- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
أمريكا والمصير المنتظر
هدفٌ مستعصٍ، فشل متعاقب، وحلم يتحطم
الخبر:
ما إن انتهى تنصيب جو بايدن لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية حتى باشر باتخاذ قرارات تنفيذية كثيرة وسريعة تتعلق بالسياسات الداخلية والخارجية. وقد كان لافتاً أن معظم هذه القرارات يتعلق بالشؤون الداخلية، وكان بعضها نقضاً علنياً لقرارات سابقة اتخذها سلفه دونالد ترامب. وقد أعلن في خطاب تنصيبه: "أن إدارته ستتعامل مع العالم وستواجه التحديات، وتعهد بتقديم مثال يحتذى به في القيادة على حد تعبيره" (موقع الجزيرة). وتحدّث بقوةٍ عن دور أمريكا في العالم قائلاً: "يا معشر الناس، لقد حان وقت الاختبار" (موقع بي بي سي).
وكان قد أعلن أثناء حملته الانتخابية "أن أمريكا عائدة ومستعدة لقيادة العالم والتصدي للخصوم والدفاع عن قيمها" (آر تي عربي).
التعليق:
لقد كان لشخصية الرئيس السابق دونالد ترامب وسياساته الخارجية وقراراته تأثير سلبي على مواقف دول العالم من أمريكا، ما جعل كثيراً منها ينتظر رحيل ترامب ويتطلع إلى سياسات من يخلفه. وقد أدّت قراراته الداخلية إلى بلبلة داخلية وظهور فوضى في المؤسسات واستقالات متلاحقة، ثم جاء إنكاره لخسارته في الانتخابات الرئاسية بشكل هدد بانقسامات سياسية، وقد انقسمت مواقف الجمهوريين حيال ذلك، ثم تتوّج ذلك باقتحام بعض أنصار ترامب لمبنى الكونغرس وتهديد أعضائه. وقد تضافرت هذه الوقائع على إظهار تراجع أمريكا عن مكانتها بوصفها الدولة الأولى في العالم، أو عجزها عن المحافظة على هذه المكانة، وعلى النيل من هيبتها والتداول بأفول هيمنتها. وكذلك على إظهار فشل وكذب القيم الأمريكية كالديمقراطية والحريات العامة والمساواة. بل ازداد كشف هذه المزاعم وفضحها من خلال الإصرار على رفض نتيجة الانتخابات الرئاسية وتكرار الكلام عن تزويرها، ومن خلال القوانين التي تحدُّ من حريات أعراق أو أديان معينة، فتبني الجدران الفاصلة مع المكسيك مثلاً، وتمنع أهل بلاد إسلامية من دخول أمريكا، ومن خلال عنصرية واسعة الانتشار في أمريكا، تتحدث عن تفوق العنصر الأبيض وتحتقر السود، ولا يخجل أهلها منها!
لقد اقتضى هذا الواقع مواجهة هذا الخطر، وأدى وضوحه أمام العالم إلى اتفاق واسع بين كبار سياسيي أمريكا وصناع القرار فيها، على اتخاذ إجراءات لتغيير هذه الصورة، وإعادة تصوير أمريكا بالشكل الذي أراده المؤسسون، بأن تكون الدولة المتفوقة عالمياً والمهيمنة، وذات القيم النهائية والنموذجية لكل العالم. ولتكون بحسب تعبير قادتهم عبر تاريخهم هي "مدينة فوق تلة" يتطلع إليها كل الناس ويحلمون بالعيش فيها!
لذلك، فإن الذي يجري الآن في أمريكا يستهدف استعادة أو إيجاد هذه الصورة، بما يقتضيه ذلك من تصريحات ومواقف وقرارات تلفت نظر المجتمع الداخلي بكل شرائحه لنيل تأييده وإعجابه، ومن أمثلة ذلك قراراته فيما يتعلق بوباء كورونا، وبتوزيع مساعدات مالية وتحريك الاقتصاد. وكذلك بما يقتضيه ذلك من نعيٍ على الرئيس السابق ترامب، وعلى قراراته وفترة حكمه، وبتصويره مخالفاً لقيم أمريكا وقوانينها. وبالتركيز على نجاح أمريكا بتجاوز مشاكلها، وأن هذا نجاح لديمقراطيتها وقِيمها. وبما أن التشوه الذي طال صورة أمريكا عالمياً وداخلياً كبير، فإن تجميل الصورة يقتضي أعمالاً كبيرة، إعلامياً ودعائياً، ويقتضي مواقف حاسمة، وإظهار وجود وتأثير في مختلف قضايا العالم، كما يقتضي إظهار القوة والتفوق. وهذا ما يفسر هذه القرارات الكثيرة والمتلاحقة التي يوقعها بايدن كل يوم، والاهتمام الإعلامي الكبير بها.
