- الموافق
- 1 تعليق
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح8)
العقدة الكبرى عند الإنسان
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّامِنَةِ, وَعُنوَانُهَا: " العقدة الكبرى عند الإنسان". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الخَامِسَةِ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: "وإِعطاءُ الفكرةِ الكليةِ عَنْ هذِهِ الأَشْيَاءِ هُوَ حَلُّ العُقْدَةِ الكُبْرى عِندَ الإنسانِ. ومتى حُلَّتْ هذه العقدةُ حُلَّت باقِي العُقَدِ، لأنها جزئيةٌ بالنِسْبَةِ لَهَا، أَوْ فُروعٌ عَنْها. لَكِنَّ هذا الحلَّ لا يُوصِلُ إِلى النَّهضةِ الصحيحةِ إلا إذا كانَ حلاً صحيحًا يوافِقُ فِطْرَةَ الإنسانِ، ويُقْنِعُ العقلَ، فَيَمْلأُ القَلبَ طُمَأْنِينَةً".
ونَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: الطِّفْلُ سَوَاءٌ أكَانَ ذَكَرًا أمْ أُنثَى, وَبِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ جِنْسِةِ وَلَونِهِ وَلُغَتِهِ, عِندَمَا يَبلُغُ هَذَا الطِّفْلُ سِنَّ الحُلُمِ أي سِنَّ الرُّشدِ تَنشَأُ فِي ذِهْنِه وَعَقْلِهِ أسئِلَةٌ ثَلاثَةٌ تَدُورُ حَولَ وُجُودِ الإِنسَانِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا, وَسَبَبِ وُجُودِهِ, وَإلى أينَ مَصِيرُهُ وَكَيفَ تَكُونُ نِهَايَتُهُ؟ أسئِلَةٌ تَنشَأُ فِي عُقُولِ هَؤُلاءِ الأطفَالِ تَحمِلُ المَعَانِي ذَاتَها, وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِالألفَاظِ المَذكُورَةِ نَفْسِهَا, وَهَذِهِ الأسئِلَةُ الثَّلاثَةُ هِيَ: مِنْ أينَ أتَيتُ؟ وَلِمَاذَا أتَيتُ؟ وَإِلَى أينَ المَصِيرُ؟ هَذِهِ الأسئِلَةُ الثَّلاثَةُ تُشَكِّلُ مَا يُسَمَّى بِالعُقْدَةِ الكُبرَى الَّتِي تَظَلُّ تُقلِقُ عُقُولَ النَّاشِئَةِ وَتُلِحُّ عَلَيهِمْ تَتَطَلَّبُ إِجَابَاتٍ مَوَافِقَةً لِلفِطْرَةِ, وَمُقنِعَةً لِلعَقْلِ, وَتَملأُ قُلُوبَهُمْ طُمَأنِينَةً. وَإِذَا لَمْ تَتِمَّ الإِجَابَةُ وَلَو عَنْ سُؤَالٍ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأسئِلَةِ الثَّلاثَةِ فَإِنَّ العُقْدَةَ الكُبْرَى مَا زَالَتْ بَاقِيَةً دُونَ حَلٍّ.
أمَّا مُوَافَقَةُ هَذِهِ الإِجَابَاتِ لِلفِطْرَةِ, فنعني بِذَلِكَ أنْ لا تَكُونَ الإِجَاباتُ مناقضةً وَمُخَالِفَةً لِمَا جُبِلَتْ عَلَيهِ النَّفْسُ البَشَرِيَّةُ كَأنْ تَكُونَ النَّفْسُ البَشَرِيَّةُ جُبِلَتْ وَفُطِرَتْ عَلَى حُبِّ التَّمَلُّكِ, وَتَأتِي الإِجَابَاتُ بِعَقِيدَةٍ كَعَقِيدَةِ الشُّيوعِيِّينَ مَثلاً تمنَعُ هَذَا التَّمَلُّكَ الَّذِي فُطِرَتْ عَلَيهِ النَّفْسُ البَشَرِيَّةُ.
وَأمَّا إِقنَاعُ هَذِهِ الإِجَابَاتِ لِلعَقْلِ, فَنَعنِي بِذَلِكَ أنْ تَكُونَ الإِجَاباتُ مُطَابِقَةً لِلوَاقِعِ المَسؤُولِ عَنهُ, وَأنْ لا تَكُونَ مُخَالِفَةً وَمُعَارِضَةً لِلأُمُورِ البَدَهِيَّةِ المُسَلَّمِ بِهَا. فَإِنكَارُ وُجُودِ الخَالِقِ كَإِنكَارِ وُجُودِ الشَّمْسِ, فَكِلا الإِجَابَتَينِ غَيرُ مُقنِعَتَينِ لِلعَقْلِ, لأنَّهُمَا غَيرُ مُطَابِقَتَينِ لِلوَاقِعِ, وَكِلاهُمَا مُخَالِفَتَانِ وَمُعَارِضَتَانِ لِلأُمُورِ البَدَهِيَّةِ المُسَلَّمِ بِهَا, فَالخَالِقُ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مَوجُودٌ, وَالاستِدْلالُ عَلَى وُجُودِهِ فِي غَايَةِ البَسَاطَةِ - سَيَأتِي الحَدِيثُ عَنهُ لاحقًا - وَالشَّمسُ مُسَلَّمٌ بِوُجُودِهَا بَدَاهَةً.
