- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
مع الحديث النبوي الشريف (17)
النصح لكل مسلم!!
نُحَيِّيكُمْ جَمِيعًا أيها الأَحِبَّةُ المُستَمِعُونَ الكِرَامَ فِي كُلِّ مَكَانٍ, نَلتَقِي بِكُمْ فِي حَلْقَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ بَرنَامَجِكُم "مَعَ الحَدِيثِ النَّبوِيِّ الشَّرِيفِ" وَنَبدَأ بِخَيرِ تَحِيَّةٍ وَأزكَى سَلامٍ, فَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ:
رَوَى البَيهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمَانِ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، يَقُولُ: «بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَرَطَ عَلَيَّ النُّصْحَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ زِيَادٍ. وَرَوَى مُسلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ». قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «للهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ».
لِلنَّصِيحَةِ شَأنٌ عَظِيمٌ فِي حَيَاةِ الفَردِ وَالأمَّةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاء, فَهِيَ أسَاسُ بِنَاءِ الأُمَّةِ, وَهِيَ السِّياجُ الوَاقِي بِإِذنِ اللهِ مِنَ الفُرقَةِ وَالتَّنازُعِ وَالتَّحرِيشِ بَينَ المُسلِمِينَ الَّذِي رَضِيَهُ الشَّيطَانُ بَعدَ أنْ يَئِسَ أنْ يَعبُدَهُ المُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ العَرَبِ. رَوَى مُسلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ». أي وَلَكِنَّهُ يَسعَى فِي التَّحرِيشِ بَينَهُمْ بِالخُصُومَاتِ وَالشَّحنَاءِ وَالحُرُوبِ وَالفِتَنِ وَغَيرِهَا. لَقَد رَضِيَ الشَّيطَانُ بِالتَّحرِيشِ؛ لأَنَّهُ بِدَايَةٌ طَبِيعِيَّةٌ لِلعَدَاءِ وَالتَّفَرُّقِ وَالتَّنازُعِ, المُؤَدِّي إِلَى الاقتِتَالِ وَذَهَابِ الرَّيحِ. وَأعظَمُ حَدِيثٍ جَامِعٍ يُبَيِّنُ مَفهُومَ النَّصِيحَةِ الشَّرعِيَّةِ وَحُدُودَهَا, هُوَ الحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الإِمَامُ مُسلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ». قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «للهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ». فَهَذَا الحَدِيثُ لَهُ شَأنٌ عَظِيمٌ, فَهُوَ يَنُصُّ عَلَى أنَّ عِمَادَ الدِّينِ وَقَوَامُهُ بِالنَّصِيحَةِ, فَبِوُجُودِهَا يَبقَى الدِّينُ قَائِماً فِي الأُمَّةِ, وَبِعَدَمِهَا يَدخُلُ النَّقْصُ عَلَى الأُمَّةِ فِي جَمِيعِ شُؤُونِ حَيَاتِهَا. وَقَدْ كَانَ مَنهَجُ أنبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ مَعَ أُمَمِهِمْ مَبنياً عَلَى النُّصحِ لِهُمْ وَالشَّفَقَةِ عَلَيهِمْ، قَالَ نُوحٌ عَلَيهِ السَّلامُ مُخَاطِباً قَومَهُ: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). (الأعراف 62) وَقَالَ صَالِحٌ لِقَومِهِ: (فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَـٰكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ). (الأعراف 79) وَقَالَ هُودٌ لِقَومِهِ: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ). (الأعراف 68).
وَالنَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ إِرَادَةِ الخَيرِ لِلمَنصُوحِ لَهُ, وَلا يُمكِنُ أنْ يُعَبَّرَ عَنْ هَذَا المَعنَى بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَحصُرُهَا وَتَجمَعُ مَعنَاهَا غَيرِ هَذِهِ الكَلِمَةِ. وَالنَّصِيحَةُ خَمسَةُ أنَواعٍ ذُكِرَتْ فِي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ, وَهِيَ:
1. النصيحة لله: وَتكُونُ بِالاعتِرَافِ بِوَحدَانِيَّتهِ وَتَفَرُّدِهِ بِصِفَاتِ الكَمَالِ وَنُعُوتِ الجَلالِ, وَتَفَرُّدِهِ وَحدَهُ بالتَّشرِيعِ, فَلا مُشَرِّعَ وَلا حَاكِمَ سِوَاهُ, إِنِ الحُكْمُ إِلَّا للهِ, أمَرَ ألَّا تَعبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ, وَتكُونُ النَّصِيحَةُ للهِ بِالقِيَامِ بِعُبُودِيَّتهِ ظَاهِراً وَبَاطِناً، بِاتِّباعِ جَمِيعِ أوَامِرِهِ, وَاجتِنَابِ جَمِيعِ نواهيه, وَالإِنَابَةِ إِلَيهِ كُلَّ وَقْتٍ, مَعَ التَّوبَةِ وَالاستِغفَارِ الدَّائِمِ؛ لأنَّ العَبدَ لا بُدَّ لَهُ مِنَ التَّقصِيرِ فِي شَيءٍ مِنَ الوَاجِبَاتِ وَالتَّجَرُّؤِ عَلَى بَعضِ المُحَرَّمَاتِ, وَبِالتَّوبَةِ وَالاستِغفَارِ يَنجَبِرُ النَّقصُ, وَيُسَدُّ الخَلَلُ.
2. النصيحة لكتاب الله: وَتكُونُ بِجَعلِهِ دُستُورَ الأُمَّةِ, وَبِتَحكِيمِهِ فِي جَمِيعِ شُؤُونِ الحَيَاةِ, وَرَفْضِ مَا عَدَاهُ مِنَ الدَّسَاتِيرِ الوَضعِيَّةِ, وَبِتَعَلُّمِهِ وَتَعلِيمِهِ, وَفَهْمِ ألفَاظِهِ, وَتَدَبُّرِ مَعَانِيهِ, وَالمُدَاوَمَةِ عَلَى تِلاوَتِهِ وَحِفْظِهِ, وَالاجتِهَادِ فِي العَمَلِ بِهِ, وَتَطبِيقِ جَمِيعِ أحْكَامِهِ.
3. النصيحة لرسوله: وَتكُونُ بِالإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَتَقدِيمِهِ عَلَى النَّفسِ وَالمَالِ وَالوَلَدِ، وَاتِّباعِهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَتَقدِيمِ قَولِهِ عَلَى قَولِ كُلِّ أحَدٍ, وَالاهتِدَاءِ بِهَديِهِ، وَالنُّصرَةِ لِدِينِهِ وَسُنَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
4. النصيحة لأئمة المسلمين: وَهُمُ الخُلَفَاءُ الشَّرعِيُّونَ المُبَايَعُونَ مِنْ قِبَلِ الأُمَّةِ عَلَى الحُكْمِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ, وَالوُلاةُ وَالأُمَرَاءُ وَالقُضَاةُ وَجَمِيعُ مَنْ لَهُمْ وَلايَةٌ عَامَّةٌ أو خَاصَّةٌ, وَتكُونُ هَذِهِ النَّصِيحَةُ بِاعتِمَادِ وَلايَتِهِمْ, وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُمْ فِي حُدُودِ طَاعَةِ اللهِ، وَحَثِّ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ، وَبَذلِ مَا يُستَطَاعُ فِي إِرشَادِهِمْ لِلقِيَامِ بِوَاجِبِهِمْ, وَمَا يَنفَعُهُمْ وَيَنفَعُ النَّاسَ, وَأمرِهِمْ بِالمَعرُوفِ وَنَهيِهِمْ عَنِ المُنكَرِ, وَقَولِ كَلِمَةِ الحَقِّ لَهُمْ دُونَ أنْ نَخشَى لَومَةَ لائِمِ.
5. النصيحة لعامة المسلمين: وَتكُونُ بِمَحَبَّةِ الخَيرِ لَهُمْ كَمَا يُحِبُّ المَرءُ لِنَفسِهِ, وَكَرَاهِيَةِ الشَّرِّ لَهُمْ كَمَا يَكرَهُ لِنَفسِهِ. وَلا بُدَّ فِي النَّصِيحَةِ مِنْ أرْبَعَةِ أُمُورٍ:
أولها: الإِخلاصُ للهِ تَعَالَى فِي النَّصِيحَةِ؛ لأنَّهُ لُبُّ الأَعمَالِ؛ وَلأَنَّ النَّصِيحَةَ مِنْ حَقِّ المُؤمِنِ عَلَى المُؤمِنِ, فَوَجَبَ فِيهَا التَّجَرُّدُ عَنِ الهَوَى وَالأغرَاضِ الشَّخصِيَّةِ, وَالنَّوَايَا السَّيئَةِ التِي قَد تُحبِطُ العَمَلَ, وَتُورِثُ الشَّحنَاءَ وَفَسَادَ ذَاتِ البَينِ.
وثانيها: الرِّفقُ فِي النُّصحِ, وَإِذَا خَلَتِ النَّصِيحَةُ مِنَ الرِّفْقِ صَارَتْ تَعنِيفاً وَتَوبِيخاً لا يُقبَلُ، وَمَنْ حُرِمَ الرِّفقَ فَقَد حُرِمَ الخَيرَ كُلَّهُ كَمَا أخبَرَ بِذَلِكَ نَبِيُّنا عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ.
وثالثها: الحِلْمُ بَعدَ النُّصحِ؛ لأَنَّ النَّاصِحَ قَد يُوَاجَهَ بِمَنْ يَتَجَرَّأُ عَلَيهِ أو يَرُدَّ نَصِيحَتَهُ, فَعَلَيهِ أنْ يَتَحَلَّى بِالحِلْمِ, وَمِنْ مُقتَضَيَاتِ الحِلْمِ: السَّترُ وَالحَيَاءُ وَعَدَمُ البَذَاءَةِ, وَتَركُ الفُحشِ.
ورابعها: الصَّبرُ عَلَى الأذَى الَّذِي قَد يَلحَقُ بِالدَّاعِيَةِ مِنَ الحُكَّامِ الظَّلَمَةِ الَّذِينَ يَتَمَادَونَ فِي البَاطِلِ, وَيَرفُضُونَ الانصِيَاعَ إِلَى الحَقِّ, ويبطشون بِحَمَلَةِ الدَّعوَةِ. قَالَ تَعَالَى: (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ). (العصر 1-3)
وَإِنَّ مِنَ الحِكْمَةِ وَالبَصِيرَةِ فِي النَصِيحَةِ مَعرِفَةَ أقدَارِ النَّاسِ, وَإِنزَالَهُمْ مَنَازِلَهُمْ، وَالتَّرَفُّقَ مَعَ أهْلِ الفَضْلِ وَالسَّابِقَةِ, وَتَخَيُّرَ وَقْتِ النُّصْحِ المُنَاسِبِ, وَتَخَيُّرَ أُسلُوبِ النُّصْحِ الْمتَّزِنِ البَعِيدِ عَنِ الانفِعَالاتِ, وَانتِقَاءِ الكَلِمِ الطَّيبِ وَالوَجْهِ البَشُوشِ وَالصَّدرِ الرَّحْبِ، فَهُوَ أوقَعُ فِي النَّفسِ وَأدْعَى لِلقَبُولِ وَأعظَمُ لِلأجْرِ عِندَ اللهِ. فَهَذِهِ هِيَ حُدُودُ النَّصِيحَةِ الشَّرعِيَّةِ, وَخِلافُ ذَلِكَ هُوَ الإِرجَافُ وَالتَّعْيِيرُ وَالغِشُّ الَّذِي هُوَ مِنْ عَلامَاتِ النِّفَاقِ عِيَاذاً بِاللهِ, قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: "المُؤمِنُونَ نَصَحَةٌ, وَالمُنَافِقُونَ غَشَشَةٌ". وَقَالَ غَيرُهُ: "المُؤمِنُ يَستُرُ وَيَنصَحُ, وَالفَاجِرُ يَهتِكُ وَيُعَيِّرُ ويفضحُ".
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ النَّصِيحَةَ بِهَذِهِ الأُمُورِ الخَمْسَةِ, الَّتِي تَشمَلُ القِيَامَ بِحُقُوقِ اللهِ، وَحُقُوقِ كِتَابِهِ، وَحُقُوقِ رَسُولِهِ، وَحُقُوقِ جَمِيعِ المُسلِمِينَ عَلَى اختِلافِ أحْوَالِهِمْ وَطَبَقَاتِهِمْ, فَشَمَلَ ذَلِكَ الدِّينَ كُلَّهُ، وَلَمْ يَبقَ مِنهُ شَيءٌ إِلَّا دَخَلَ فِي هَذَا الكَلامِ الجَامِعِ المَانِعِ المُحِيطِ, فَكَانَ لِزَاماً عَلَى المُسلِمِينَ أخْذُ النَّصِيحَةِ خُلُقاً بَينَهُمْ, فَهِيَ القَاطِعَةُ لِفَسَادِ ذَاتِ البَينِ وَالتَّحرِيشِ, وَالمُوصِلَةُ لِمَعَانِي الأُخُوَّةِ وَالمَحَبَّةِ فِي اللهِ, وَهِيَ العَامِلُ الأهَمَّ فِي تَمَاسُكِ الجَمَاعَةِ وَالأُمَّةِ, وَاللهُ المُوَفِّقُ.
مستمعينا الكرام: نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, وَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ محمد أحمد النادي - ولاية الأردن - 2014/9/14م