الثلاثاء، 24 محرّم 1446هـ| 2024/07/30م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
تأملات قرآنية (21) (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

تأملات قرآنية (21)
(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)

 


إخواننا الكرام, أخواتنا الكريمات:


أيها المؤمنون والمؤمنات: الصائمون والصائمات:


مستمعينا الكرام مستمعي إذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير:


نحييكم بأطيب تحية: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله القائل في محكم كتابه وهو أصدق القائلين: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) والصلاة والسلام على رسول الله القائل: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين". ثم أما بعد: فتعالوا معنا أحبتنا الكرام, وهلم بنا نحن وإياكم نتجه إلى مائدة القرآن الكريم نتأمل ونتدبر آياته جل وعلا عسى أن ينفعنا ويرفعنا بما فيه من الذكر الحكيم إلى أعلى الدرجات في جنات النعيم, إنه ولي ذلك والقادر عليه. ومع الآية التاسعة والستين الأخيرة من سورة العنكبوت. يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّـهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾. ﴿العنكبوت ٦٩﴾.


معاشر المؤمنين والمؤمنات:


قال نخبة من المفسرين: "والمؤمنون جاهدوا أعداء الله, والنفس, والشيطان, وصبروا على الفتن والأذى في سبيل الله, سيهديهم الله سبل الخير, ويثبتهم على الصراط المستقيم, ومن هذه صفته فهو محسن إلى نفسه وإلى غيره, وأن الله سبحانه وتعالى لمع من أحسن من خلقه بالنصرة والتأييد والحفظ والهداية". ونقول وبالله التوفيق: إن أول ما يتبادر إلى ذهن المرء حين يسمع كلمة (جَاهَدُوا) هو مقاتلة أعداء الله الكفار, ولكن ليس هذا هو المعنى المقصود هنا في هذه الآية الكريمة بالذات, وإن كانت لفظة (جَاهَدُوا) تحتمل معنى (مقاتلة الكفار) كما أشار إلى ذلك النخبة من المفسرين في تفسيرهم الميسر. بل المقصود كما فهمت من خلال قراءتي واطلاعي على ما كتبه سيد قطب رحمه الله في ظلال القرآن عن سورة العنكبوت هو أن من بذل أقصى ما في وسعه من جهد وهو يبحث ويسعى للوصول إلى طريق الحق في حمل الدعوة, وتبليغ رسالة الإسلام إلى العالم؛ فإن الله تعالى سيهديه إلى سبل الخير التي توصله إلى ما يُرضي الله تعالى. هذا ما فهمته، والله تعالى أعلى وأعلم.


ولو توجهنا بالسؤال الآتي إلى إخواننا الذين حملوا الدعوة مع العاملين المخلصين من شباب حزب التحرير وقلنا لهم: كيف هداكم الله إلى طريق حمل الدعوة مع هذا الحزب؟ لأجابك كل واحد منهم ذاكراً لك قصة حقيقية غريبة وعجيبة مرت به, لا تملك إذا سمعتها إلا أن تقول: سبحان الله! ثُمَّ تتلو قول الله جل في علاه: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّـهُ﴾. ﴿الأعراف ٤٣﴾.


إن سورة العنكبوت من السور التي تعالج نفسية حامل الدعوة - إن هو تدبرها تدبرًا واعيًا - فتجعل موقفه ثابتًا وراسخًا رسوخ الجبال الراسيات أمام الطغاة جلاوزة الحكام, الذين يصدون عن سبيل الله, ويبغونها عوجا, هذه السورة من أولها إلى آخرها تتحدث عن الإيمان والثبات عليه, وعن وتبعاته وتكاليفه. كما تتحدث عن سنة الله تبارك وتعالى التي لا تتخلف على مر العصور والأزمان ألا وهي ابتلاء حملة الدعوة المؤمنين به سبحانه وتعالى.


معاشر المؤمنين والمؤمنات:


تعالوا بنا نعيش وإياكم هذه الأجواء الإيمانية في ظلال سورة العنكبوت من خلال قراءتنا لما كتبه سيد قطب رحمه الله تعالى عن هذه السورة فهو يقول: سورة العنكبوت مكية. وقد ذكرت بعض الروايات أن الإحدى عشرة آية الأولى مدنية. وذلك لذكر"الجهاد" فيها وذكر "المنافقين", ولكننا نرجح أن السورة كلها مكية. وقد ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد بن أبي وقاص كما سيجيء. وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال. وهذه الآية ضمن الآيات الإحدى عشرة التي قيل إنها مدنية. لذلك نرجح مكية الآيات كلها. أما تفسير ذكر الجهاد فيها فيسير؛ لأنها واردة بصدد الجهاد ضد الفتنة. أي جهاد النفس لتصبر ولا تفتن. وهذا واضح في السياق. وكذلك ذكر النفاق فقد جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس. والسورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام.


إنها تبدأ بعد الحروف المقطعة بالحديث عن الإيمان والفتنة, وعن تكاليف الإيمان الحقة التي تكشف عن معدنه في النفوس. قال تعالى: ﴿ الم ﴿١﴾ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴿٢﴾ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾. فليس الإيمان كلمة تقال باللسان, إنما هو الصبر على المكاره والتكاليف في طريق هذه الكلمة المحفوفة بالمكاره والتكاليف, ويكاد هذا أن يكون محور السورة وموضوعها; فإن سياقها يمضي بعد ذلك المطلع يستعرض قصص نوح وإبراهيم ولوط وشعيب, وقصص عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان, استعراضًا سريعًا يصور ألوانا من العقبات والفتن في طريق الدعوة إلى الإيمان. على امتداد الأجيال. ثم يعقب على هذا القصص وما تكشف فيه من قوى مرصودة في وجه الحق والهدى, بالتصغير من قيمة هذه القوى والتهوين من شأنها, وقد أخذها الله جميعا:

 

﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾. ويضرب لهذه القوى كلها مثلا مصورا يجسم وهنها وتفاهتها: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّـهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾. ويربط بعد ذلك بين الحق الذي في تلك الدعوات, والحق الذي في خلق السماوات والأرض, ثم يوحد بين تلك الدعوات جميعا ودعوة محمد صلى الله عليه وسلم فكلها من عند الله. وكلها دعوة واحدة إلى الله.

 

ومن ثم يمضي في الحديث عن الكتاب الأخير وعن استقبال المشركين له؛ وهم يطلبون الخوارق غير مكتفين بهذا الكتاب وما فيه من رحمة وذكرى لقوم يؤمنون. ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾. ويتناقضون في منطقهم: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾. ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّـهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾. ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾. ولكنهم مع هذا كله يشركون بالله ويفتنون المؤمنين. وفي ثنايا هذا الجدل يدعو المؤمنين إلى الهجرة فرارا بدينهم من الفتنة, غير خائفين من الموت, إذ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾.غير خائفين من فوات الرزق: ﴿وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّـهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.


ويختم السورة بتمجيد المجاهدين في الله وطمأنتهم على الهدى وتثبيتهم: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّـهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾... فيلتئم الختام مع المطلع وتتضح حكمة السياق في السورة, وتماسك حلقاتها بين المطلع والختام, حول محورها الأول وموضوعها الأصيل. ويمضي سياق السورة حول ذلك المحور الواحد في ثلاثة أشواط:


الشوط الأول يتناول حقيقة الإيمان, وسنة الابتلاء والفتنة, ومصير المؤمنين والمنافقين والكافرين. ثم فردية التبعة فلا يحمل أحد عن أحد شيئا يوم القيامة: ﴿وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾. والشوط الثاني يتناول القصص الذي أشرنا إليه, وما يصوره من فتن وعقبات في طريق الدعوات والدعاة, والتهوين من شأنها في النهاية حين تقاس إلى قوة الله. ويتحدث عن الحق الكامن في دعوة الرسل, وهو ذاته الحق الكامن في خلق السماوات والأرض. وكله من عند الله. والشوط الثالث يتناول النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى. إلا الذين ظلموا منهم. وعن وحدة الدين كله, واتحاده مع هذا الدين الأخير الذي يجحد به الكافرون, ويجادل فيه المشركون. ويختم بالتثبيت والبشرى والطمأنينة للمجاهدين في الله المهديين إلى سبل الله: ﴿وَإِنَّ اللَّـهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾... ويتخلل السورة من المطلع إلى الختام إيقاعات قوية عميقة حول معنى الإيمان وحقيقته تهز الوجدان هزا. وتقفه أمام تكاليف الإيمان وقفة جِدٍّ صارم; فإما النهوض بها, وإما النكوص عنها. وإلا فهو النفاق الذي يفضحه الله... وهي إيقاعات لا سبيل إلى تصويرها بغير النصوص القرآنية التي وردت فيها. فنكتفي بالإشارة إليها هنا حتى نستعرضها في موضعها مع السياق. ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - مواصلا حديثه عن حملة الدعوة الثابتين على الحق: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّـهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. فإذا كتب الله على المؤمنين الفتنة وكلفهم أن يجاهدوا أنفسهم لتثبت على احتمال المشاق, فإنما ذلك لإصلاحهم, وتكميلهم, وتحقيق الخير لهم في الدنيا والآخرة. والجهاد يصلح من نفس المجاهد وقلبه; ويرفع من تصوراته وآفاقه; ويستعلي به على الشح بالنفس والمال, ويستجيش أفضل ما في كيانه من مزايا واستعدادات. وذلك كله قبل أن يتجاوز به شخصه إلى الجماعة المؤمنة, وما يعود عليها من صلاح حالها, واستقرار الحق بينها, وغلبة الخير فيها على الشر, والصلاح فيها على الفساد. ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾. فلا يقفن أحد في وسط الطريق, وقد مضى في الجهاد شوطا; يطلب من الله ثمن جهاده؛ ويمن عليه وعلى دعوته, ويستبطئ المكافأة على ما ناله! فإن الله لا يناله من جهاده شيء. وليس في حاجة إلى جهد بشر ضعيف هزيل: ﴿إِنَّ اللَّـهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. وإنما هو فضل من الله أن يعينه في جهاده, وأن يستخلفه في الأرض به, وأن يأجره في الآخرة بثوابه. وهنا نستأذنكم إخواننا الكرام وأخواتنا الكريمات في أن نقفز قفزة بعيدة في القراءة إلى نهاية السورة وذلك طلبا للاختصار.


يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: "الهداية ثمرة الجهاد". ويختم الله تعالى السورة بصورة الفريق الآخر. الذين جاهدوا في الله ليصلوا إليه; ويتصلوا به. الذين احتملوا في الطريق إليه ما احتملوا, فلم ينكصوا ولم ييأسوا. الذين صبروا على فتنة النفس وعلى فتنة الناس. الذين حملوا أعباءهم وساروا في ذلك الطريق الطويل الشاق الغريب.. أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع إيمانهم, ولن ينسى جهادهم. إنه سينظر إليهم من عليائه فيرضاهم. وسينظر إلى جهادهم إليه فيهديهم. وسينظر إلى محاولتهم الوصول فيأخذ بأيديهم. وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم خير الجزاء: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّـهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾. وقبل الختام نقول: نستنتج ونستنبط من الآيات الكريمة أن الهداية إلى طريق الحق في حمل الدعوة نوعان: هداية دلال وإرشاد وتوجيه إلى الطريق الصحيح, وهداية تثبيت وتسديد وعون وتوفيق إلى الوصول للهدف المطلوب, والغاية المنشودة.


معاشر المؤمنين والمؤمنات: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة:


اللهم اجعل شهر القرآن الكريم هذا, شهر عز ونصر وتمكين للإسلام والمسلمين بقيام دولة الخلافة الثانية على منهاج النبوة, واجعلنا اللهمَّ ممَّن يتدبرون آياتك, فيأتمرون بأمرك, وينتهون عن نهيك: يستمعون القول فيتبعون أحسنه, ويقدرونك حق قدرك, ترضى عنهم, ويرضون عنك, واجعلنا اللهم ممن تقبلت منهم الصلاة والصيام, والدعاء والسجود والقيام, ومن عتقائك في هذا الشهر الكريم من النار, وأدخلنا الجنة مع الأبرار, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

آخر تعديل علىالخميس, 14 أيار/مايو 2020

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع