الأربعاء، 11 رجب 1447هـ| 2025/12/31م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
الدَّين الوطني للمملكة المتّحدة والتآكل الحتمي للوحدة الوطنية سببه الرّبا

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الدَّين الوطني للمملكة المتّحدة والتآكل الحتمي للوحدة الوطنية سببه الرّبا

 

(مترجم)

 

 

الخبر:

 

حذّرت صحيفة التلغراف من أن ارتفاع الدين العام البريطاني بات يُشكّل "أكبر تهديد منفرد" للأمن القومي، مُشيرةً إلى أنّ الاعتماد المُفرط على الاقتراض يُعرّض الدولة لضغوط السوق، والدائنين الأجانب، والتقلبات المفاجئة في أسعار الربا. ويُشدّد المقال على أن تكاليف خدمة الدين باتت باهظة لدرجة أنها تُقيّد الإنفاق الدفاعي، والاستثمار في البنية التحتية، والاستقلال السياسي، مُحوّلةً الأسواق المالية إلى مُتحكّم فعلي في السياسة الوطنية. ويُسلّط المقال الضوء على أنّ بريطانيا تُنفق على ربا الدين ما يُقارب ضعف ما تُنفقه على الدفاع. (صحيفة التلغراف، 18/12/2025)

 

التعليق:

 

ما وصفته صحيفة التلغراف بأنّه تهديد للأمن القومي هو في الواقع النتيجة المنطقية لنظام اقتصادي قائم على المصالح، أدّى إلى تقويض السيادة في جميع أنحاء العالم. لم يعد الدين مجرد أداة مالية، بل أصبح آلية لضبط الاقتصاد. فعندما تصبح الدول معتمدة هيكلياً على الاقتراض، لا تُحدّد أولوياتها باحتياجات شعوبها، بل بتوقعات الدائنين وحساسية الأسواق المالية. ويصبح الدفاع والرعاية الصحية والتعليم والاستقرار المجتمعي جميعها ثانوية مقارنةً بالحفاظ على الثقة بين حاملي السندات. عملياً، يقوم القطاع المالي نفسه الذي يُسعّر ديون الحكومات - البنوك وكبار مديري الأصول والمستثمرين المؤسسيين - يقوم بتمويل الأحزاب السياسية والضّغط عليها، ما يُحكم قبضة الثروة على السّياسات حتى مع تغير وجوه السلطة في الانتخابات.

 

ولا يقتصر هذا الخطر على بريطانيا وحدها؛ فمن دول الجنوب العالمي إلى قلب القوى الاستعمارية القديمة، أصبح الدين الأداة الرئيسية التي تُفرض بها السياسات دون الحاجة إلى دبابات أو قوات. تؤدي زيادات البنوك المركزية لنسبة الربا فوراً إلى ارتفاع تكاليف خدمة الدين، ما يُجبر الحكومات على التقشف، أو بيع الأصول، أو خفض الخدمات الأساسية. وبهذا المعنى، تمارس المؤسسات المالية سلطة رقابية كانت تُكتسب سابقاً من خلال الضغط المباشر والنفوذ الخارجي: إذ يمكنها تحديد الأولويات الداخلية مع بقائها رسمياً خارج نطاق التصويت.

 

يكشف هذا عن الخلل الأعمق الذي تتجنب التعليقات السائدة ذكره. فالمشكلة ليست مجرد كثرة الديون، بل هي الدّيون المبنية على الرّبا، أي استخلاص القيمة بشكل مضمون من خلال الربا بغض النظر عن الأداء الاقتصادي الحقيقي أو التداعيات المجتمعية. يحوّل الربا المال من وسيلة للتبادل إلى أداة للهيمنة. فهو يكافئ من يملكون رأس المال ويعاقب من يضطرون للاقتراض للبقاء، سواء أكانوا أسراً أو شركات أو دولاً بأكملها.

 

يحظر الإسلام هذه الآلية بشكل مباشر، ويرسم خطاً فاصلاً واضحاً بين التبادل المُنتج والربا، ﴿وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾.

 

هذا ليس مجرد فكرة أخلاقية لاحقة، بل هو ضمانة اقتصادية أساسية. فمن خلال تحريم ضمان عوائد الإقراض، يمنع الإسلام تراكم الثروة عبر الملكية السلبية للمال. وبدلاً من ذلك، يجب توليد الثروة من خلال التجارة والشراكة وتقاسم المخاطر، وربط المكاسب المالية بالنشاط الاقتصادي الحقيقي. وهذا يحدّ بشكل مباشر من قدرة الدائنين على استغلال المجتمعات من خلال الديون.

 

في إطار اقتصادي إسلامي، لا يمكن للدولة رهن مستقبلها إلى أجل غير مسمى لسداد ربا القروض، لأن المال نفسه لا يمكنه توليد المزيد من المال بشكل قانوني دون جهد إنتاجي. ولذلك، ترتكز المالية العامة على موارد ملموسة، وتُبنى الضرائب على أساس العدالة، ويتمّ تداول الثروة بدل تراكم الاستخراج. كما تعمل الزكاة كآلية إعادة توزيع منهجية، تمنع تكديس رأس المال وتركيزه، الأمر الذي يجعل الاعتماد على الديون أمراً لا مفر منه.

 

ما تُصوّره صحيفة التلغراف الآن على أنه مصدر قلق أمني يكشف عن حقيقة أوسع هي أن الاقتصادات القائمة على الرّبا تُقوّض السيادة حتماً بطرق ملموسة وقابلة للقياس. لم يعد مأزق بريطانيا مجرد فكرة نظرية. تنفق بريطانيا الآن ما يقارب ضعف ما تنفقه على الدفاع على خدمة ديونها. وهذا يعني أن تكلفة الاقتراض السابق تستنزف موارد عامة أكثر مما تستنزفه حماية البلاد نفسها. عملياً، أصبحت مدفوعات الربا للدائنين أولوية وطنية أعلى من القدرات العسكرية، أو مرونة البنية التحتية، أو الاستثمارات الاستراتيجية طويلة الأجل. عندما تتجاوز خدمة الدين الإنفاق الدفاعي، لا تعود السيادة مقيدة فحسب، بل تخضع هيكلياً للتمويل.

 

إنّ تحريم الإسلام للرّبا يعرقل هذا النظام برمته. فهو ينفي شرعية فكرة أن يقوم المجتمع بتحويل الثروة بشكل دائم إلى نخبة مالية لمجرد الوصول إلى المال. كما يرفض الوهم القائل بأنّ الانضباط الاقتصادي لا بدّ أن يتحقق من خلال البطالة، وقمع الأجور، والانكماش المجتمعي. فالاستقرار لا يتحقق باسترضاء الأسواق، بل بضمان العدالة في التبادل وتلبية الاحتياجات الأساسية. ويحذّرُ القرآن الكريم من أن الاستمرار في الربا هو إعلان الحرب على الله عز وجل ﴿فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ﴾. كما نهى النبي ﷺ ليس فقط عن أكل الربا، بل سلسلة المعاملات بأكملها «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ» صحيح مسلم.

 

إن مأزق بريطانيا، كحال العديد من الدول قبلها، يُظهر أنّ الدين ليس محايداً. فعندما يُنظّم بالربا، يتحول إلى سلاح صامت، يُقوّض الاستقلال دون إطلاق رصاصة. قبل أربعة عشر قرناً، اعتبر الإسلام الرّبا مصدراً للخراب المجتمعي والاختلال الاقتصادي. وتؤكد أزمة الديون المعاصرة، التي تُناقش الآن علناً في سياق الأمن القومي، أنّ هذا التحريم لم يكن أخلاقياً فحسب، بل كان عملياً للغاية.

 

 

كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

د. عبد الله روبين

 

 

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع