- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
( ح207 )
المأكل والملبس والمسكن هي الحاجات الأساسية للأفراد، وما عداها زيادة
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا: "بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ كِتَابِ نِظَامِ الِإسْلَامِ"وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّابِعَةِ بَعْدَ المِائَتَينِ, وَعُنوَانُهَا: "الـمَأْكَلُ وَالـمَلْبَسُ وَالـمَسْكَنُ هِيَ الحَاجَاتُ الأَسَاسِيَّةُ لِلأَفْرَادِ، وَمَا عَدَاهَا زِيَادَةٌ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الثَّانِيَةِ وَالعِشْرِينَ بَعْدَ الـمِائَةِ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادة 125: يَجِبُ أَنْ يُضْمَنَ إِشْبَاعُ جَمِيعِ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ لِـجَمِيعِ الأَفْرَادِ فَردًا فَردًا إِشبَاعًا كُلِّيًّا، وَأَنْ يُضْمَنَ تَـمْكِينُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ مِنْ إِشْبَاعِ الحَاجَاتِ الكَمَالِيَّةِ عَلَى أَرْفَعِ مُسْتَوىٍ مُسْتَطَاعٍ.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ, يَا أُمَّةَ القُرآنْ, يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ, يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ, يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبًّا, وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا وَرَسُولًا, وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجًا وَدُستُورًا, وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَامًا لِلْحَياَة,ِ أَيُّهَا الـمُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ, فَوقَ كُلِّ أَرضٍ, وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ, يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ, أَيُّهَا الـمُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ. أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ, وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيكُمْ حَتَّى تدرُسُوهُ وَأنتمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا لإِقَامَتِهَا, وَهَذِهِ هِيَ تَتِمَّةُ الـمَادَّةِ الخَامِسَةِ وَالعِشْرِينَ بَعْدَ الـمِائَةِ. وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَذِهِ الـمَادَّةِ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
وَأَمَّا الأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّ الـمَأْكَلَ وَالـمَلْبَسَ وَالـمَسْكَنَ هِيَ الحَاجَاتُ الأَسَاسِيَّةُ لِلأَفْرَادِ، وَمَا عَدَاهَا زِيَادَةٌ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحَّحَهُ أَحْمَد شَاكِر مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بُنِ عَفَّانَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ سِوَى ظِلِّ بَيْتٍ، وَجِلْفِ الْخُبْزِ، وَثَوْبٍ يُوَارِي عَوْرَتَهُ، وَالْمَاءِ، فَمَا فَضَلَ عَنْ هَذَا فَلَيْسَ لابْنِ آدَمَ فِيهِ حَقٌّ». وَقَدْ وَرَدَ الحَدِيثُ بِلَفْظٍ آخَرَ «لَيْسَ لابْنِ آدَمَ حَقٌّ فِي سِوَى هَذِهِ الْخِصَالِ: بَيْتٌ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَهُ، وَجِلْفُ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ». ( أَخْرَجَهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ ) . فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي لَفْظَيِ الحَدِيثِ وَهُوَ الـمَأْكَلُ وَالـمَلْبَسُ وَالـمَسْكَنُ: «ظِلُّ بَيْتٍ» «بَيْتٌ يَسْكُنُهُ» «ثَوْبٌ يُوارِي عَوْرَتَهُ» «جِلَفُ الخُبْزِ وَالْمَاءِ» كَافٍ، وَفِيهِ الكِفَايَةُ، وَقَولُهُ فِي الحَدِيثِ: «فَمَا فَضَلَ عَنْ هَذَا فَلَيْسَ لابْنِ آدَمَ فِيهِ حَقٌّ». فِيهِ مُنتَهَى الصَّرَاحَةِ بِأَنَّ هَذِهِ الحَاجَاتِ الثَّلَاثَ هِيَ الحَاجَاتُ الأَسَاسِيَّةُ، فَالحَدِيثَانِ نَصٌ فِي أَنَّ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةَ هِيَ الـمَأْكَلُ وَالـمَلْبَسُ وَالـمَسْكَنُ، وَمَا زَادَ عَلَيهَا فَلَيسَ بِأَسَاسِيٍّ، وَبِإشْبَاعِهَا تَكُونُ قَدْ أُشْبِعَتِ الحَاجَاتُ الأَسَاسِيَّةُ لِلأَفْرَادِ.
أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَذَا الإِشْبَاعَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إِشْبَاعًاكُلِّيًّا فَهُوَ مَا وَرَدَ بِالأَدِلَّةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الإِشْبَاعُ بِالـمَعْرُوفِ، وَأَنْ يَكُونَ قَدْرَ الكِفَايَةِ. فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: ( بِالـمَعرُوفِ ) فِي قَولِهِ: ( وَعَلَى الـمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّبِالـمَعْرُوفِ ) . ( البقرة 233 ) وَالرَّسُول r يَقُولُ «بِالْمَعْرُوفِ» فِي قَولِهِ: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ». وَمَعْنَى بِالـمَعْـرُوفِ أَيْ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِندَ النَّاسِ. وَقَالَ r لِـهِنْـد: «مَا يَكْفِيكِ» وَقَـالَ: صلى الله عليه وسلم فِي قَـولِهِ لِـهِنْد: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ». ( مُتَّفَقٌ عَلَيهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها ) ، فَنَصَّ عَلَى قَدْرِ الكِفَايَةِ.
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الإِشْبَاعَ يَكُونُ إِشْبَاعًا كُلِّيًّا، أَيْ لِـجَمِيعِ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ بِـمَا يَكْفِيهِ حَسَبَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ بَينَ النَّاسِ. فَاشْـتَرَطَ الكِفَايَةَ، أَيْ حَتَّى يَشْـبَعَ مِنَ الطَّعَامِ، وَيَسْتُرُ مِنَ الكِسْوَةِ، وَيَأْوِي إِلَيهِ مِنَ الـمَسْكَنِ، وَاشتَرَطَ إِلَى جَانِبِ الكِفَايَةِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الكِفَايَةُ بِالـمَعْرُوفِ، أَيْ لَيسَ الكِفَايَةَ بِأَقَلِّ مَا يَكْفِي مِنْ أَدْنَى الأَشْيَاءِ، بَلِ الكِفَايَةُ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي ذَلِكَ البَلَدِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ، وَالجَمَاعَةِ الَّتِي يَعِيشُ بَينَهَا. وَبِهَذَا يَثْبُتُ أَنَّ الإِشبَاعَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إِشْبَاعًا كُلِّيًّا، وَهَذِهِ كُلُّهَا أَدِلَّةُ الشِّقِّ الأَوَّلِ مِنَ الـمَادَّةِ. ثُـمَّ إِنَّ الأَدِلَّةَ الشَّرعِيَّةَ لَـمْ تُوجِبْ سَدَّ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةَ لِلأَفْرَادِ فَردًا فَردًا فَحَسْب، بَلْ كَذَلِكَ أَوجَبَتْ سَدَّ حَاجَاتِ الأُمَّةِ الأَسَاسِيَّةَ بِتَوفِيرِ الأَمْنِ وَالطِّبِّ وَالتَّعلِيمِ لِلرَّعِيَّةِ:
أَمَّا الأَمْنُ فَهُوَ مِنْ وَاجبَاتِ الدَّولَةِ الرَّئِيسَةِ، فَعَلَيهَا أَنْ تُوَفِّرَ الأَمْنَ وَالأَمَانَ لِلرَّعِيَّةِ، حَتَّى إِنَّ الدَّولَةَ تَفْقِدُ كَينُونَتَهَا إِذَا لَـمْ تَستَطِعُ حِفْظَ أَمْنِهَا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ شَرطٌ فِي دَارِ الإِسلَامِ أَنْ تَكُونَ الدَّولَةُ الإِسلَامِيَّةُ قَادِرَةً عَلَى حِفْظِ أَمْنِهَا بِقُوَّاتـِهَا، وَلِـهَذَا فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ r عِندَمَا أَخبَرَ الـمُسْلِمِينَ بِدَارِ هِجْرَتِـهِمْ ذَكَرَ الأَمْنَ أَوَّلَ مَا ذَكَرَ، فَقَالَ r لِأَصْحَابِهِ فِي مَكَّةَ فِيمَا رَوَاهُ ابنُ إِسْحَقَ فِي سِيرتِهِ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ بِهَا»، كَمَا أَنَّ الأَنْصَارَ عِندَمَا استَقْبَلُوا رَسُولَ اللهِ r وَصَاحِبَهُ أَبَا بَكْرٍ، قَالُوا لَـهُمَا أَوَّلَ مَا قَالُوا، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ «فَاسْتَقْبَلَهُمَا زُهَاءُ خَمْسِمائةٍ مِنَ الأَنْصَارِ حتى انْتَهَوْا إِلَيْهِمَا. فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: انْطَلِقَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ»، فَتَوفِيرُ الدَّولَةِ الأَمَانَ لِلرَّعِيَّةِ هُوَ مِنْ وَاجبَاتِـهَا الرئِيسَةِ.
