- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
الحلقة الثالثة والعشرون: القسم الثاني من البحث "الناحية العقلية: محاكمة قدرة الإنسان على التشريع"
للرجوع لصفحة الفهرس اضغط هنا
من هو الحاكم؟ لمن الحق في التشريع؟ لله تعالى أم للبشر؟
نتيجة لوجود سر الحياة في كل إنسان، كما في الحيوانات، وجدنا خاصيات معينة لا يمكن محوها نهائيا من هذا الكائن الحي، تدفعه إلى الميل للقيام بأفعال أو الميل للإحجام عن أفعال، منها ما لا يمكنه إلا أن يشبعها، ومنها ما لو لم يشبعها بقي قلقا، فما كان جزءا من الماهية، لا يمكن محوه ولا كبته وصفناه بأنه خاصية، ويتمثل بالغرائز والحاجات العضوية، وما أمكن محوه أو كبته سميناه مظهرا من مظاهر هذه الطاقة الحيوية.
وبالنظر إلى هذه الخاصيات والمظاهر رأينا أنها تفترق إلى طائفتين بحسب علاقتها بالاشباع، والمؤثر الذي يثيرها، فالحاجات العضوية تثار من الداخل عند جوعة الانسان إلى النوم أو إلى الطعام والشراب وما إلى ذلك مما لو لم يقم به وصل به الحال إلى الموت، فكان إشباعها حتميا، وإثارتها من الداخل.
ومنها الغرائز وهي ما كان إشباعها ككل وإن كان حتميا، بمعنى أن الانسان لا بد وأن يشبع مظهرا من مظاهرها على حساب مظهر آخر، (مثلا الخوف والشجاعة مظهران لغريزة البقاء)، والغرائز توجد على هيئة مظاهر، يمكن تجميعها في مجموعات ثلاث، غريزة الحفاظ على النوع، وغريزة البقاء، وغريزة التقديس أو التدين، وإشباع هذه المظاهر (الخوف، الشجاعة، الميل للجنس الآخر، حنان الأم... الخ) ليس بحتمي ولا يفضي عدم إشباعها إلى الموت.
ويتم إشباع الطاقة الحيوية بأحد الطرق الأربعة التالية:
إما بالاشباع الصحيح، أو بالاشباع الخطأ أو بالاشباع الشاذ أو أن لا تشبع أبدا.
وأوضح مثال يوضح ذلك مظهر الجنس من غريزة النوع، فهو إما أن يشبع من خلال الزواج وهو الإشباع الصحيح وفق الشرع الإسلامي، أو الإشباع الخطأ: من خلال الزنى، وفق حكم الشرع الإسلامي بأنه إشباع خطأ، أو الإشباع الشاذ، عن طريق زواج مثلي الجنس أو نكاح البهيمة، أو أن لا يتزوج الإنسان مطلقا ولا يقرب النساء وينصرف عن ذلك إلى الترهب أو العلم أو الاستعاضة عنه بحنان الأم.
والذي يحدد أن الإشباع صحيح أو خطأ هو القاعدة الفكرية التي يحكم من خلالها الإنسان، وإلا فلو كان الحكم فقط للمفاهيم عن الأشياء بمعزل عن المفاهيم عن الحياة لاستوى أمر الزواج والزنى.
أما الإشباع الشاذ، فيرجع لأن الإشباع يتم في جهة ليست محلا للإشباع، وهو ما يصرف عن النتيجة المرجوة في نهاية المطاف من مظهر الجنس في غريزة النوع، وهو الحفاظ على استمرار النوع، فهو شاذ لأنه لا يفضي إلى استمرار النوع عادة، فقد يحصل أن لا يفضي الزواج إلى أولاد، ولكن العادة أنه يفضي، لكن هذا لا يحصل في الإشباع الشاذ فتدبر.