وبناء على ذلك، يُتوقع أن يحظى الرئيس بايدن بدعم سياسي وإعلامي، وأن يظهر سياسياً بارعاً وقائداً حكيماً ومحبوباً، وأن يتكرر النيل من ترامب.
إن نظرة إلى تصريحات بايدن والقرارات التنفيذية التي يصدرها تشير إلى ما تقدم، من قصد معالجة الداخل الأمريكي وإظهار القيم الإنسانية، وفيما يلي شيء من ذلك بإيجاز:
نشر موقع ذا هيل (The Hill) الإخباري الأمريكي في 2021/1/24 أن الرئيس جو بايدن سيتابع في أسبوعه الثاني في الرئاسة التوقيع على عدد كبير من القرارات التنفيذية بهدف وضع بصمته على الحكم مبكراً، والتراجع عن بعض السياسات التي ميزت عهد سلفه ترامب... منها قرارات الهجرة، والرعاية الصحية، والمناخ، وسيخصص يوماً لكل ملف. الاثنين لشراء المنتج الأمريكي. الثلاثاء للإنصاف، حيث سيوقع على مجموعة واسعة من القرارات التنفيذية المتعلقة بالمساواة العرقية. الأربعاء يوم المناخ. الخميس يوم الرعاية الصحية. الجمعة يوم الهجرة حيث يوقع أمراً يلغي سياسات إدارة ترامب بشأن نظام اللجوء وغير ذلك... ولقد صرح بايدن أثناء حملته الانتخابية أن قرارات ترامب بشأن الهجرة كانت هجوماً على القيم الأمريكية.
وأما خارجياً فهناك شواهد عدة على سياسة إظهار النفوذ والمكانة، منها ما نشاهده من دعمها للتحركات الجماهيرية الجارية حالياً في روسيا، وإظهار دفاعها عن حرية التعبير. وهذا يتم مقارنته بمواقف ترامب شبه الصامتة تجاه روسيا، والتي أظهرت أمريكا تحت هجمات إلكترونية روسية متكررة تندرج في حروب الفضاء السيبراني، بهدف الحصول على معلومات وأسرار. وقد ضجت أمريكا منتصف الشهر الفائت باختراق روسي كبير وخطير لعدد كبير من المؤسسات الحكومية والشركات. وفي حين صمت الرئيس ترامب آنذاك عن ذلك صارفاً الاتهام إلى الصين، فقد نقل غير واحد من إدارة الرئيس المنتخب آنذاك بايدن عنه تهديدات متنوعة لروسيا لن تقتصر على العقوبات، وتلقينها درساً بسبب هذا الاختراق. من ذلك ما جاء في تصريح رون كلين كبير موظفي البيت الأبيض في إدارة بايدن في 2020/12/21 من "أن رد الرئيس المنتخب على الهجوم الإلكتروني لن يقتصر على العقوبات. وأنه يدرس سبل الرد، وأن الأمر لن يقتصر على العقوبات، وإنما يمتد لتحركات وأشياء يمكن القيام بها لتحجيم قدرة الأطراف الأجنبية على شن مثل هذه الهجمات" (موقع DW).
ولكن هذه البداية القوية من بايدن تدفع إلى سؤال: هل يستطيع هو وإدارته، والأدق هل تستطيع أمريكا أن تستمر بهذا الزخم، وأن تحقق مبتغاها منه، في عالم لا يثق بها، ويدرك أن هدفها الهيمنة والاستبداد، وأن قيمها المزعومة تبجح ومخادعة؟
إن المشاهد من سياسات أمريكا أنها تعاني من فشل متعاقب منذ تسعينات القرن الفائت، وهي تغير سياساتها بتغيير رؤساء وإدارات، وكلما جاءت إدارة لعنت أختها. فقد جاء أوباما ينعى على سلفه بوش الابن لِما أوصل إليه أمريكا من فشل وخسائر. ثم جاء ترامب ينعى على أوباما بما أوصل إليه أمريكا من تراجع أمام صعود الخصوم، كالصين أو الإسلام السياسي. وها هو بايدن يأتي لينعى على ترامب وما أوصل إليه أمريكا من خصومات مع دول العالم وخروجٍ من عدد من المؤسسات الدولية. والمتوقع لهجمة بايدن هذه أن تصطدم بقوى داخلية لها رؤاها وتوجهاتها التي تتناقض مع توجهات بايدن، وبقوى خارجية أيضاً تعاني من سياسات أمريكا وتخشى خطرها. ومشكلات أمريكا الداخلية والخارجية ترجع إلى نظامها الذي يولد الأزمات للعالم، وقد صارت هذه الأزمات ترجع إليها، وتراكمت حتى صارت أكبر منها ومن طاقاتها. وعلى ذلك، فخط السير الأمريكي هو خط فشل متعاقب على طريق التفكك والعزلة والنزاعات الداخلية والانكفاء الخارجي
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
محمود عبد الهادي