نعم )) قالت: (( إذن لا يضيعنا!)) ثم رجعت, وانطلق إبراهيم والألم يعتصر قلبه, حتى إذا كان عند الثنية, بحيث لا يرونه استقبل البيت بوجهه, ثم دعا بهذا الدعاء الذي ذكره الله تعالى في كتابه فقال: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}إبراهيم37.
أيها المؤمنون: وهكذا استجاب رب العالمين لنداء إبراهيم عليه السلام فجعل مكة مهوى أفئدة الناس تحن إليها, وتحن إلى زيارة بيت الله الحرام.
إخوة الإيمان: انظروا لأنفسكم, ألا يتمنى كل واحد منكم أن يزور بيت الله الحرام؟ ألا يعتصر قلب أحدكم ألما عندما يرى الحجيج يلبون نداء الله تعالى, وهو في بيته ينظر إليهم؟ ألا يتمنى أحدكم لو أنه معهم يلبي فيقول: (( لبيك اللهم لبيك, لبيك لك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك؟!)) ألا يتمنى أحدكم لو أن هذه الحواجز التي تمزق بلاد المسلمين, وتفرق شملهم تزول من أمامه, ويكون باستطاعته أن يزور بيت الله الحرام كلما اشتاق إليه؟ أجل, ليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف بها.
وهذه هي مكة المكرمة التي لم يكن فيها زرع ولا ضرع ولا بشر ولا شجر, يأتيها رزقها من كل مكان استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام, فأصبحت قديمـا تغشاها القوافل التجارية صيفـا وشتاء كما أخبر بذلك رب العالمين حيث قال جل من قائل: {لإيلاف قريش* إيلافهم رحلة الشتاء والصيف* فليعبدوا رب هذا البيت* الذي أطعمهم من جوع وءآمنهم من خوف }
ولما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له: ((وأذن في الناس بالحج)). فقال: ((يا رب, وما يبلغ صوتي؟)) فقال له المولى سبحانه: ((عليك الأذان, وعلينا البلاغ!)). فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح بأعلى صوته:))أيها الناس, إن الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجوا)).
فخفضت الجبال رؤوسها, ورفعت له القرى, فأجابه من كان في أصلاب الرجال, وأرحام النساء, وأجابه كل شيء: ((لبيك اللهم لبيك)). فلم يسمعه يومئذ من إنس ولا جن, ولا شجر ولا حجر, ولا جبل ولا ماء ولا شيء إلا قال: ((لبيك اللهم لبيك)) واستجاب لنداء إبراهيم عليه السلام.
أيها المؤمنون: فرض الله علينا معشر المسلمين الحج إلى بيت الله الحرام, وجعله ركنـا من أركان الإسلام الخمسة التي لا يقوم الإسلام إلا عليها. والحج عدا عن كونه اجتماعـا جامعا يعبر عن وحدة العقيدة والفكر, ويعبر عن وحدة المشاعر والأهداف, ووحدة الآلام والآمال فيه دروس وعبر كثيرة, يجدر بنا أن نتعرف عليها لنرى حكمة المولى سبحانه وتعالى في فرضه هذا الحج على المسلمين:
فالحج أيها الإخوة المؤمنين يعني الإقلاع عن كل محرم حرمه الله, وهو عهد مع الله تعالى أن لا يفرط الحاج بفرض فرضه الله تعالى عليه.
والحج يذكر الحاج عند لباسه ملابس الإحرام بكفن الموت ولباس الموت. وكفى بالموت واعظـا, ومن لم يتعظ بالموت فلا واعظ له.
والحج يذكرنا بما عاناه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لأجل هذا الدين
- فهنا عذب بلال بن رباح رضي الله عنه وقد كان مولا ورقيقا, ولم يكن مثـلنا حرا, فصبر واحتمل!
- وهنا قتلت سمية أم عمار صابرة محتسبة أمرها لله, لتكون أول شهيدة في الإسلام, ليس من النساء فقط, بل من النساء والرجال أيضـا وكانت كبلال جارية وليست حرة!
- وهنا عذب خباب بن الأرت رضي الله عنه وغيره من صحابة رسول الله صلى الله عليهم وسلم!
- وهنا وقعت غزوة بدر الكبرى أول معركة في الإسلام, وهنا وقعت غزوة أحد التي هزم في نهايتها المسلمون لمخالفتهم أمرا واحدا من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكيف بكم معشر المسلمين تريدون نصرا وأنتم قد تركتم ما جاء به نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام, وحكمتم بغير ما أنزل الله رب العالمين؟
والحاج عندما ينظر للكعبة, وتدخل هيبتها في قلبه يتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وقف مخاطبـا الكعبة قائلا : (ما أطيبك وأطيب ريحك! ما أعظمك وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده, لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك: ماله ودمه, وأن لا نظن به إلا خيرا).
يتذكر الحاج هذا الحديث النبوي الشريف ويقارن ذلك بما يراه اليوم من هوان المسلمين, وقتـل اليهود والأمريكان للمسلمين في كل مكان: في فلسطين والعراق وأفغانستان وكشمير وغيرها من على أرض المسلمين حيث تفتح لهم المطارات والمعسكرات لضرب أبناء المسلمين!
والحاج عندما ينظر للكعبة, ويتذكر كيف كانت محاطة بالأصنام, وكيف عمل الرسول صلولات الله وسلامه عليه على تحطيم تلك الأصنام لتطهير بيت الله الحرام من جميع الأدناس والأرجاس.
• يتذكر الحاج ذلك وهو يتفكر في الأصنام البشرية التي نصبت نفسها آلهة من دون الله, تشرع ما تشاء, وتسن أحكاما وقوانين كما تريد, كلها تخالف شرع الله, وما نزل على رسوله صلى الله عليه وسلم الذي حطم هذه الأصنام وهو يتلو قول الله تبارك وتعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقــا}.
والحج يذكر الحاج بقول نبيه صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان). ليقارن ذلك بما يراه اليوم من عسكرة الكفار في جزيرة العرب لضرب المسلمين في كل مكان! هذا الحديث النبوي الشريف هو الذي دفع الخليفة الثاني للمسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أن يخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب.
والحج يذكر الحاج فيما يذكره بيوم الحج الأكبر الذي نزلت فيه سورة براءة التي أعلنت فيها براءة الله ورسوله من المشركين, وأعلن فيها نبذ العهود والمعاهدات التي كانت معقودة معهم, وإنذارهم مدة أربعة أشهر كما قال سبحانه وتعالى: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله* فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم}. عن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ببراءة لأهل مكة: (لا يحج بعد هذا العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان, ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة فأجله إلى مدته, والله بريء من المشركين ورسولـه). قال فسار بها ثلاثــا ثم قال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: (الحقه فرد علي أبا بكر وبلغها أنت)
• والحج يذكر بقوة الله تعالى وقدرته كيف حول سبحانه مكة من أرض جرداء لا ماء فيها ولا زرع حتى أصبحت محط أنظار الناس ومهوى أفئدتهم, ومن أغنى بلدان العالم يأتيها رزقها من كل مكان, وكأن الآيات تتنزل الآن تذكر أهل مكة بأن لا يخافوا على أنفسهم عيلة ولا فقرا فقد كانت مكة آمنة في حين كان الناس حولها لا يعرفون الأمان, وكان أهلها شبعى وغيرهم يتضور جوعـا قبل الإسلام! وكيف يخافون على أنفسهم ورزقهم وقد أمنهم الله وهم على كفرهم, وما ذاك إلا لأنهم من سكان بيت الله الحرام! قال الله تعالى معاتبـا كفار قريش عندما رفضوا اتـباع الهدى خوفـا من أن يتخطفهم الناس: {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون }القصص57 . ويقول سبحانه:{ أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنـا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفر}.
أيها المؤمنون:
يمن الله في هذه الآية الكريمة على قريش أن أنعم عليهم بنعمة الأمن فيما أحلهم من حرمه الذي جعله للناس سواء, من دخله كان آمنـا, وهاهم الأعراب من حولهم ينهب بعضهم بعضا, ويقتل بعضهم بعضا, فأرض الحرم, وأرض الجزيرة العربية هي أمن وأمان للمسلمين, وحرام على الكفار من كل دين, كما نطق الصادق الأمين محمد صلى الله عليه وسلم, واستجابة لنداء إبراهيم عليه السلام , فقد فرض الله علينا معشر المسلمين الحج, قال تعالى:{فيه آيات بيـنات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} آل عمران97.
وقد جعل المولى سبحانه وتعالى الحج من الأركان الخمسة التي يقوم عليها الإسلام, وجعله من أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد, فقد ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: (إيمان بالله ورسوله), قيل: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله), قيل: ثم أي؟ قال: (حج مبرور).
كذلك بين أخوة الإيمان, دين الإسلام, أن الحج يمحو الذنوب والآثام فقد ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه). وقد حذر الإسلام من عدم أداء فريضة الحج للمقتدر, وجعله معصية من أكبر المعاصي, فقد ورد عند الدارمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يمنعه عن الحج حاجة ظاهرة, أو سلطان جائر, أو مرض حابس, ولم يحج, فليمت إن شاء يهوديـا أو نصرانيـا).
• وختامـا نذكـر حجاج بيت الله الحرام بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الحج أفضل؟ فقال: (العج والثج), فأما العج فهو رفع الصوت بالتلبية, وأما الثج فهو إسالة دم الهدي, فالعج يعني فيما يعنيه براءة الحاج من الشرك, والثج يعني فيما يعنيه موالاة الحاج للمؤمنين, فالحج إكمال للدين, ونحر لكل إثم قديم واستعداد للتضحية من أجل هذا الدين العظيم.
أيها المؤمنون: يستذكر الحاج هذه الدروس والعبر وهو يعلم علم اليقين, وليعلم المسلمون من حوله في شتى بقاع العالم أنه لا خلاص لأمة الإسلام مما تعانيه من قتل للنساء والأطفال والشيوخ, وتدمير للممتلكات والطاقات, واحتلال وتدنيس للأراضي والمقدسات, وتمزيق لأواصر الأخوة بين المؤمنين, وتضييق على المسلمين في أرزاقهم ومعيشتهم, وأهم من ذلك تعطيل شرع الله وتعطيل الحكم بما أنزل الله, وتعطيل الجهاد في سبيل الله, لا خلاص لأمة الإسلام من هذه الأمور إلا بإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة التي بشرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي يعد من دلائل صدق نبوته صلوات ربي وسلامه عليه والذي تحققت أربعة أخماسه, وما بقي إلا الخـمس الأخير.
فقد روى الإمام أحمد في مسنـده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تكون النـبوة فيكـم ما شـاء الله أن تكون، ثم يرفـعها الله إذا شاء أن يرفـعها, ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النـبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون, ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها, ثم تكون مـلكا عاضا, تكون ما شاء الله أن تكون, ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها, ثم تكون ملكا جبريا , فتكون ما شاء الله أن تكون, ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها, ثم تكون خلافة على منهاج النـبوة, ثم سكـت).
هذا الحديث يعـد من دلائل النـبوة, فهـو إخبار عن غيب , وقد تـحقـق معظـم ما ذكر فيه من النـبوة والخلافة الراشدة, والملك العاض والملك الجبري, وبقي أن يتحقـق جزؤه الأخير, وهو عودة الخلافـة الراشدة من جديد, وقد وصفها الحديث بأنـها ستكون على منهاج النــبوة, سائرة على هديـها.
إخوة الإيمان والإسلام : ادعوا الله وأنتـم موقـنـون بالإجابة: اللهم ألــف بين قــلوب عبادك المؤمنين, واجمع على الحق كــلمة المسلمين. اللهم وحـد صـفـوفـهم, وانزع الغـل والحسد والبغضاء من قــلـوبـهم. اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشد, يعز فيه أهل طاعتك, ويذل فيه أهل معصيتك, ويؤمر فيه بالمعروف, وينهى فيه عن المنكـر, وتقوم فيه دولة الإسلام , دولة الخلافة ,التي تـحكـم بالقرآن , وبسنة النـبي عليه الصلاة والسلام, وتـحكـمهما في كــل شأن من شـؤون الحياة. اللهم اعتـق رقـابنا, ورقـاب آبائـنا وأمهاتنـا وأزواجـنا وذرياتـنـا من النـار برحمتك يا عزيز يا غفـار.
اللهم أقـر أعينـنـا بـقيام دولة الخلافـة, واجعلــنـا من جـنـودها الأوفـياء المخلصين.
والسلام عليكـم ورحمة الله وبركاته.
