- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
مع الحديث النبوي الشريف (21)
العبد المؤمن بين الخوف والرجاء!!
نُحَيِّيكُمْ جَمِيعًا أيها الأَحِبَّةُ المُستَمِعُونَ الكِرَامَ فِي كُلِّ مَكَانٍ, نَلتَقِي بِكُمْ فِي حَلْقَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ بَرنَامَجِكُم "مَعَ الحَدِيثِ النَّبوِيِّ الشَّرِيفِ" وَنَبدَأ بِخَيرِ تَحِيَّةٍ وَأزكَى سَلامٍ, فَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ:
رَوَى التِّرمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي المَوْتِ، فَقَالَ: «كَيْفَ تَجِدُكَ؟»، قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرْجُو اللَّهَ، وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا المَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ». وَرَوَى التِّرمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أنَسٍ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ, إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِى وَرَجَوْتَنِى غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِى, يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِى, يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِى بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِى لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً».
وَوَرَدَ فِي الدُّعَاءِ لِلطَّبَرَانِيِّ فِي بَابِ القَولِ فِي قُنُوتِ الوِتْرِ: «اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ, وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ, وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ, وَنَخْشِي عَذَابَكَ الْجِدَّ، إِنَّ عَذَابَكَ بِالْكُفَّارِ مُلْحَقٌ». وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّه وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ؛ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ). (فاطر 30) وَقَالَ تَعَالَى: (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ). (الزمر 9) وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّه أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّه وَاللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ). (البقرة 218)
الخَوفُ وَالرَّجَاءُ لِلمُؤمِنِ كَالجَنَاحَينِ لِلطَّائِرِ! لا يَستَطِيعُ أنْ يَطِيرَ, وَلا أنْ يَرتَفِعَ إِلَى السَّمَاءِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا, إِلاَّ أنْ يَكُونَا مُقتَرِنَينِ مَعًا, عِندَئِذٍ لا يَستَطِيعُ أنْ يَطِيرَ فَحَسْبُ, بَلْ ويُحَلِّقَ عَالِيًا فِي الفَضَاءِ! وَالخَوفُ مَعلُومٌ لَدَى جَمِيعِ الناس. بَقِيَ أنْ نَعلَمَ مَعنَى الرَّجَاءِ. الرَّجَاءُ لُغَةً مَصدَرُ قَولِهِمْ: "رَجَوتُ فُلانًا أرْجُوهُ" وَهُوَ مَأخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ "رَ, جَ, وَ" الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الأَمَلِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ اليَأسِ، الفِعْلُ المَاضِي"رَجَا" يَنتَهِي بِألِفٍ مَمدُودَةٍ. يُقَالُ: رَجَوتُ فُلانًا رَجْوًا وَرَجَاءً وَرَجَاوَةً. وَيُقَالُ: مَا أتَيتُكَ إلاَّ رَجَاوَةَ الخَيرِ، وَتَرَجَّيتُهُ تَرجِيَةً بِمَعنَى رَجَوتُهُ. هَذَا, وَلِلرَّجَاءِ اصطِلاحًا مَعنَيَانِ شَرعِيَّانِ:
الأوَّلُ: رَجَاءُ عَفْوِ اللهِ وَمَغفِرَتِهِ لِلإِنسَانِ، فَالإِنسَانُ يَنبَغِي أنْ يَكُونَ دَائِمًا فِي حَالِ بَينَ الرَجَاءِ للهِ تَعَالَى وَالخَوفِ مِنهُ سُبحَانَهُ: يَرْجُو أنْ يَغفِرَ لَهُ مَا يَحصُلُ مِنهُ مِنْ آثامٍ وَذُنُوبٍ، وَيَخَافُ أنْ يُعَذِّبَهُ عَذَابًا شَدِيدًا عَلَيهَا. وَهُوَ بِهَذِهِ المُوَازَنَةِ بَينَ الخَوفِ وَالرَّجَاءِ يَنشَطُ لِلْعَمَلِ وَالطَّاعَةِ, وَلا يُصِيبُهُ اليَأسُ والقُنُوطُ إِذَا أخْطَأ أو وَقَع فِي مَعصِيَةٍ؛ لأنَّهُ يَعلَمُ أنَّ الله تَعَالَى إِذَا تَابَ تَوبَةً صَحِيحَةً، وَأدَّى حُقُوقَ الخَلْقِ عَلَيهِ, فَإِنَّ اللهَ يَغفِرُ لَهُ وَيَرحَمَهُ.
وَالثَانِي: انتِظَارُ الفَرَجِ وَكَشفُ البَلاءِ، وَزَوَالُ المُصِيبَةِ وَالمُشكِلَةِ التِي يُعَانِي مِنهَا الإِنسَانُ، وَتَوَقُّعُ حُصُولِ الأفضَلِ. وَلَكِنَّ هُنَاكَ فَرقًا بَينَ الأَمَلِ وَالرَّجَاءِ، فَالرَّجَاءُ انفِعَالٌ مُتَوَازِنٌ، يَجمَعُ بَينَ الحَذَرِ وَالتَّفَاؤُلِ، وَيجمَعُ بَينَ التَّمَنِّي وَالعَمَلِ. أمَّا الأَمَلُ: فَهُوَ انفِعَالٌ يَغْلِبُ فِيهِ التَّفَاؤُلُ. وَهُنَاكَ فَرقٌ بَينَ الرَّجَاءِ وَالتَّمَنِّي وَهُوَ أنَّ التَّمنِّي يُصَاحِبُهُ الكَسَلُ، أمَّا الرَّجَاءُ فَهُوَ مَعَ البَذْلِ وَالعَمَلِ.
قَالَ ابنُ القَيِّم رَحِمَهُ اللهُ: "الرَّجَاءُ هُوَ النَّظَرُ إِلَى سَعَةِ رَحمَةِ اللهِ". وَقِيلَ: "هُوَ الاستِبشَارُ بِجُودِ وَفَضلِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى". وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ أيضًا: "الرَّجَاءُ هُو عُبُودِيَّةٌ، وَتَعَلُّقٌ بِاللهِ مِنْ حَيثُ اسمُهُ: البَرُّ المُحسِنُ". وَقَالَ: "لَولا رُوحُ الرَّجَاءِ لَمَا تَحَرَّكَتِ الجَوَارِحُ بِالطَّاعَةِ. وَلَولا رِيحُهُ الطَّيِّبَةُ لَمَا جَرَتْ سُفُنُ الأعمَالِ فِي بَحرِ الإِرَادَاتِ".
وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ: "المَقصُودُ مِنَ الرَّجَاءِ أنَّ مَنْ وَقَعَ مِنهُ تَقصِيرٌ فَليُحسِنْ ظَنَّهُ باللهِ, وَيَرجُو أنْ يَمْحُوَ عَنهُ ذَنبَهُ، وَكَذَا مَنْ وَقَعَ مِنهُ طَاعَةٌ يَرجُو قَبُولَهَا، وَأمَّا مَنِ انهَمَكَ عَلَى المَعصِيَةِ رَاجِيًا عَدَمَ المُؤَاخَذَةِ بِغَيرِ نَدَمٍ, وَلا إِقلاعٍ فَهَذَا فِي غُرُورٍ".
وَمَا أحْسَنَ قَولَ أبِي عُثمَانَ الجيزِيِّ: "مِنْ عَلامَةِ السَّعَادَةِ أنْ تُطِيعَ، وَتَخَافَ أنْ لا تُقبَلَ، وَمِنْ عَلامَةِ الشَّقَاءِ أنْ تَعصِيَ، وَتَرجُو أنْ تَنجُو. وَفِي الرِّسَالَةِ القُشَيرِيَّةِ: الرَّجَاءُ تَعلِيقُ القَلْبِ بِمَحبُوبٍ فِي المُستَقبَلِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الرَّجَاءُ ظَنٌّ يَقتَضِي حُصُولَ مَا فِيهِ مَسَرَّةٌ. وَقَالَ المنَاوِيُّ:
الرَّجَاءُ تَرَقُّبُ الانتِفَاعِ بِمَا تَقَدَّمَ لَهُ سَبَبٌ مَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَرَضِ مَوتِهِ:
فَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبي جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفوِكَ سُلَّمَا
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِـي فَلمَّا قَرَنْـتُهُ بِعَفوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أعْظَمَا
وَقَالَ سُفيَانُ رَحِمَهُ اللهُ: «مَنْ أذنَبَ ذَنبًا فَعَلِمَ أنَّ اللهَ تَعَالَى قَدَّرَهُ عَلَيهِ، وَرَجَا غُفرَانَهُ، غَفَرَ اللهُ لَهُ ذَنبَهُ». وَقَالَ أبُو عِمرَانَ السُّلَمِيُّ مُنشِدًا:
وَإِنّي لآتي الذَّنبَ أعرِفُ قَدْرَهُ وَأعلَمُ أنَّ اللّهَ يَعفُـو وَيَغفِـرُ
لَئِنْ عَظَّمَ النَّاسُ الذُّنُوبَ فِإِنَّها وَإِنْ عَظُمَتْ في رَحمَةِ اللهِ تَصْغُرُ
مستمعينا الكرام: نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, وَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ محمد أحمد النادي - ولاية الأردن - 2014/9/22م