أَمَّا الصِّحَّةُ وَالتَّطبِيبُ فَإِنَّـهُمَا مِنَ الوَاجبَاتِ عَلَى الدَّولَةِ بِأَنْ تَوَفِّرَهـُمَا لِلرَّعِيَّةِ، حَيثُ إِنَّ العِيَادَاتِ وَالـمُسْتَشْفَيَاتِ، مَرَافِقُ يَرتَفِقُ بِهَا الـمُسلِمُونَ فِي الاستِشْفَاءِ وَالتَّدَاوِي. فَصَارَ الطِّبُّ مِنْ حَيثُ هُوَ مِنَ الـمَصَالِـحِ وَالـمَرَافِقِ. وَالـمَصَالِـحُ وَالـمَرَافِقُ يَجِبُ عَلَى الدَّولَةِ أَنْ تَقُومَ بِهَا لِأَنَّهَا مِمَّا يَجِبُ عَلَيهَا رِعَايَتُهُ عَمَلًا بِقَولِ الرَّسُولِ r : «الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». ( أَخرَجَهُ البُخَارِيًّ عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ) . وَهَذَا نَصٌّ عَامٌّ عَلَى مَسئُولِيَّةِ الدَّولَةِ عَنِ الصِّحَّةِ وَالتَّطبِيبِ لِدُخُولِـهِمَا فِي الرِّعَايَةِ الوَاجبَةِ عَلَى الدَّولَةِ.
وَهُنَاكَ أَدِلَّةٌ خَاصَّةٌ عَلَى الصِّحَّةِ وَالتَّطْبِيبِ: أَخْرَجَ مُسْلِمُ مِنْ طَرِيقِ جَابِرَ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ r إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا ثُمَّ كَوَاهُ عَلَيْهِ». وَأَخرَجَ الحَاكِمُ فِي الـمُسْتَدْرَكِ عَنْ زَيدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «مَرِضْتُ فِي زَمَانِ عُمَرَ بِنَ الْخَطَّابِ مَرَضًا شَدِيدًا فَدَعَا لِي عُمَرُ طَبِيبًا فَحَمَانِي حَتَّى كُنْتُ أَمُصُّ النَّوَاةَ مِنْ شِدَّةِ الْحِمْيَةِ».
فَالرَّسُولُ r بِوَصْفِهِ حَاكِمًا بَعَثَ طَبِيبًا إِلَى أُبَيّ، وَعُمَرُ t الخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ الثَّانِي دَعَا بِطَبِيبٍ إِلَى أَسْلَمَ لِيُدَاوِيهِ، وَهُمَا دَلِيلَانِ عَلَى أَنَّ الصِّحَّةَ وَالتَّطبِيبَ مِنَ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ لِلرَّعِيَّةِ الَّتِي يَجبُ عَلَى الدَّولَةِ تَوفِيرَهَا مَجَّانًا لِـمَنْ يَحْتَاجُهَا مِنَ الرَّعِيَّةِ. وَأَمَّا التَّعلِيمُ، فَلِأَنَّ الرَّسُولَ r جَعَلَ فِدَاءَ الأَسِيرِ مِنَ الكُفَّارِ تَعلِيمَ عَشَرَةٍ مِنْ أَبنَاءِ الـمُسلِمِينَ وَبَدَلَ فِدَائِهِ مِنَ الغَنَائِمِ - وَهِيَ مِلْكٌ لِجَمِيعِ الـمُسْلِمِينَ - وَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى إِعْطَاءِ رِزْقِ الـمُعَلِّمِينَ قَدْرًا مُعَيَّنًا مِنْ بَيتِ الـمَالِ أَجْرًا لَـهُمْ.وَعَـلَيهِ فَإِنَّهُ يَجِـبُ عَلَى الدَّولَةِ أَنْ تُوَفِّـرَ الأَمْـنَ وَالطِّـبَّ وَالتَّعلِيمَ لِلرَّعِيَّةِ جَمِيعِهِمْ، وَأَنْ يَضْـمَنَهَا بَيْتُ الـمَـالِ، لَا فَـْرقَ بَينَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ، وَلَا بَينَ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ.