خليل حرب - أبي إياس
لقراءة النص أنقر هنا
هناك مشهد لطيف ورائع تشرأب له أعناق الصغار والكبار، وتشد إليه أنظارهم بشيء من السرور والبهجة تصاحبهما صيحات معبّرة عن الدهشة والاستغراب، لتعجبهم مما يرون. ذلك بأن المشهد غير مألوف، وأبطاله ليسوا من البشر، وإنما من الكائنات غير العاقلة، تقوم بأعمال وحركات عجيبة وغريبة ليست في العادة من أعمالها وحركاتها. كالعزف على الآلات الموسيقية مثلا، أو الرقص على أنغام الموسيقى، أو قيادة الدراجات أو أي لعبة أخرى تبهر المشاهد.
وأثناء هذا العرض ومتابعة الأعمال التي تقوم بها تلك الحيوانات المُرَوَضَة تقفز إلى أذهان البعض أسئلة من مثل : كيف لهذا الحيوان غير العاقل أن يعمل هذه الأعمال ويؤدي هذه الأدوار بإتقان..؟ أو كيف له أن يكتسب هذه القدرة على محاكاة أفعال الإنسان..؟ أو كيف له أن يتجاوب مع الإنسان سلبا وإيجابا، ويفهم عنه ما يأمره به..؟ وكيف له أن يدرك كذلك أن جمهور المشاهدين يصفقون له فيقوم بدوره برد التحية عليهم..؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تخامر الذهن أثناء مشاهدة هذه المناظر. وهذا يدل على أن اللوحة الأمامية للمشهد، أي الحيوان وأعماله. هي التي شدت انتباه المتسائل وحجبت عنه من كان وراءها وسببا في تشكيلها. وأخفت عنه المبدع الذي أتقن إخراجها وتقديمها لجمهور المشاهدين. ألا وهو المُرَوِضْ صاحب الخبرة في ترويض الحيوانات الأهلية والوحشية. لأن العروض التي نشاهدها هي في الحقيقة من صنع المروضين وإنجازهم وليست من صنع الحيوانات وإنجازها، وإن كانت هي التي تقوم بأدائها على الوجه المطلوب منها. إذ الحيوان لا يدرك ماذا تعني هذه الأعمال، ولا يفهم مضمونها، ولا يعي ما المقصود منها، أو ما قيمتها في نظر المشاهد. ولا يعلم كذلك أنه مورد رزق لمن يملك رقبته ويستخدمه في مثل هذه العروض الشيقة. فهو (أي الحيوان) يؤدي هذه العروض استجابة لمروضه، أي للإنسان المميّز عنه بالعقل. الذي استطاع به - أي بهذا العقل - أن يكسب المهارة والقدرة على التحكم في هذه الكائنات غير العاقلة. إما بالترويض وإما بالتدجين. ويجعلها خاضعة لسلطانه وتسير وفق إرادته. فصاحب هذه الصنعة، يدرك أن هذه الكائنات لا تعقل ولا تفكر مثله، وأنها تسير في هذا الوجود بحسب غرائزها. فاستغل فيها هذا النقص، أي غياب العقل، وقام بترويضها وتدريبها كيفما شاء.
وعليه فإن عمل المروض حين ترويضه للحيوانات يختلف عن عمل المدرس في حصة تدريسه للتلاميذ. إذ المدرس في عمله يعول على الطاقة العاقلة في تلاميذه. فيقوم بتفعيل هذه الطاقة فيهم وتنشيطها. وذلك عن طريق التلقين والتعليم والاختبار. إلى أن يُنمِّي فيهم القدرة على التفكير وربط المعلومات ببعضها. وأما المروض فإنه لا يعول على هذه الطاقة في عمله لأنها معدومة في الحيوان. وإنما يعول على ما فيه من غرائز وحاجات عضوية. فيقوم باستغلالها لحظة ترويضه لها إلى أن يصير الحيوان خاضعا له ومنفذا لأوامره ومتقيدا بإشاراته. وذلك من أجل إشباع حاجة عضوية أو غريزية فقط ليس أكثر. أي مطواعا للمروض ومنقادا له من أجل الحصول على الطعام. كالفواكه والمكسّرات واللحوم.
فعملية الترويض إذا مرتبطة في الأصل بالناحية الغريزية والعضوية في الحيوان وليست مرتبطة بالعقل. وخلاصة القول، إن هذه المشاهد اللطيفة والمبدعة التي نستمتع بمشاهدتها هي من صنع الإنسان العاقل الذي استطاع أن يجعل لنفسه سلطانا على هذا الحيوان غير العاقل. وأما الحيوان وإن كان هو الذي يؤدي هذه الأدوار ويقوم بهذه الأعمال الرائعة، فإنه يبقى دائما وأبدا من البهائم والأنعام البكماء الصماء التي لا تعي ما يصنع بها هذا الإنسان.
هذا فيما يخص ترويض الحيوانات بصنفيها الوحشي والأهلي. وأما فيما يتعلق بعملية تدجين الحيوانات. أي جعلها تتأقلم مع البيئة البشرية وتألف العيش إلى جانب الإنسان. فإنها لا تختلف كثيرا في مضمونها عن عملية الترويض. إلا أنها أقل جهدا وعناءً منها. لكونها لا تتطلب خبرة عالية، ولا فنا خاصا. فمن السهل علينا جميعا تدجين الحيوانات التي تسمى بالأهلية. كالدجاج والحمام والماعز والبقر وغيرها. هذا هو حال الحيوان الذي سخّره الله للإنسان. ليدجّنه أو يروضه كيفما شاء. ولكي يستعمله في أشغاله وأعماله. كالأسفار وحمل الأثقال والحرث والحصاد والسقي والصيد والحروب. ولكي يتغذى بألبانه ولحومه. ولكي يتخذ من ريشه وأصوافه وأوباره وجلوده أثاثا ولباسا يقيه الحرّ والبرد. قال تعالى : {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}[المؤنون: 21/22]. وقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ }[النحل: 80]. أمّا الإنسان فإن حاله يختلف عن حال الحيوان. ذلك بأنّ الله كرّمه وشرّفه وفضّله على سائر مخلوقاته. قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء: 70]. يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: " َيُخْبِر تَعَالَى عَنْ تَشْرِيفه لِبَنِي آدَم وَتَكْرِيمه إِيَّاهُمْ فِي خَلْقه لَهُمْ عَلَى أَحْسَن الْهَيْئَات وَأَكْمَلهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان فِي أَحْسَن تَقْوِيم " أَنْ يَمْشِي قَائِمًا مُنْتَصِبًا عَلَى رِجْلَيْهِ وَيَأْكُل بِيَدَيْهِ وَغَيْره مِنْ الْحَيَوَانَات يَمْشِي عَلَى أَرْبَع وَيَأْكُل بِفَمِهِ وَجَعَلَ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَفُؤَادًا يَفْقَه بِذَلِكَ كُلّه وَيَنْتَفِع بِهِ وَيُفَرِّق بَيْن الْأَشْيَاء وَيَعْرِف مَنَافِعهَا وَخَوَاصّهَا وَمَضَارّهَا فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة وَالدُّنْيَوِيَّة ". ويقول الطبري: " يَقُول تَعَالَى ذِكْره : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم } بِتَسْلِيطِنَا إِيَّاهُمْ عَلَى غَيْرهمْ مِنْ الْخَلْق، وَتَسْخِيرنَا سَائِر الْخَلْق لَهُمْ { وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ } عَلَى ظُهُور الدَّوَابّ وَالْمَرَاكِب". هذا هو الفارق بين الحيوان والإنسان. وهذا ما هو مشاهد ومحسوس في الواقع. وهنا نقف لنتساءل فنقول: هل هذا الإنسان الذي كرّمه الله بالعقل وشرّفه على سائر مخلوقاته من الممكن هو الآخر ترويضه وتدجينه. أي نحن الكائنات العاقلة هل من الممكن إخضاعنا لعمليات الترويض والتدجين. ويفعل بنا ما يفعل بالكائنات غير العاقلة؟ فإن كان هذا ممكنا، ورأينا نواصي بعض البشر بأيدي البعض الآخر يجرونهم بها جرّا حيث ما أرادوا، فهل هذا الأمر تم بسلطان أم بغير سلطان؟ وللجواب على هذا ينبغي علينا أن نتحول من هذا المشهد إلى مشهد ثان من مشاهد القرآن الكريم، لنرى ما جاء فيه عن هذا الأمر.