خطبة جمعة حيثما يكون الشرع تكون المصلحة
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً، الحمد لله الذي جعل الليل والنهار آيتين فمحى آية الليل، وجعل آية النهار مبصرة لنبتغي فضلاً من ربنا، ولنعلم عدد السنين والحساب وكل شيء فصله تفصيلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، اللهم فصلّ عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً... أما بعد،
قال الله تعالى في كتابه العزيز مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (107الأنبياء) وكونه قد جاء رحمة لهم، يعني أنه جاء بما فيه مصلحتهم، قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل89) وقال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)،(57 يونس) فالهدى والرحمة هي إما جلب منفعة للناس، أو دفع مضرة عنهم وهذه هي المصلحة، لأن المصالح هي جلب المنافع ودفع المفاسد. وتحديد الشيء من كونه مصلحة أو ليس مصلحة، إنما يكون للشرع وحده، لأنه هو الذي جاء بالمصلحة، وهو الذي يحدد هذه المصلحة للناس. ومن هنا وجب ألا يُترك للعقل أن يقرر ما هي المصلحة، بل يجب أن يقرر ذلك الله تعالى وحده، لأنه هو الذي يقرر المصلحة الحقيقية والمفسدة الحقيقية، ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك14)، والعقل إنما يفهم واقع الشيء كما هو فهماً تاماً، ثم يفهم النص الشرعي الذي جاء في هذا الشيء، ثم يطبق النص على الواقع، فإذا انطبق عليه كان مصلحة أو مفسدة حسب نص الشرع، وإن لم ينطبق عليه بحث عن المعنى الذي ينطبق على الواقع حتى يعرف المصلحة التي قررها الشرع بمعرفة حكم الله في ذلك الشيء.
أيها المسلمون: إن اسمنا الذي سمانا به أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، إسم له معنى عظيم، وهو أننا أسلمنا شأننا وأمرنا لله سبحانه وتعالى، وهو وحده المستحق للعبودية والحمد والثناء، فهو العليم بنا وهو أحكم الحاكمين قال تعالى: ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) (8 التين) أما نحن معشر البشر، فعاجزون، لأن بصرنا محدود وسمعنا محدود، وعقلنا محدود، وقوتنا في كل شيء محدودة، لذلك إذا تُرك لنا تحديد المصلحة أو المفسدة لا نستطيع الوصول إلى المصلحة الحقيقية أو المفسدة الحقيقية، لأن الإنسان لا يستطيع أن يحيط بكنه نفسه وحقيقتها، كذلك إذا ترك لنا تحديد المصلحة أو المفسدة، فإنه يمكننا أن نظن ظناً أن هذا مصلحة أو مفسدة ولا نستطيع أن نجزم بذلك، وترك التحديد للمصالح والمفاسد للظن سيؤدي بنا إلى المهالك، كما نرى الآن ماتقع فيه البشرية من مهالك، مثل الربا الذي دمّر اقتصادات دول العالم بالغرق فيه، وهم يظنون أن في الربا مصلحة مع أنه مفسدة عظيمة، وها هم اليهود عندما حرم الله سبحانه الربا قالو إنما البيع مثل الربا، فهم بنظرهم القاصر اعتبروا النقود مثل السلع، فأرادوا أن يربحوا من النقود مثل مايربحون من السلع، فلم يعملوا ولم يرضوا بحكم الله سبحانه لأنهم اهتموا بالمصلحة الفردية ولم يهتموا بمصحلة الجماعة، مع أنها تدمر مصالح الفرد والجماعة، وكان الدمار لأنهم حكموا على شريعة الله بعقلهم القاصر.
أيها المسلمون: إن الإسلام عندما يشرّع حكماً للإنسان يشرعه لمصلحة الإنسان على أن لا يضر بالمجتمع بل معالجة لإنسان بوصفه فردا في مجتمع وهذا لا يتوصل إليه إلا من كان له مقاييس غير محدودة وليس الإنسان الذي يضل طريقه بأدنى شيء يعترضه، ولذلك عندما صار الكفار اليهود وغيرهم يتعاملون بالربا شقوا وأشقوا غيرهم، وما زلنا نجد ونسمع أن هناك أحداً أفلس وباع بيته وممتلكاته لأنه تعامل بالربا، وعليه فإن ترك الإنسان يظن أن هذا مصلحة يوقعه في المهالك فيعتبر المصلحة مفسدة والمفسدة مصلحة وهكذا. لذلك المولى سبحانه رحمة بنا لم يضيعنا بل هدانا لشريعة الإسلام ببعثه الحبيب محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم قال تعالى: (ثمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (18 الجاثية) وقد بين الشرع أنه يجب عل الناس أن يحتكموا إليه سبحانه فلا يجعلوا آراءهم وأهواءهم مقدمة على شريعة الله سبحانه قال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (65النساء) ، وقال: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (50 المائدة) وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (1 الحجرات) .
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد :
أيها المسلمون: إن العبودية لله لا تكون إلا بإدراك أن المصلحة لا تكون إلا في شرعه سبحانه فالمصلحة حصرياً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومهما ظن الناس بعقولهم أن في الشيء مصلحة ونهاهم الشرع عنه، فلا بد أن يكفروا بأهوائهم وأن يؤمنوا بربهم كما فعل الصحابة الكرام عندما سألوا عن الخمر والميسر فقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (219البقرة). فماذا فعلوا عندما حرمت عليهم أتلفوها بأن سكبوها ولم يفكروا في ضياع المصلحة التي قد ارتأوها مثل بيع الخمر للاستفادة من ثمنها، بل أبادوها.
أيها المسلمون: إن الذي قلب حياتنا رأساً على عقب وجعل الحزن والتعاسة يدخلان علينا هو قلب مفاهيمنا عن الحياة، فالقاعدة الشرعية هي: (حيثما يكون الشرع تكون المصلحة)، لأن الشرع هو المصلحة، وليست القاعدة حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله، فهذه تجعل العقل أساساً وليس شريعة الإسلام التي شملت أحكامها كل الحياة وما تركت أمراً إلا وحكمت عليه ليستنير الناس طريقهم ولا يضلوا، وقد أكد الشرع على وجوب التزام هذا الطريق فقال سبحانه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (153 الأنعام) وقال: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (36 الأحزاب)، وقال سبحانه: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (68 القصص).
أيها المسلمون: لقد ضرب الصحابة الكرام أروع الأمثلة في طاعتهم لله فقد روى البخاري (عن ابْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَانْتَحَرْنَاهَا فَلَمَّا غَلَتِ الْقُدُورُ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْفِئُوا الْقُدُورَ فَلَا تَطْعَمُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَقُلْنَا إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ قَالَ وَقَالَ آخَرُونَ حَرَّمَهَا الْبَتَّةَ وَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ حَرَّمَهَا الْبَتَّةَ) وأخرج الإمام أحمد (عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ كُنَّا نُحَاقِلُ بِالْأَرْضِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُكْرِيهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى فَجَاءَنَا ذَاتَ يَوْمٍ رَجُلٌ مِنْ عُمُومَتِي فَقَالَ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا وَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا). فهؤلاء الصحابة كفئوا القدور ولم يهتموا بما أعدوه من طعام لحرمتها، ولم يراجعوا مع أن الحمر الأهلية حرام والحمر الوحشية حلال، وكذلك هذا الصحابي الجليل يبين أنهم كانوا يستفيدون من هذا المال قبل نهي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (وَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا).