- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي (ح 137)
منع ملكية الفرد للماء العد لأنه ملكية الجماعة
الحمد لله الذي شرع للناس أحكام الرشاد، وحذرهم سبل الفساد، والصلاة والسلام على خير هاد، المبعوث رحمة للعباد، الذي جاهد في الله حق الجهاد، وعلى آله وأصحابه الأطهار الأمجاد، الذين طبقوا نظام الإسلام في الحكم والاجتماع والسياسة والاقتصاد، فاجعلنا اللهم معهم، واحشرنا في زمرتهم يوم يقوم الأشهاد يوم التناد، يوم يقوم الناس لرب العباد.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: نتابع معكم سلسلة حلقات كتابنا إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي، ومع الحلقة السابعة والثلاثين بعد المائة، وعنوانها: "منع ملكية الفرد للماء العد لأنه ملكية الجماعة". نتأمل فيها ما جاء في الصفحة التاسعة عشرة بعد المائتين من كتاب النظام الاقتصادي في الإسلام للعالم والمفكر السياسي الشيخ تقي الدين النبهاني.
يقول رحمه الله: "أما المعادن، فهي قسمان: قسم محدود المقدار بكمية لا تعتبر كمية كبيرة بالنسبة للفرد، وقسم غير محدود المقدار. أما القسم المحدود المقدار، فإنه من الملكية الفردية، ويملك ملكا فرديا، ويعامل معاملة الركاز، وفيه الخمس. فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال: "ما كان منها في طريق الميثاء (أي الطريق المسلوكة) أو القرية الجامعة، فعرفها سنة، فإن جاء طالبها، فادفعها إليه، وإن لم يأت فهي لك، وما كان في الخراب، يعني ففيها وفي الركاز الخمس". رواه أبو داود. وأما القسم غير المحدود المقدار، الذي لا يمكن أن ينفد، فإنه ملكية عامة، ولا يجوز أن يملك فرديا لما روى الترمذي عن أبيض بن حمال: "أنه وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقطعه الملح فقطع له، فلما أن ولى، قال رجل من المجلس: أتدري ما قطعت له؟ إنما قطعت له الماء العد، قال: فانتزعه منه". والماء العد الذي لا ينقطع. شبه الملح بالماء العد لعدم انقطاعه، فهذا الحديث يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقطع ملح الجبل لأبيض بن حمال، مما يدل على أنه يجوز إقطاع معدن الملح. فلما علم أنه من المعدن الدائم الذي لا ينقطع، رجع عن إقطاعه، وأرجعه، ومنع ملكية الفرد له، لأنه ملكية الجماعة. وليس المراد هنا الملح، وإنما المراد المعدن، بدليل لما علمه أنه لا ينقطع منعه، مع أنه يعلم أنه ملح، وأقطعه من أول الأمر، فالمنع لكونه معدنا لا ينقطع. قال أبو عبيدة: "وأما إقطاعه صلى الله عليه وسلم أبيض بن حمال المأربي الملح الذي بمأرب، ثم ارتجاعه منه، فإنما أقطعه، وهو عنده أرض موات يحييها أبيض، ويعمرها، فلما تبين للنبي صلى الله عليه وسلم أنه ماء عد -وهو الذي له مادة لا تنقطع مثل ماء العيون والآبار- ارتجعه منه لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلأ، والنار، والماء، أن الناس جميعا فيه شركاء، فكره أن يجعله لرجل يحوزه دون الناس". ولما كان الملح من المعادن، فإن رجوع الرسول عن إقطاعه لأبيض يعتبر علة لعدم ملكية الفرد، وهو كونه معدنا لا ينقطع، وليس كونه ملحا لا ينقطع. ومن هذا الحديث يتبين أن علة المنع في عدم إقطاع معدن الملح كونه عدا، أي لا ينقطع. ويتبين من رواية عمرو بن قيس أن الملح هنا معدن، حيث قال: "معدن الملح" ويتبين من استقراء كلام الفقهاء، أنهم جعلوا الملح من المعادن، فيكون الحديث متعلقا بالمعادن لا بالملح خاصة. وأما ما روى أبو داود من أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية، وما روى أبو عبيد في الأموال عن أبي عكرمة أنه قال: "أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أرض كذا، من مكان كذا إلى كذا، وما كان فيها من جبل أو معدن" فإنه لا يعارض حديث أبيض، بل يحمل على أن هذه المعادن، التي أقطعها الرسول لبلال، كانت محدودة فجاز إقطاعها، كما أقطع الرسول أبيض معدن الملح أولا، ولا يصح أن يحمل على إقطاع المعادن مطلقا، لأنه حينئذ يتعارض مع إرجاع الرسول المعدن الذي أقطعه، حين تبين له أنه عد لا ينقطع. فتعين حمل المعادن التي أقطعها الرسول على كونها محدودة تنقطع وتنفد. وهذا الحكم، وهو كون المعدن الذي لا ينقطع ملكا عاما، يشمل المعادن كلها سواء المعادن الظاهرة التي يوصل إليها من غير مؤونة، ينتابها الناس ينتفعون بها، كالملح، والكحل، والياقوت، وما شابهها، أم كان من المعادن الباطنة، التي لا يوصل إليها إلا بالعمل والمؤونة، كمعادن الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، والرصاص، وما شاكلها. وسواء أكانت جامدة كالبلور أم سائلة كالنفط، فإنها كلها معادن تدخل تحت الحديث. أما الأشياء التي طبيعة تكوينها تمنع اختصاص الفرد بحيازتها، فهي الأعيان التي تشتمل على المنافع العامة، وهي وإن كانت تدخل في القسم الأول؛ لأنها من مرافق الجماعة، ولكنها تختلف عن القسم الأول، من حيث أن طبيعتها أنه لا يتأتى فيها أن يملكها الفرد، بخلاف القسم الأول فإنه يتأتى أن يملكه الفرد. فعين الماء يمكن أن يملكها الفرد، ولكنه يمنع من ملكيتها إذا كانت الجماعة لا تستغني عنها، بخلاف الطريق، فإنه لا يمكن أن يملكها الفرد. ولهذا فإن هذا القسم وإن كان دليله انطباق العلة الشرعية عليه، وهي كونه من مرافق الجماعة، فإن حقيقة واقعه تدل على أنه ملكية عامة. وهذا يشمل الطرق، والأنهار، والبحار، والبحيرات، والأقنية العامة، والخلجان، والمضايق، ونحوها، ويلحق بها المساجد، ومدارس الدولة، ومستشفياتها، والملاعب، والملاجئ، ونحوها".