وَلِأَهَمِّيَّةِ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ لِلفَرْدِ وَلِلأُمَّةِ فَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللهِ r أَنَّ تَوفِيرَ هَذِهِ الحَاجَاتِ يَكُونُ كَحِيَازَةِ الدُّنيَا بِأَكْمَلِهَا كِنَايَةً عَنْ أَهَـمِّيَّةِ هَذِهِ الحَاجَاتِ، فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا». ( قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ) . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَعِندَ أَبِي نَعِيم فِي الحِلْيَةِ عَنْ طَرِيقِ أَبِي الدَّردَاءِ نَحْوَهُ، وَلَكِنْ بِزَيَادَةِ بِحَذَافِيرِهَا، أَيْ «حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا». وَبِهَذَا تَكُونُ هَذِهِ الأَدِلَّةُ كُلُّهَا دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ ضَمَانِ إِشْبَاعِ جَمِيعِ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةَ لِجَمِيعِ أَفرَادِ الرَّعِيَّةِ فَردًا فردًا، مِنْ مَأْكَلٍ وَمَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ، وَكَذَلِكَ دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ تَوفِيرِ الخِدْمَاتِ الأَسَاسِيَّةِ لِلأُمَّةِ، مْنْ أَمْنٍ وَصِحَّةٍ وَتَعلِيمٍ.
وأما الشق الثاني مِنَ الـمَادَّةِ وَهُوَ التَّمْكِينُ مِنْ إِشْبَاعِ الحَاجَاتِ الكَمَالِيَّةِ فَإِنَّ فَرْضَ العَمَلِ عَلَى القَادِرِ مِنَ الذُّكُورِ يَصْلُحُ كَذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى التَّمكِينِ لِإِشْبَاعِ الحَاجَاتِ الكَمَالِيَّةِ، كَمَا صَلُحَ دَلِيلًا عَلَى إِشْبَاعِ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ. لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الحَثَّ عَلَى الكَسْبِ, وَلَـمْ يُقَيِّدْهُ بِحُدُودِ إِشْبَاعِ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ، فَهَذَا الإِطْلَاقُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ مَكَّنَهُ مِنْ إِشْبَاعِ حَاجَاتِهِ الكَمَالِيَّةِ مِنْ كَسْبِهِ.
وَأَيضًا فَإِنَّ إِبَاحَةَ التَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ دَلِيلٌ كَذَلِكَ عَلَى التَّمْكِينِ مِنْ إِشْبَاعِ الحَاجَاتِ الكَمَالِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: ( كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) . ( البقرة 57 ) وَقَالَ: ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّـهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) . ( الأعراف32 ) ، وقال: ( وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) . ( آل عمران180 ) ، وَقَالَ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّـهُ لَكُمْ ) . ( المائدة 87 ) ، وَقَالَ: ( لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ) . ( الطَّلَاق 7 ) وَقَالَ: ( وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) . ( القصص 77 ) . فَهَذِهِ كُلُّهَا أَدِلَّةٌ عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ أَبَاحَ لِكُلِّ فَرْدٍ أَنْ يُشبِعَ حَاجَاتِهِ الكَمَالِيَّةَ، فَمَكَّنَهُ بِهَذِهِ الإِبَاحَةِ مِنَ الإِشْبَاعِ، عَلَاوَةً عَلَى مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ البُخْلِ، وَمِنْ تَقْرِيعِ مَنْ يَمنَعُ التَّمَتُّعَ بِالطَّيِّبَاتِ، مِـمَّا يَدُل ُّعَلَى التَّمكِينِ بِأَجْلَى بَيَانٍ. وَهَذِهِ هِيَ أَدِلَّةُ الشِّقِّ الثَّانِي مِنَ الـمَادَّةِ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.