يقوم الإنسان في هذه الحياة بأفعال تجاه الأشياء التي سخرها الله تعالى له في الكون، من أجل إشباع غرائزه وحاجاته العضوية، فسلوك الإنسان وراؤه دافع من حاجةٍ عضويةٍ أو غريزةٍ تدفعُه لإشباعها، فعندما يأكل إنما يأكل ليشبع جوعة البطن، وعندما يكون متخما ويأكل المزيد فإنما يلبي رغبته في التملك النابعة من مظهر التملك، في غريزة البقاء، وعندما يتزوج فإنه يشبع غريزة النوع، وعندما يزني الزاني أيضا فإنه يشبع غريزة النوع إشباعا خاطئا، بالحكم عليه من خلال العقيدة الإسلامية، وهكذا، وغني عن القول بأن السلوك ينضبط بمفاهيم عند الإنسان توجهه، فتضبط عملية الإشباع تلك بسياج من الضوابط الفكرية التي تمنع وتسمح، فالإنسان أرقى من البهائم التي لا يضرها أن تشبع الغرائز والحاجات العضوية بأي شكل من الأشكال!.
فكل تصرف في الحياة الدنيا إنما هو منطلق من دافع يرجع لإشباع مظهر غريزة أو حاجة عضوية تتطلب إشباعا. فالسلوك إذن هو أعمال الإنسان التي يقوم بها لإشباع غرائزه أو حاجاته العضوية. هذا السلوك إنما هو نتيجة مفاهيم تكونت عند الإنسان عن الأشياء، ومفاهيم تكونت لديه عن الكون والإنسان والحياة تضبط مفاهيمه عن الأشياء، وتضبط بالتالي عملية الإشباع وتحكم السلوك،
أما المفاهيم عن الأشياء، فهي أن الفواكه والنوم، والشراب والتنفس وما إلى ذلك تشبع حاجة الجسم العضوية، وأن المرأة تشبع غريزة الرجل، وأن الخوف من مظاهر غريزة البقاء لدى الكائنات الحية، وأن الإنسان يميل إلى إنقاذ الغريق إشباعا لغريزة النوع، وما إلى ذلك، فهذه كلها تكاد تكون المفاهيم عنها واحدة عند البشر، ويشترك في وجود مثلها مع الإنسان ( أي الحاجات العضوية والغرائز) الكائنات الحية أيضا، ولا يقول عاقل أن إنسانا يتميز على غيره بأنه يحب الخضروات أو أن إنسانا أخفض من غيره لأنه لا يشرب كثيرا من الماء، ولكن الإنسان الذي يجعل تفكيره في الحياة مقصورا على مثل هذه المفاهيم، ويسير سلوكه في الحياة، أي أفعاله المنبثقة عن مفاهيمه عن الأشياء بناء على تلك الأفهام عن واقع تلك الأشياء فقط، فلا يربطها بأفكار أخرى عن الحياة لا شك أنه إنسان منخفض.
لذلك ففهم واقع الشيء (ماهيته، حقيقته، خصائصه وصفاته)، يرجع للعقل، ويتم بالمشاهدة أو بإخضاع المادة للتجربة، ونتيجة هذه التجارب ظنية، تقارب في التوصل إلى الماهية ولكنها لا تصل اليقين[1]، وينتج عن عملية ربط الواقع بالمعلومات السابقة عنه في الدماغ، وإنتاج الفكر الذي يفسر هذا الواقع ما هو! على أن الفكر الناتج عن ماهية الأشياء فكر ظني لا يحيط بها بشكل قطعي، لأن مادته حقائق الأشياء وصفاتها والتجربة والقياس فيهما نسبة مهما تضاءلت من الخطأ، بخلاف الفكر الذي يبحث في وجودها المقابل للعدم، فهو قطعي. وهذا الفكر المنخفض لا يصلح أساسا لإقامة تشريعات تسمح وتمنع، وذلك للأسباب التالية:
[1] فكم من بحث أثبت ضرر القهوة، وكم من بحث أفاد فوائدها الجمة، وكم من بحث تبين بعد حين خطؤه، أو انطباقه على زيد وعدم انطباق نتائجه على عبيد، وهكذا!