- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي (ح 59)
الإجارة الخاصة على التعليم والطب
الحَمْدُ للهِ الذِي شَرَعَ لِلنَّاسِ أحكَامَ الرَّشَاد, وَحَذَّرَهُم سُبُلَ الفَسَاد, وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَيرِ هَاد, المَبعُوثِ رَحمَةً لِلعِبَاد, الَّذِي جَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ الجِهَادِ, وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الأَطهَارِ الأمجَاد, الَّذِينَ طبَّقُوا نِظَامَ الِإسلامِ فِي الحُكْمِ وَالاجتِمَاعِ وَالسِّيَاسَةِ وَالاقتِصَاد, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ يَومَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَومَ التَّنَاد, يَومَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العِبَادِ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا إِروَاءُ الصَّادِي مِنْ نَمِيرِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي, وَمَعَ الحَلْقَةِ التَّاسِعَةِ وَالخَمسِينَ, وَعُنوَانُهَا: "الإِجَارَةُ الخَاصَّةُ عَلَى التَّعلِيمِ وَالطِّبِّ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي كِتَابِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي فِي الإِسلامِ (صَفحَة 98) لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
أمَّا التَّعلِيمُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلمَرءِ أنْ يَستَأجِرَ مُعَلِّمًا يُعَلِّمُ أولادَهُ، أوْ يُعَلِّمُهُ هُوَ، أو يُعَلِّمُ مَنْ شَاءَ مِمَّنْ يَرغَبُ تَعلِيمَهُمْ؛ لأَنَّ التَّعلِيمَ مَنفَعَةٌ مُبَاحَةٌ، يَجُوزُ أخْذُ العِوَضِ عَنهَا، فَتَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَيهِ، وَقَد أجَازَ الشَّرعُ أخْذَ الأُجرَةِ عَلَى تَعلِيمِ القُرآنِ، فَكَانَ جَوَازُ أخْذِ الأُجرَةِ عَلَى تَعلِيمِ غَيرِ القُرآنِ مِنْ بَابِ أولَى. فَقَدْ رَوَىَ البُخَارِيُّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: «أحَقُّ مَا أخَذتُمْ عَلَيهِ أجْرًا كِتَابُ اللهِ».
وَقَدِ انعَقَدَ إِجمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى أنَّهُ يَجُوزُ أخْذُ الرِّزْقِ عَلَى التَّعلِيمِ مِنْ بَيتِ المَالِ، فَجَازَ أخَذُ الأجْرِ عَلَيهِ، فَقَد رُوِيَ عَنْ طَرِيقِ ابنِ أبِي شَيبَةَ عَنْ صَدَقَةَ الدِّمَشْقِيِّ عَنِ الوَضِيَّةِ بنِ عَطَاءٍ قَالَ: «كَانَ بِالمَدِينَةِ ثَلاثَةُ مُعَلِّمِينَ يُعَلِّمُونَ الصِّبيَانَ، فَكَانُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ يَرزُقُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ كُلَّ شَهْرٍ». فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أخْذِ الأُجرَةِ عَلَى التَّعلِيمِ.
أمَّا مَا وَرَدَ مِنْ أحَادِيثِ النَّهْيِ فِي هَذَا البَابِ، فَإِنَّهَا جَمِيعَهَا مُنصَبَّةٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ أخْذِ الأُجرَةِ عَلَى تَعلِيمِ القُرآنِ، لا النَّهْيَ عَنِ الاستِئجَارِ عَلَى تَعلِيمِهِ، وَهِي كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ أخْذِ الأُجرَةِ عَلَى تَعلِيمِ القُرآنِ، لا عَلَى تَحرِيمِ الإِجَارَةِ عَلَى تَعَلُّمِهِ. وَكَرَاهَةُ أخْذِ الأُجرَةِ لا تَنفِي الجَوَازَ، فَيُكرَهُ أخْذُ الأُجرَةِ عَلَى تَعلِيمِ القُرآنِ، مَعَ جَوَازِ التَّأجِيرِ عَلَيهِ.
وَأمَّا إِجَارَةُ الطَّبِيبِ فَهِيَ جَائِزَةٌ؛ لأنَّهَا مَنفَعَةٌ يُمكِنُ لِلمُستَأجِرِ استِيفَاؤُهَا، وَلَكِنْ لا تَجُوزُ إِجَارَتُهُ عَلَى البُرءِ، لأَنَّهُ استِئجَارٌ عَلَى مَجهُولٍ. وَيَجُوزُ أنْ يَستَأجِرَ الطَّبِيبَ لِيَفْحَصَهُ، لأنَّهُ مَنفَعَةٌ مَعلُومَةٌ، وَيَجُوزُ أنْ يَستَأجِرَ الطَّبِيبَ بِخِدْمَتِهِ أيَّامًا مَعلُومَةً، لأَنَّهُ عَمَلٌ مَحدُودٌ، وَيَجُوزُ أنْ يَستَأجِرَهُ لِيُدَاوِيَهُ، فَإِنَّ مُدَاوَاتَهُ مَعلُومَةٌ عِلْمًا نَافِيًا لِلجَهَالَةِ، حَتَّى وَلَو لَمْ يَعْلَمْ نَوعَ المَرَضِ، إِذْ يَكفِي أنْ يَعرِفَ أنَّهُ مَرِيضٌ فَقَط. وَإِنَّمَا جَازَ استِئجَارُ الطَّبِيبِ لأَنَّ الطِّبَّ مَنفَعَةٌ، يُمكِنُ لِلمُستَأجِرِ استِيفَاؤُهَا، فَتَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَيهَا. وَلأَنَّهُ قَد وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الإِجَارَةِ عَلَى الطِّبِّ فَقَد رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ أنَسٍ أنَّهُ قَالَ: «احتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَحَجَمَهُ أبُو طَيبَةَ وَأعطَاهُ صَاعَينِ مِنْ طَعَامٍ وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفَّفُوا عَنهُ».