وقبل أن نودعكم مستمعينا الكرام نذكركم بأبرز الأفكار التي تناولها موضوعنا لهذا اليوم:
القسم الثاني من أنواع الملكية العامة: المعادن التي لا تنقطع:
المعادن قسمان:
1. قسم محدود المقدار بكمية لا تعتبر كمية كبيرة بالنسبة للفرد.
2. قسم غير محدود المقدار.
أحكام القسم المحدودالمقدار:
1. من الملكية الفردية.
2. يملك ملكا فرديا.
3. يعامل معاملة الركاز.
أحكام القسم المحدود المقدار الذي لا يمكن أن ينفد:
1. من الملكية العامة.
2. لا يجوز أن يملك فرديا.
3. دليل عدم جواز تملك ما هو من الملكية العامة أن النبي عليه الصلاة والسلام أقطع ملح الجبل لأبيض بن حمال. فلما علم أنه من المعدن الدائم الذي لا ينقطع، رجع عن إقطاعه، وأرجعه، ومنع ملكية الفرد له، لأنه ملكية الجماعة.
4. إن رجوع الرسول عن إقطاعه لأبيض يعتبر علة لعدم ملكية الفرد، وهو كونه معدنا لا ينقطع، وليس كونه ملحا لا ينقطع.
دلالة حديث عدم إقطاع معدن الملح:
1. يتبين من هذا الحديث أن علة المنع في عدم إقطاع معدن الملح كونه عدا، أي لا ينقطع.
2. يتبين أن الملح معدن.
3. يتبين من استقراء كلام الفقهاء، أنهم جعلوا الملح من المعادن، فيكون الحديث متعلقا بالمعادن لا بالملح خاصة.
4. إن المعادن، التي أقطعها النبي لبلال كانت محدودة فجاز إقطاعها كونها محدودة تنقطع وتنفد.
5. هذا الحكم، وهو كون المعدن الذي لا ينقطع ملكا عاما، يشمل المعادن كلها:
1) المعادن الظاهرة التي يوصل إليها من غير مؤونة، ينتابها الناس ينتفعون بها، كالملح، والكحل، والياقوت، وما شابهها.
2) المعادن الباطنة، التي لا يوصل إليها إلا بالعمل والمؤونة، كمعادن الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، والرصاص، وما شاكلها.
3) وسواء أكانت جامدة كالبلور، أم سائلة كالنفط، فإنها كلها معادن تدخل تحت الحديث.
القسم الثالث من أنواع الملكية العامة: الأشياء التي طبيعة تكوينها تمنع اختصاص الفرد بحيازتها:
الأشياء التي طبيعة تكوينها تمنع اختصاص الفرد بحيازتها هي:
الأعيان التي تشتمل على المنافع العامة، وتشمل ما يأتي:
1. الطرق، والأنهار، والبحار، والبحيرات.
2. الأقنية العامة، والخلجان، والمضايق، ونحوها.
3. يلحق بها المساجد، ومدارس الدولة.
4. يلحق بها مستشفيات الدولة، والملاعب، والملاجئ، ونحوها.
اختلاف القسم الثالث عن القسم الأول من أنواع الملكية العامة:
1. القسم الأول يتأتى أن يملكه الفرد. فعين الماء يمكن أن يملكها الفرد، ولكنه يمنع من ملكيتها إذا كانت الجماعة لا تستغني عنها.
2. القسم الثالث وهو وإن كان يدخل في القسم الأول لأنه من مرافق الجماعة، لكنه من حيث طبيعته لا يتأتى فيها أن يملكها الفرد، فالطريق مثلا لا يمكن أن يملكها الفرد.
3. إن القسم الثالث وإن كان دليله انطباق العلة الشرعية عليه، وهي كونه من مرافق الجماعة، فإن حقيقة واقعه تدل على أنه ملكية عامة.
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما، نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه، سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام، وأن يعز الإسلام بنا، وأن يكرمنا بنصره، وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة في القريب العاجل، وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. نشكركم على حسن استماعكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.