وَأمَّا أنْ تَملأَ هَذِهِ الإِجَابَاتُ القُلُوبَ طُمَأنِينَةً أي أنَّ هَذِهِ الإِجَابَاتِ المُوَافِقَةَ لِلفِطْرَةِ وَالمُقنِعَةَ لِلعَقْلِ تَعمَلُ عَلَى حَلِّ العُقدَةِ الكُبرَى عِندَ السَّائِلَ الَّذِي سَألَ تِلْكَ الأسئِلَةَ الثَّلاثَةَ, فَتُوجِدَ عِندَهُ العَقِيدَةَ الصَّحِيحَةَ, وَهَذِهِ العَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ هِيَ ذَاتُهَا القَاعِدَة ُالفِكرِيَّةُ الَّتِي تُبنَى عَلَيهَا جَمِيعُ الأفَكاَرِ عَنِ الحَيَاةِ, حَيثُ تَتَرَكَّزُ هَذِهِ الأفكَارُ عِندَ أصْحَابِهَا تَرَكُّزًا مُنتِجًا, فَمَنْ يَعتَنِقْ هَذِهِ العَقِيدَةَ يَجِدْ جَوَابًا شَافِيًا وَوَافِيًا وَمُقنِعًا لِكُلِّ تَسَاؤُلاتِهِ, وَيَجِدْ مُعَالَجَةً صَحِيحَةً, وَحَلاًّ جَذْرِيًّا لِكُلِّ مُشكِلَةٍ مِنْ مُشكِلاتِهِ, فَيَعِيشُ حَيَاةً هَانِئَةً مُطْمَئِنَّةً سَعِيدَةً, يَندَفِعُ نَحْوَ البِنَاءِ وَالتَّعمِيرِ وَالإِنتَاجِ المُثمِرِ خيرًا لَهُ وَلأهْلِهِ وَلِمُجتَمَعِهِ وَلأُمَّتِهِ.
وَالعُقدَةُ الكُبرَى عِندَمَا لا تُحَلُّ, أو عِندَمَا تُحَلُّ حَلاًّ غَيرَ صَحِيحٍ أي حَلاًّ لا يُوَافِقُ الفِطْرَةَ وَلا يُقنِعُ العَقْلَ, وَلا يَملأُ القَلْبَ طُمَأنِينَةً, فَإِنَّ السَّائِلَ الَّذِي سَألَ تِلْكَ الأسئِلَةَ الثَّلاثَةَ يَظَلُّ فِي قَلَقٍ وَاضطِرَابٍ لا يَهدَأُ لَهُ بَالَ, وَلا يَستَقِرُّ لَهُ قَرَارٌ, وَرُبَّمَا يُفَكِّرُ فِي الانتِحَارِ. حَدَّثَ أحَدُ النَّاسِ مِمَّنْ يُسَمُّونَ أنفُسَهُمْ رِجَالَ الدَّعوَةِ وَالتَّبلِيغِ قَال: "كُنَّا خُرُوجًا فِي الدَّعوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى, فَذَهَبْنَا إِلَى أحَدِ المَسَاجِدِ في أمرِيكَا, وَبَعدَ أنْ صَلَّينَا صَلاةَ الظُّهْرِ فِي جَمَاعَةٍ, وَاستَمَعْنَا إِلَى الحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ, قَرَأهُ أحَدُ الدُّعَاةِ مِنْ كِتَابِ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ, تَنَاوَلْنَا طَعَامَ الغَدَاءِ, ثُمَّ نِمْنَا فِي المَسجِدِ نَومَةَ القَيلُولَةِ امتِثَالاً لِقَولِ نَبِيِّنَا الكريم r: «قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لا تَقِيلُ».