وَقَد كَانَتِ الحِجَامَةُ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ مِنَ الأدْوِيَةِ الَّتِي يُتَطَبَّبُ بِهَا، فَدَلَّ أخْذُ الأُجْرَةِ عَلَيهَا عَلَى جَوَازِ تَأجِيرِ الطَّبِيبِ. وَأمَّا قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «كَسْبُ الحَجَّامِ خَبِيثٌ» الَّذِي رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ عَنْ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ، فَلا يَدُلُّ عَلَى مَنعِ إِجَارَةِ الحَجَّامِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ التَّكَسُّبِ بِالحِجَامَةِ مَعَ إِبَاحَتِهَا، بِدَلِيلِ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ سَمَّى الثَّومَ وَالبَصَلَ خَبِيثَينِ مَعَ إِبَاحَتِهِمَا. رَوَاهُ مُسلِمٌ عَنْ مَعدَانِ بنِ أبِي طَلْحَةَ. هَذَا كُلُّهُ فِي الأجِيرِ الَّذِي مَنفَعَتُهُ خَاصَّةٌ.
وَقَبلَ أَنْ نُوَدِّعَكُمْ مُستَمِعِينَا الكِرَامَ نُذَكِّرُكُمْ بِأَبرَزِ الأفكَارِ التِي تَنَاوَلهَا مَوضُوعُنَا لِهَذَا اليَومِ:
1. يَجُوزُ لِلمَرءِ أنْ يَستَأجِرَ مُعَلِّمًا يُعَلِّمُ أولادَهُ، أوْ يُعَلِّمُهُ هُوَ، أو يُعَلِّمُ مَنْ يَرغَبُ تَعلِيمَهُمْ.
2. انعَقَدَ إِجمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى أنَّهُ يَجُوزُ أخْذُ الرِّزْقِ عَلَى التَّعلِيمِ مِنْ بَيتِ المَالِ.
أ- كَانَ بِالمَدِينَةِ ثَلاثَةُ مُعَلِّمِينَ يُعَلِّمُونَ الصِّبيَانَ.
ب- كَانُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ يَرزُقُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاءِ المُعَلِّمِينَ الثَّلاثَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ كُلَّ شَهْرٍ.
3. يَجُوزُ أخْذُ الأُجرَةِ عَلَى تَعلِيمِ القُرآنِ وَجَوَازُ أخْذِهَا عَلَى تَعلِيمِ غَيرِ القُرآنِ مِنْ بَابِ أولَى.
4. مَا وَرَدَ مِنْ أحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْ أخْذِ الأُجرَةِ عَلَى تَعلِيمِ القُرآنِ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ أخْذِهَا.
5. كَرَاهَةِ أخْذِ الأُجرَةِ عَلَى تَعلِيمِ القُرآنِ، لا تَنفِي جَوَازَ الإِجَارَةِ عَلَى تَعَلُّمِهِ.
6. لا تَجُوزُ إِجَارَةُ الطَّبِيبِ عَلَى البُرءِ؛ لأَنَّهُ استِئجَارٌ عَلَى مَجهُولٍ.
7. إِجَارَةُ الطَّبِيبِ جَائِزَةٌ عَلَى مَنفَعَةٍ يُمكِنُ لِلمُستَأجِرِ استِيفَاؤُهَا كَمَا فِي الأحوَالِ الثَّلاثَةِ الآتِيَةِ.
أ- يَجُوزُ أنْ يَستَأجِرَ الطَّبِيبَ لِيَفْحَصَهُ، لأنَّهُ مَنفَعَةٌ مَعلُومَةٌ.
ب- يَجُوزُ أنْ يَستَأجِرَ الطَّبِيبَ لِخِدْمَتِهِ أيَّامًا مَعلُومَةً، لأَنَّهُ عَمَلٌ مَحدُودٌ.
ت- يَجُوزُ أنْ يَستَأجِرَهُ لِيُدَاوِيَهُ مُدَاوَاةً مَعلُومَةً عِلْمًا نَافِيًا لِلجَهَالَةِ حَتَّى وَلَو لَمْ يَعْلَمْ نَوعَ المَرَضِ.
8. كَانَتِ الحِجَامَةُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ مِنَ الأدْوِيَةِ الَّتِي يُتَطَبَّبُ بِهَا، فَدَلَّ أخْذُ الأُجْرَةِ عَلَيهَا عَلَى جَوَازِ تَأجِيرِ الطَّبِيبِ.
9. قَولُ النَّبِيِّ عَلَيهِ الصلاة والسَّلامُ: «كَسْبُ الحَجَّامِ خَبِيثٌ» لا يَدُلُّ عَلَى مَنعِ إِجَارَةِ الحَجَّامِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ التَّكَسُّبِ بِالحِجَامَةِ مَعَ إِبَاحَتِهَا.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الَمولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الراشدة الثانية على منهاج النبوة في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.