وَبَينَمَا نَحْنُ نَغُطُّ فِي نَومٍ عَمِيقٍ, نَنَامَ قَرِيرِي الأعْينِ مِلْءَ جُفُونِنَا, مُرتَاحِي البَالِ مُطمَئِنِّينَ, خَالِينَ مِنْ الهُمُومِ, لَسْنَا قَلِقِينَ, ولا منْزَعِجِينَ, وَإِنَّمَا مُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ, فَهُوَ خَالِقُنَا, وَهُوَ رَازِقُنَا وَهُوَ حَسبُنَا وَهُوَ مُتَولِّي أمرَنَا, آجَالُنَا وَأعمَارُنَا وَأرزَاقُنَا بَينَ يَدَيهِ سبحانه, لا هَمَّ لَنَا فِي طَلَبِ الرِّزْقِ, وَلا نَخشَى المَوتَ ... وَبَينَمَا نَحنُ عَلَى هَذِه الحَالِ إِذْ حَضَرَ رَجُلٌ أمرِيكِيٌّ وَقَفَ عِندَ رَأسِ أحَدِنَا, وَظَلَّ وَاقِفًا يَنتَظِرُ استِيقَاظَهُ مِنْ نَومِهِ, وَبَقِيَ الأمرِيكِيُّ طَوَالَ فَترَةِ نَومِ النَّائِمِ مُندَهِشًا مُستَغرِبًا مُستَعجِبًا كَيفَ نَنَامُ هَذِهِ النَّومَةَ مِلْءَ جُفُونِنَا مُرتَاحِي البَالِ مُطمَئِنِّينَ, خَالِينَ مِنْ الهُمُومِ, لَسْنَا قَلِقِينَ, وَلا مُنْزَعِجِينَ؟!! وَلَمَّا استَيقَظَ صَاحِبُنَا وَاستَيقَظْنَا جَمِيعُنَا تَحَلَّقْنَا حَولَ الأمرِيكِيِّ؛ فَسَألنَاهُ عَنْ سَبَبِ وُجُودِهِ بَينَنَا فَأجَابَ إِجَابَةً عَبَّرَ فِيهَا عَمَّا يُعَانِيهِ مِنْ ضِيقٍ وَيُحِسُّ وَيَشعُرُ بِهِ مِنْ ألَمٍ كُل إِنسَانٍ لَمْ تُحَلَّ عِندَهُ العُقْدَةُ الكُبرَى, أوْ عِندَمَا تُحَلُّ حَلاًّ غَيرَ صَحِيحٍ أيْ حَلاًّ لا يُوَافِقُ الفِطْرَةَ, وَلا يُقنِعُ العَقْلَ, وَلا يَملأُ القَلْبَ طُمَأنِينَةً. فَمَاذَا قَالَ يَا تُرَى؟
قَالَ: مَا تَركْتُ شَيئًا مِنْ مُتَعِ الدُّنيَا, وَلا مَلَذَّةً مِنْ مَلَذَّاتِ الحَيَاةِ, وَلا شَهْوَةً مِنْ شَهَوَاتِ النَّفسِ إِلا لَبَّيتُهَا وَحَقَّقْتُهَا لِنَفْسِي؛ كَي أحْصُلَ عَلَى السَّعَادِةِ الكَامِلَةِ وَالهَنَاءِ التَّامِّ, غَيرَ أنِّي لَمْ أذُقْ طَعْمَ الهَنَاءِ وَلا الرَّاحَةَ ولا الهُدُوءَ وَلا الاستِقَرَارَ لا فِي نَومٍ وَلا فِي يَقَظَةٍ, وَلا فِي وُقُوفٍ وَلا فِي جُلُوسٍ أو قُعُودٍ, أكَلْتُ جَمِيعَ أصْنَافِ الطَّعَامِ, وَشَرِبْتُ جَمِيعَ أصْنَافِ الشَّرَابِ, وَعَاشَرْتُ النِّسَاءَ مِنْ مُخْتَلِفِ الجِنْسِيَّاتِ, نِمْتُ عَلَى جَمِيعِ أنوَاعِ الفُرُشِ مِنَ الحَرِيرِ وَالقُطْنِ وَالإِسفَنْجِ وَالزُّمبَرَكِيَّةِ وَالمَنفُوخَةِ بِالهَوَاءِ, ونمت على السُّرُرِ الدوارة بالكهرباء, وَنِمْتُ عَلَى الأضوَاءِ المُلَوَّنَةِ غَيرَ أنَّنِي لَمْ أذُقْ طَعْمَ الهنَاءِ وَلا الرَّاحَةِ, فَفَكَّرْتُ بِالانتِحَارِ مِرَارًا, وَقَدْ أرْشَدَنِي أحَدُ النَّاسِ إِلَيكُمْ؛ لأجِدَ الحَلَّ عِندَكُمْ, وَقَدْ رَأيتُ مَا رَأيْتُ فَمَا السِّرُ في ذَلِكَ يَا تُرَى؟!
إِنَّهُ لا شَكَّ وَلا رَيبَ يَكْمُنُ فِي حَلِّ العُقدَةِ الكُبْرَى, وَلَكِنَّنَا نُضِيفُ فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ هَذَا الإِحسَاسُ وَهَذَا الشُّعُورُ بِالهُدُوءِ وَالاطمِئْنَانِ أثنَاءَ النَّومِ فِي غِيَابِ دَولَةِ الإسلام, فَمَا ظَنُّكُمْ, وَمَا بَالُكُمْ كَيفَ يَكُونُ أثنَاءَ وُجُودِهَا؟!
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.
وسائط
1 تعليق
-
أعزكم الله واكرمكم ورحم شيخنا تقي الدين النبهاني